" الدخان" تجربة روائية جيدة.. تشير إلي موهبة ومعالم نضج فني مبكر طاقة ورغبة عارمة مضطرمة لدى الكاتب ضياء الدين عثمان في انجاز مقاربات سردية للعالم وفي التحقق السردي- (ما يسميه [الناقد المغربي] يقطين بالهوية السردية بوصفها جسرا لتجاوز كافة الهويات الأخرى المكبلة لانطلاقات الذات في الهواء الكوني-الإنساني العريض).
" الدخان “تجمع و تتحرك -مهمومة بتحريك جملة من الممكنات- في اتجاه أن تحقق ذاتها السردية من خلال تشغيل شبكة من الأدوات: النقر الدائم على الذاكرة عبر تكنيك الاسترجاع الذي تتيحه الفلاش-باكات متخذة من محوري الأحداث (الخرطوم وقرية "أم بشوشة" المتخيلة) نقطتي انطلاق جيئة وذهابا. وضمن هذا المسعى التحقّقي, يلاحظ رج الرواية لرتابة الزمن التسلسلي بإصرار عبر تكسير وتقطيع زمني متواصل متجلٍ في أحداثها وفي تقسيم فصولها بطريقة لافتة وغير تقليدية، إذ تبدأ الرواية بالفصل "بعد الأخير "ثم يليه الفصل "قبل قبل الأخير"، وتظل تكرر بعض أسماء الفصول مع إضافات دالة هنا وهناك على الطريق المتعرجة. وهكذا تدور فصول النوفيلا على ظهر ذاكرة ملتهبة جامحة تقفز إلى الأمام كرةً وتنثني راجعة مرات؛ ساعية خلال العملية إلى تحقيق ما أمكن من اندغامات زمكانية-طاقية (سودانياً هذا الشكل من الشغل الذاكراتي المدّور هو المحبب لدى الكاتب الكبير[السوداني] عيسى الحلو ويتجلى في العديد من أعماله).
كذلك يلفتك في الرواية توظيفها لطاقة "الدخان" ورمزيّاته وإحالاته ومجازاته "المدنكلة"؛ وهى مجازات يرسمها خليل (الشخصية المحورية في الرواية) بنفسه ويكيّفها بطريقة ما لكل موقف. يظل دخان سجارة البينسون للبطل المحزون والمعتملة دواخله بنار الرغبة في التغيير.. خليل عبد الله المستكاوي.. هو بندول ساعة الأحداث الكبيرة ويجسد طاقة هائلة مزدوجة للشحن والتفريغ في آنٍ واحد. وحيثما تتصاعد وتتسامى وتتلوى "ثعابين الدخان"- كما يسميها خليل- في مرايا السقوف البلدية وفي الفراغات و الأهوية الطليقة, تتجمع وتتكاثف, في الوقت ذاته, في دواخل خليل رؤية معينة ورغبة ما.. في فعل ما. غامض (وهو يعلن : "لن أتوقف بعد الآن. سأوجهه وسألوح له بالتسجيل الذي سجلته في العشة.. سأذهب إليه وسأعلن عليه الحرب... تعجبت (أم بشوشة) كلها من أمره وهو ذاهب ليحدد مصيره!" (ص. 168), قاصداً غريمه سليمان-محور الشر الذي يريد أن يقضي عليه. وتحت سماء ثعابين الدخان المتلوية في السقف الخشبي العتيق, يمارس الشاب القلِق خليل تأملاً عميقاً في محددات الأشياء وفي فرص انطلاقها وبطئها وعجلتها ويأسها وآمالها( كان ينفث الدخان إلى أعلى ويتأمله, كان الدخان ينتشر في كل مساحة في السقف, وثعابين الدخان البيضاء الخارجة من جحر سجارته كانت تتلوى.. إلى أين تسير الأقدار بهذا الدخان؟! هل سيلتصق بشبكة العنكبوت المنصبة في السقف؟! أين ذراته؟! أتأخذها الرياح إلى مكان ما؟!). وفي لحظة تبغ عبقة مع صديقه "المجنون" النذير يكتشف خليل سر الحادث الذي أسفر عن وفاة والديه (كانا يدخنان، نظر النذير إليه عدة مرات قبل أن يقول له أريد أن أخبرك شيئا لا تعرفه.. عن الحادث)، وفي لحظة أخرى يدرك خليل (أن المعركة الحقيقية ليست بين سليمان والقرية بل المعركة الحقيقية بينه وبين سليمان. ص 147). وكذلك في لحظة دخان ملحمية أخرى في ليلة يتورط فيها خليل في جريمة قتل سليمان الغامضة.. قبيل لحظة العراك الكارثي نقرأ(كان البرد قارصاً فأخرج صندوق سجائره. كانت قد تبقت ثلاث سيجارات فقط. أشعل واحدة وترك ذهنه يسرح بعيدا، ولم ينتبه إلا و(فوزية) تقعد على كرسي قربه. سألته: متى تعلمت التدخين؟). وتتكرّر لحظات سحائب الدخان الغائمة في مواقف عديدة مهمة يرى خليل أو يتصور أو يحادث فيها (سليمان أو النذير أو الخضر أو فوزية أو صديقه الخرطومي الواثق أو معلمه في المدرسة أستاذ فتح الرحمن).. وهكذا حتى تنتهي سيرة الدخان الملازمة للفعل واللّافعل، السيرة التي تشتغل بين فراغات الٌإقدام والتردد. و حين يتم أخيراً القبض على البطل خليل ويأخذه الشرطي في عربته للتحقيق بعيداً عن (أم بشوشة) نراه يدخن للمرة الأخيرة في حياته (ِشقت العربة طريقها في الصحراء. أخرج صندوق سجائره. كانت قد بقيت سجارة واحدة.. طلب من العسكري أن يشعلها له ففعل... كانت تلك آخر مرة يدخن فيها (خليل عبد الله المستكاوي)؛ وهى عبارة تنتهي بها الرواية كلها من فصلها الأول.
ولا تخلو الرواية من ذبذبات وإحالات للصراع الاجتماعي المحوري فيها بين خليل-القرية وسليمان-السلطة. ومن ذلك ما تشف عنه إحالات "التبغ" إلى مشكلات الطبقة الوسطى والذات المبدعة بحسبان ارتبط التدخين بمبدعين كثر عالمياً وعربيا ومحلياً (راجع التحقيق الممتع الذي أجرته صحيفة الفيصل عن التدخين والكتابة بعنوان "النيكوتين" للصحفي سامر إسماعيل 28/1/2018). بيد أن السيجارة هاهنا إشاراتها مزدوجة؛ فهي تشير للنيوءة (مصدر نيء)/الفجاجة والعمق معاً، لامتلاء الأشياء بأحلامها الوهيطة وتبخرها جهيضة في الوقت ذاته. وفي الرواية كذلك توظيف للنظام المرجعي العربي reference system)) في التقديم والتأخير ونحو ذلك من آليات التركيز والإظهار، وهى آليات تستخدم في الشعر أكثر منها في السرد، وحين تأتي في الرواية تسهم بقدر ما في شعرنتها.
وليس غريبا إذن أن تنال "الدخان" جائزة حورس الإسكندرية للسرد العربي ٢٠١٤.
الدخان .. تروي بمتعة سيرة صغيرة للحزن والحيرة والأمل.. سيرة لشاب ذي لقلب كبير يكابد عذابات التغيير واستحالات الحلم الكبير وانفلاتاته من بين الأصابع.
تجدر الإشارة -في ختام هذه المقاربة الكبسولية - إلى أن الكاتب ضياء الدين عثمان (وهو مهندس كيميائي وبيئي) كان قد أصدر قبل رواية "الدخان 2015"، "غيابة الجب 2013"، وبعدها أصدر ثلاث روايات أخرى هي: "عن أشياء 2019" و "إني رأيت 2020". ولديه بجانب ذلك، مجموعات من القصص القصيرة والمسرودات التي لم تنشر بعد.. وهو يشتعل راهناً على رواية خامسة.. تحاول أن تشكل في مجموعها مشروعه السردي وأسطورته الصغيرة الخاصة به عن ذاته ووطنه والعالم, فكلنا نصنع "أساطيرنا" الخاصة بنا كما يقول بعض السايكلوجيين.