مقدمة: السينما بوصفها محاكاة للواقع، يمكن أن تقع موضوعا للتحليل، و تدرج الأحداث من حلقة إلى أخرى في زمان ومكان مخصوصين، وبتدخل شخوص ذات مواصفات معبر عنها أو معبرة عن ذاتها، يمكن أن يكون محل تمحيص وتدقيق نظر، إنها بهذا المعنى أي السينما لغة أو شكل تعبيري، بل هي عالم يتميز بخصوصيات عدة لكنه يظل على اتصال بالواقع وبحياة الناس، من خلال ذلك الخيط الدقيق الذي هو التعامل بنفس عملة الواقع؛ فهو يصور واقع حياة الناس منضبطا للمتعارف عليه من الأسباب والنتائج. ولا يكسر منطق السبب والنتيجة في شيء إذ أنك لا يمكن أن تجده يعطي السلطة وقوة الظهور لغير أهلها، ولا العيش على هامش الحياة لغير الشخوص الذين يلقون ذلك المصير في الواقع مثلا... وزيادة عن البعد الواقعي لأي عمل سينمائي تلفزي ( مسلسل، فيلم، فيلم قصير...) يحضر البعد الفني الذي من خلاله تتجلى خواص السينما كفن؛ ففي هذا المستوى تكمن الرسالة التي يختزنها العمل السينمائي، وفيه يتم العمل عليها. من مثل: توجيه المتلقي إلى نوع من الفهم المخصوص، أو إطلاق عنان التأويلات حسب تنوع فئة المتلقين...إلخ. وهو أمر يعتمد أساس على رؤية المبدع للعالم وثقافته و مبادئه.
يمكن أن يمثل العمل السينمائي ثورة على بعض التقاليد الوثنية في مجتمع ما، فيتوسل في تحقيق ذلك بتقديم الواقع كما هو ليتولى في خضم ذلك وبطريقة فنية قلب هذا الواقع وجعله ناطقا بعيوبه بنفسه. كما قد يعبر العمل الدرامي السينمائي عن ثورة عن التحديث المبالغ فيه، وقد يضرب بنيان مكانة ذي مكانة اجتماعية... وهو في كل ذلك لا يستطيع أن ينسلخ في أغلب الحالات عن أشياء ك"السلطة" و "المقدس" "الاصل الاجتماعي" ولا غنى له عن استدماجها بوصفها مفاهيم ومقاييس اجتماعية أو استدماج بعضها في نسيجه التعبيري.
هذا، وتشكل السطور الموالية محاولة فهم عمق عمل إبداعي أنتجته الشركة والوطنية للإذاعة والتلفزة أكتوبر 2019، اعتمدت فيها على مفاهيم تؤسس للتحليل وتكون منطلقات له، هذه المفاهيم هي " السلطة" "المقدس" "الأصل الاجتماعي" وقد كان العمل مولودا انضاف إلى سجل "يوسف بريطل" المخرج الشاب المكرم في مهرجان مراكش الدولي للسينما دورة 2015 عن فيلمه "المسيرة الخضراء"، كما أن صاحب الفكرة السيناريو هو عثمان صديق صاحب رواية" "البتول"، ابرز الممثلين: بطل القصة عبد الللطيف شوقي، السعدية أزكون، محمد الشوبي، هاجر كريكع، محمد خيي...
" المداني" لسلسلة كوميدية تاريخية تتكون من أربع حلقات، كل حلقة تمتد ل 45 دقيقة من الزمن، يستحضر هذا العمل الموروث الثقافي المغربي القديم، مع المزج بين الأسطوري والواقعي في قالب مليء بالمواقف الفكاهية.
1- المقدس واسترتيجيات تدبيره:
يتنزل المقدس في السيناريو السينمائي للعمل الذي نود الاقتراب منه في هذا السياق منزلة بالغة الأهمية، ومؤشرات ذلك بادية منذ بداية العمل، يتعلق الأمر بداية بالعنوان: ( لمْدني) ففي هذا العنوان أو التسمية تتخزن دلالات التاريخ ومعاني جغرافيا الوحي والنبوة، التي ورثت الارتباط والتواشج بين المشرق والمغرب. والذي تنتظمه إطارات دينية وثقافية في أحيان كثيرة، وأحيانا أخرى اقتصادية وتجارية، مغلفة بهالات من السحر والحلم بالثراء والسطوة. ففي هذا العمل الدرامي تظهر المدينة المنورة مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم في صورة سطوة ساطعة في العقول إلى درجة أن نسبة مسمى إلى هذا المكان المبارك إمتد إلى خلجان الرؤية النذرية تجاه الانجاب، أي ما يعرف بقطع نذور لله تعالى على النفس حال تحقق مطلوب،كما هو ظاهر أنه قد تسلل إلى وعي أهل المغرب. وهي رؤية ترسم ملامح الحل فيما يتصل بالرزق، وكسب الثروة بالنسبة لمن كان قليل الدخل والإنفاق، أيضا( الشاوي). وإن شئنا القول إن هذه التسمية اقترنت في لاوعي مشبع بتقديس مهبط الوحيين الشريف، بدلالات الانتشاء بالنسب والحسب الشريفين لمن لا حسب له ولا نسب، وإن كان ذلك من جهة البنوة لا من جهة الأجداد ليستغني عن نواقصه بمعنى من المعاني( الشاوي بياع الحمير).
يرتبط اسم المدني في لا وعي من هذا النوع بمعنى وبصفة كان لها الدور الأساس في تشكيل الإطار الخارجي لأحداث السلسلة؛ هذا المعنى هو تحديدا كون المدني ولد الشاوي إنسان صاحب مغامرات وخبرات حياتية نتيجة ارتحاله ومصادفته للأجناس الأخرى، التي لم يكن للعوام من قبيلة المساليط علم بهم إلا لماما
دار لالة سلطانة: عملا بمبدأ اللايقين الذي تفرضه قراءة الإنتاجات الفنية التي من المستبعد جدا أن يكون همها اجترار الواقع ونقله عبر الصور إلى ذهن المتلقي من غير استهداف تمرير رسائل معينة تعكس تصور الجهة المبدعة أو توجه جيلا من المشاهدين إلى فهم بعض ظواهر المجتمع فهما مخصوصا، يفرض التساؤل حول مدلول "دار لالة سلطانة"، فلالة سلطانة ودارها حسب تؤشر عليه مركزيتهما في تحريك دواليب الأحداث بقبيلة لمساليط ليستا في واقع الأمر سوى الجزء الظاهر من الجبل الجليدي العائم في اللاوعي الجمعي للمجتمع، كلما تقدمت الأحداث وتوالت الحلقات كلما تكشف الخفي منها.
لالة سلطانة النموذج المكافئ موضوعيا لعدد من النماذج التي تظهر صورة معتقد المجتمع المغربي في قوة وقدرة الأموات دون الأحياء، الأمر الذي يفسر وفقه كل شيء بتقلب حال الموتى، ما يجعل الأفراد يمارسون نوعا من الوصاية الأبوية البريئة على بعضهم في مايتصل باحترام وتقديس حرمات بيوتات الموتى دون إيلاء بيوت الأحياء نفس التقديس والاحترام. ونموذج ذلك من عوام الناس المنقادين لما وجدوا عليه آباءهم ( "العربي" صديق "لمدني"). وممن يمارسون الوصاية المغرضة في صورة رقابة رسمية عون السلطة( شيخ قبيلة لمساليط) حيث يسعى هذا الأخير إلى تحصين مكانته وهيبته في المكان والزمان، من خلال تنصيب نفسه حاميا وساهرا على تدبير شؤون "دار لالة سلطانة" ( أخيار المريدين الحالين بموسم لالة سلطانة ينزلون بمنزل الشيخ...)
لالة سلطانة المكان المغلق أو بالأحرى الممتنع عن الفتح أو حتى الغاضب، أشياء تظهر ثقافة الاعتقاد بصمود ما يسمى "النية" مقابل "الحيلة"، والتي تشمل دائرتها هذه المرة الوجود الوحيد الذي كان من الممكن أن يستثنى هنا وهو السلطة المحلية، والتي يبدوا انها ترضخ بشكل أو بآخر هي الأخرى لمسلمة "مول النية يغلب". دار لالة سلطانة هي أيضا المكان الذي يملك ما يكفي من القوة التي يمكنها أن تعري واقع السلطة السياسية( خوف الساهر على شؤون دار لالة سلطانة/ شيخ قبيلة لمساليط نفسه من غضبها عليه وجبنه على تجاوز أسوارها.)
2 السلطة:
- أنواع السلط و تراتبيتها: تتوزع السلط في الواقع الدرامي لهذا العمل بين سلط رئيسية هي السلطة الدينية: مبثوثة في شخوص عدة ( الفقيه، ...) والسلطة السياسية التي تمثلها شخوص( المقدم...، ومرسول سيد الوالي...) وبين سلط ثانوية ذات الأثر الجم: سلطة المقدس، وسلطة الجرأة والحيلة، فالمقدس( دار لالة سلطانة) في مقابل الجرأة والحيلة ( تجربة المدني، ومهارة راوي الحكايات الليلية ) هذه السلط كما يصورها العمل الذي بين أيدينا ليس أبدا كما نعيش واقعها يوميا، إنها لم توضع لتنقل لنا الواقع من محسوسيته فحسب، لكنها في الحقيقة صنعت أمام أعيننا عالما بموازين جديدة، أو بالأحرى نستطيع أن نلاحظ عليه جدة هذه الموازين، فقد ارتكست السلطة السياسية في أبرز تجليتها ( مقدم قبيلة المساليط، ومرسول سيد الوالي) لتطفو على السطح سلطة ثانوية هي سلطة الحيلة والجرأة، فهذا مقام مرسول سيد الولي يُنتحل ليستخدم لأهداف شخصية في مشهد انتصار صارخ للحيلة، وذاك "شيخ قبيلة لمساليط" يشتري الحمار نفسه من السارق مرات ومرات دون أن يدري، ويستسلم لحيل "لمدني ولد الشاوي بياع الحمير" غير ما مرة. كما أن السلطة الدينية أحنت ظهرها لسلطان المقدس ( دار لالة سلطانة ) فهذا "الفقيه" يظهر خوفه من مقام لالة سلطانة، في صورة صريحة. ويقف عاجزا عن فك طلاسم الحيل التي حاكها "لمدني" بل وحتى عن تحقيق الحب في حياته( حبه لبنت الشاوي) ومنها يأتي الحديث عن سلطة تصارع جميع السلط من غير إراقة قطرة دم. وتفرض وجودها بشكل أو بآخر . إنها سلطة الحب والصداقة( بين المدني والعربي، بين المدني والجان، بين قراط العبد وبنت الشاوي الصغرى...)
- السلطة السياسية: ( الشيخ، مرسول سيد الوالي،...)يبدو أن شخوصا ك"شيخ قبيلة المساليط" وعلى المستوى المحلي، و"مرسول سيد لوالي" على المستوى الجهوي؛ هم من لهم الحظوة والسطوة؛ فطبيعة سلطة الأول كما يصورها هذا العمل الدرامي، تلوح ملامحها في الأفق بداية من عش الزوجية للشيخ حيث الاستبداد يملأ علاقاته بأقرب المقربين إليه شريكتا حياته، كما تطغى مغازلات المصلحة، التمييز على أساس لا إنساني بين زوجة حديثة العهد بالبيت، وأخرى هي من أقامت قواعده مع الزوج ساعدا بساعد... لتصل هذه السطوة على نطاق واسع إلى حدود الجشع الذي اعترى تدبير ماء العين الوحيد بالمنطقة والذي تتشاركه قبيلة المساليط قبائل أخرى مجاورة، ولا باس أن نذكر هنا أن القاهر الذي وقف في وجه جشع شيخ قبيلة المساليط ليس هو السلطة الدينية، وليس هو السلطة السياسية نفسها؛ التي ظهرت وهي تعتمد التدبير الممركز ترسيخا للتمييز بين المركز والهامش... وإنما هو سلطان الحيلة الذي جاء به المدني ولد الشاوي عندما عندماتنكر وادعى انه هو مرسول سيد الوالي و هو وإن حاز الوجاهة في القبيلة والنسب والحسب إلا أنه تم إلصاق صفات العقم والجبن والجمود وخشية ركوب الأخطار وأنه شخص لم يفلح في تحقيق زواج من حب حياته "بنت الشاوي الصغرى" رغم لجوءه إلى العنف.
أما "مرسول سيد الوالي" الذي ظل ظهوره حلما لدى القبائل املا في الخلوص إلى حل لإحدى اعقد مشكلات مجالهم والتي هي الماء، فإنه وإن كان يصوره بصفته الفيصل و ان حكمه فيه خير و صلاح، إلا انه بشكل غير مباشر يظهر فسادا في التدبير يبدأ مركزة القرارات و عدم اعتماد اللامركزية، وينتهي عند تأخر الفصل في عديد القضايا التي هي بحاجة إلى الحل بصورة مستعجلة.
ج) السلطة الدينية: يبدو أن سلطان الحيلة يقدم في هذا العمل بوصفه ذلك الشيء الكاشف الذي يعري السلطة السياسية و السلطة الدينية معا، ويكشف حقيقتهما غير أن إعطاء الاولوية للسخرية من السلطة السياسية جعل السلطة الدينية ضئيلة البروز إلا من بعض المرات القلائل حين ظهورها متوسلة بسلطان الحيلة لتنتقم من قهر السلطة السياسية كما في مشهد تنكر فيه المدني وظهر على هيأة رجل صالح مولاي عمار أو غيره... أو منساقة لها كما في المشاهد التي كان يخدع فيها المدني الكل لينجو بنفسه والتي تكررت غير ما مرة واحدة.
3 - الأصل الاجتماعي ( النسب والحسب):الأصل الاجتماعي أو النسب الشريف رأسمال في يد فئة دون اخرى حتما كما هو معهود في واقع حياة الناس وهو مفهوم مركزي في تحليل أسباب النجاح وتحقق السطوة لدى البعض دون غيرهم وعليه واعتبارا لخصوصيات التناول السينمائي للموضوعات فإن حضور مفهوم الاصل الاجتماعي لا يتخذ في اغلب الأحيان مظهرا موحدا و المقصود هنا أن يؤدي دائما كسبب إلى نتيجة الظهور الكامل للجهة التي تحوزه أيا كانت لأن ذلك يبقى محل اختيار المبدع و هدفه ورسالته في عمل درامي أو آخر.
وعند تدقيقنا النظر في مثال وحيد من هذا العمل الذي نحن بصدد قراءته ( مسلسل المدني) نجد إن النسب الشريف لم يسند لأبطال السلسلة أو بالأحرى لبطلها الوحيد: " المدني ولد الشاوي بياع الحمير" بل إن شخصية أخرى مساهمة في تحريك دواليب الصراع هي تحوزه من مثل "شيخ قبيلة المساليط"
فإذا كانت حيازة شيخ قبيلة المساليط للنسب والحسب تؤهله لممارسة الرقابة على كل صغيرة وكبيرة في قبيلة المساليط و حيازة الوجاهة وصفة سداد الرأي فإن التوظيف الفني لهذا المفهوم أو بالأحرى لهذا المقياس جعل مالكيه محط سخرية عندما مكن أراذل النسب "الشاوي بياع الحمير" وإبنه " المدني" يتمكنون من خداعه. فأما الشاوي فقد خدعه بأن باعه حماره الذي سرقه منه، أما المدني فقد خدعه عندما دخل إلى عقر داره في هيئة رجل صالح وكلم زوجاته أقرب المقربين إليه.
ختاما: تثير سلسلة المداني مجموعة من القضايا المعاشة أو التي عاشها المجتمع المغربي و في أحسن الأحوال يمكن ان نقول انها مازالت توجه فهم و تلمس الذوات فيه للعالم الخارجي؛ أبرز تلك القضايا قضية الإيمان بقدرة الأضرحة على تغيير الواقع وإمكان إحداث الموتى أشياء عجز عنها الأحياء، وثانيها تهيب الأشياء غير المعروفة والركون إلى حلاوة الخلود للنوم بدل اقتحام أبواب المعرفة و سلوك طريق التجريب واكتساب الخبرات وثالثها ربط التمييز السلبي بين الأفراد على أساس الرأسمال الاجتماعي في ما يتعلق بارتضاء تمتعهم بأشياء الحياة الجميلة كالحب والعيش السعيد...