لعلّ حصول رواية "الطلياني" للكاتب التونسي شكري المبخوت على الجائزة العالمية للرواية البوكر 2015 كان حدثًا بارزا هذه السنة ميّز الحياة الإبداعية والنقدية العربية و لعلّ الأبرز من كل ذلك هو ما صاحَب هذا التتويج من صخب نقدي إعلامي متضارب حدّ التناقض بين اثنين : الأول نقد عاطفيّ مُجامل حدّ الانبهار كما هو الحال مع الناقد التونسي خالد الغريبي : " رواية الطلياني على قدر صدقها في تعرية النفوس و الكشف عن هشاشتها يكون فعل التطهير من صناعة الأوهام .و متى تطهرنا من أوهامنا نكون الأقدر على تحقيق أحلامنا .." . أما النقد الثاني فقد كان مُحبِطًا ضبابيًّا وصل حدّ التهجّم أحيانا كما هو الحال مع الناقد المصري محمود عبد الشكور : " مع رواية الطلياني أصبحنا أمام رؤية مضطربة و غير مقنعة من الناحية الفنية ..فظلت الصورة دائما ضبابية وناقصة .
بدايةً لابدّ من التأكيد على أنّ تتويج هذه الرواية التونسية ( الطلياني ) لم يكنْ حدثًا مُسقطًا أو مُفاجئًا بل هو في الحقيقة امتداد لمَا وصلتْ إليه روايات تونسية عديدة سابقة من احتفاء عربي وألق عالمي من خلال وصول بعضها إلى القائمة القصيرة لجائزة الرواية العربية البوكر ، كانت أولها رواية ( نساء البساتين) للحبيب السالمي و آخرها ( سعادته ..السيد الوزير ) للكاتب حسين الواد تلك التي قدّم لها المبدع شكري المبخوت ، أما النجاح العالمي فنذكر منه فوز رواية (المشرط ) للروائي كمال الرياحي بجائزة بيروت 39 و كذلك حصول رواية (روائح ماري كلير) للكاتب الحبيب السالمي على جائزة المهرجان المونتريالي للأدب بكندا .
من هذا المنطلق يمكن القول إن الرواية التونسية قد بدأت تتحسّس معالم انتشارها و تُجلي مظاهر تميّزها الفني عربيّا وعالميّا غير أن هذا القول لم يكن محلّ إجماع النقاد العرب سواء كان ذلك تصريحا أو تلميحا فمدوّنة السرد التونسية المعاصرة قد نفذت إلى مضمار التنافس متـأخرة إذا ما قسناها بنظيراتها الأقرب من الدول المغاربية مثلا ، هذا ما يفتح لنا الباب للنظر في مظاهر تفرّد رواية الطلياني البنيوي والدلالي .
تدور أحداث رواية الطلياني في فترة زمنية محددة من التاريخ السياسي التونسي الحديث و هي أواخر عهد الرئيس الحبيب بورقيبة و بداية عهد الرئيس زين العابدين بن علي و تبدأ بحدث غير عادي و شاذ في جنازة الشيخ محمود والد عبدالناصر الطلياني بطلنا الذي يبدو في ذلك اليوم مهمل الثياب رثّ الهيئة و الذي يهجم على جاره الإمام علالة أثناء دفن الجثمان فيضربه بعنف وينهال عليه بالسباب : " يلعن دين والديك ..يا منافق ..يا نذل يا ساقط ..اخرج من غادي ..يا " ( ص 7 )هذا الحدث الشاذ كان بمثابة القادح الفني لكل الأحداث إذ من ورائه سيسعى السارد و هو صديق عمر الطلياني إلى تبرير عمل صديقه بأن يروي حكايته من البداية إلى النهاية و لكن هذا السارد قد جمع صفات متعددة و متضاربة في نفس الوقت فهو راوٍ عليم بكل ما يحصل من جهة و هو متوارٍ غائب من جهة أخرى فعلى مدى الأحداث يمكن أن نذكر أن حضوره ينحسر في بعض المشاهد مثا قوله : " في تلك الغرفة المستقلة بدأت علاقتي بالطلياني تتوطد " ( ص40 ). سعى المبخوت إلى دفع ساردِه إلى أن يواجه مصيره المحتوم حين اعتمد تقنية التبئير الداخلي focalisation بأن جعله راويًا دقيق الملاحظة يعلم كل شيء فنرى الأحداث والأماكن بعينيْه و لكنه يبدو في نفس الوقت سلبيًّا و غير فاعل لا في الحدث ولا في الشخوص : " لا أخفي عليكم أنني لاحظتُ و لكنني كذبتُ هذا الاستلطاف بين الطلياني و نجلاء ..." ( ص 181) هذه النقطة ركّز عليها عديد النقاد واعتبروها من نقائص الرواية مثل الناقدة الكويتية ليلاس سويدان التي قالت في هذا الباب : " ما أزعجني في الرواية كان صوت الراوي الذي يمثل شخصية خفيّة لم يقدّم العمل إطلاقا بل كان سببًا في إخفاقه " أمّا عند تعرضهم لبناء السرد أو زمن الخطاب فقد أكّد بعضهم على أن حادث المقبرة الذي يبرّر سرد حكاية الطلياني يبدو غير منطقي و غير مقنع ففي البداية يتبادر إلى ذهن القارئ أن رحلة الطلياني السياسية و الاجتماعية لها علاقة بحادث الضرب في المقبرة و لكنه يكتشف أن الأمر يتعلق بحادث انتهاك جنسي ارتكبه الشيخ علالة تجاه الطلياني في طفولته ، غير أن هذا الاعتداء يبقى مجرّد حادث فرعي لا يبرّر كل هذا السرد الذي ظلّ يبحث على مدى مساحات نصيّة طويلة في مأساة المثقف و سقوطه ، هذا البناء يحيلنا بشكل واضح إلى مصطلح (Metalitté )ابتدعه الناقد الفرنسي تزفيتان تودوروف Tzvetan Todorov أو ما سمّاه Gérard Genette جيرار جينات بـــِــ :Metarecit) ( وهو ما يُعبر عنه بِــ "ما بعد الأدبيّة" أو " الميتاسرْدي" و الذي قصد به كلاهما " المبادئ البنائية للحكاية السردية أو بعبارة أخرى مبدأ التنظيم الروائي الذي يصبح موضوعه ظاهرة " يعني بمعنى أوضح العالم الذي تتولّد فيه الحكايات و الطريقة و الكيفية التي تظهر بها و قوانين عملها الداخلي . فلو سحبْنا هذا القول على رواية الطلياني فإننا سنجد أن تبرير حادث الضرب الافتتاحي في المقبرة بالانتهاك الجنسي للبطل قد يكون فيه انسجام ومنطقية فالعنف المرتبط بالموت في البداية أنتج بنائية السرد و نماءه ذلك السرد الذي كان عبارة عن رحلة للبحث عن مبرّر أو علّة فالذي يجمع بين البداية و النهاية هو الشعور بالقهر الذي نتج عنه ذات متمردة عائليا واجتماعيا و سياسيا فالعنف الذي مورس على البطل صغيرا جعل منه كائنا يسعى إلى الانتقام من مجتمع غير متوازن تجلت فيه جدليات عجيبة ( بطل عاشق خائن – إمام ورع فاسد – للا جنينة زوجة فاجرة – راو عليم غائب ...)
نستنتج إذن أن اعتبار الرواية قد تأسست على مبرّر واهٍ منطقيا إنما يحصر دلالتها العامة في أزمة المثقف العربي المعاصر في حين أن أبعاد الرواية أرحب و أعمق من ذلك بكثير ، خاصة وأن بناء السرد خطابيا تشكّل على نحوٍ أشبه بتضمين enchassement بنيوي كبير يكون فيها الحكي دائريا أي عوْدًا على بدء بحيث تكون النهاية المُخجلة تفسيرا للبداية العجائبية الغريبة و كأن الراوي في ذهنه قول بول ريكور Paul Ricœur : " الموضوع المُمتع في الكتابة هو حتمًا الموضوع المُخجِل ".
فالرواية بدأت بمشهد موت الأب و انتهت بموت الحب ، و بين الحدثين يُغرق البطل في الممنوع اللذيذ من خلال علاقته بللا جنينة ثم نجلاء ثم ريم وبالتالي شقت الرواية جدلية تاناتوس ( الإخصاء و موت الأب ) و إيروس ( الفحولة وحب الحياة ) و لذلك ونحن ننظر في هذا البطل المتمرد كيف ينبعث بعد موت أبيه نتذكر تحليل عالم النفس كارل يونغ Carl Gustav Jung حين يقول : " إن نظرية نفسية تتوق إلى أن تكون أكثر من وسيلة تقنية داعمة يجب أن تقوم على مبدأ الأضداد وبدون ذلك لن يكون ثمة توازن ولا نظام بدون قوة مضادة قادرة على تحقيق التوازن" و لذلك نستطيع أن نستقرئ حياة البطل بما هي تمرد رافض لصرامة نظم الأم التي تمثل حامية عنيدة للعرْف الاجتماعي الذي يصل حد الطبقية و ذلك من خلال جدلية البِلْديَّة و العْرُوبة ( ابن المدينة وابن الريف أو المركز والأطراف ) فالأم رمز للعائلة " البلدية " التي تجمع أطراف المجد بأصولها الأندلسية الكريمة وارتباطها بالمجد التركي التليد و هي في الحقيقة صورة ممجوجة لشخصيات الدراما التونسية الكلاسيكية و تتنافي تماما مع شخصية " العُربِي " القادم من المناطق المحرومة و الذي جسمه في الرواية شخصية " بوك علي " أحسن تجسيم إذ كان هذا الرجل مضرب الأمثال في انعدام التاريخ و ضياع الهوية " ما أكثر وسخك كأنك بوك علي " ( ص 29)، فبين الشخصيات هناك صراع الأصول و الشرائح و التاريخ والتوزيع الظالم للثروة ، صراع احتدّ في هدوء مخيف داخل المجتمع التونسي و لازال إلى الآن و إن اتخذ أشكالا مختلفة وكان سببا في ما عاشته تونس من هزات اجتماعية عديدة و لكن البطل الطلياني قد تمرد على إرادة أمه و مجتمعه حين اختار أن يكون مع " الأطراف والعْروبة حين أحب زينة ذات الأصول البربرية ، تلك هي تونس البلد الذي يصبح فيه السكان الأصليون ( الأمازيغ ) غرباء أو متشحين بالصمت كما وصفهم المفكر التونسي البارز البشير بن يحمد . لكن تمرد البطل سيتحوّل بموت الأب من رفض النظام والعرف والقيمة إلى تقديس للذّة بعد ضياع الحب ، و لذلك يقول الراوي في نهاية الرواية : " فاحت روائح أخرى عطنة من دار العنين الشيخ علالة الإمام " ( ص 342)
أما القول بأن الراوي العليم كان في الرواية أقرب إلى الشبح الذي لا يظهر إلا في أوقات محددة . فإن ذلك يعود بالأساس إلى أن السارد العليم مرتبط أساسا بالرواية الكلاسيكية و ربما هذا ما أدى ببعض النقاد إلى أن يعقدوا مقارنة ضمنية دون شعور منهم بين رواية الطلياني و رواية فرانكشتاين في بغداد للعراقي أحمد سعداوي الفائزة بالبوكر 2014 تلك التي اعتمدت على التعددية الصوتية polyphony و التناص Intertextualité لتشكّل واقعا خياليّا ربّما أمرّ من واقع العراق الموضوعي و لعل هذه المقارنة الضمنية غير المعلنة هي التي جعلت ناقدا مثل المصري محمود عبد الشكور يقول: " تخذلك رواية الطلياني للكاتب التونسي شكري المبخوت خذلانًا مبينًا ".
غير أن اعتماد السارد العليم الذي يقدّم و يؤخّر الأحداث كما يشاء و يعلم خارج الشخوص و بواطنها الحقيقة أنه لا يعيب صاحبه فالمبدع سيّد خياراته الفنية و لكنه يبقى خيارا قد لا يحدّ من الأبعاد الدلالية و السيميائية للرواية و لا شك أن السارد صديق الطلياني قد تلاعب بالقارئ بحيث أنه أطال وقصّر كما شاء بل إنه جعلنا نتبع خيط الحكْي حتى نفهم ما حصل في المقبرة إلى درجة أن البطل قد استطاع التمويه على صديقه في معرفة مبرّر عنفه و السارد بدوره مارس لعبة التمويه مع القارئ حين تصورنا أن الرواية هي سياسية ترسم مأساة مثقف منهار وملهاة تيّار يتآكل و يندثر بشكل مرعب .
و سيبدو التمويه واضحا عندما تظهر الرواية و كأنها رحلة الأقنعة المتساقطة ففي الصفحة 317 حيث يبدأ الفصل الأخير الذي وسمه المبخوت برأس الدرب الذي لا نتصور أن المبخوت كان جاهلا بالدلالة الرمزية لـــــ ( الرأس ) ....حيث تتضخم الدلالة الايروسية بشكل لافت إذ يبوح الطلياني بعلاقات جنسية ثلاث ما يجمع بينها هو المنع أو الحرام ( للا جنينة – الإمام علالة – ريم ) و قد اختار السارد أن يكون ذلك ليلة موت الأب و ما يحمله ذلك من دلالات سيكولوجية إذ أن علاقة الطلياني بالشخصيات الثلاث تتحكم فيها جدلية الفحولة والإخصاء فجنينة هي التي أدخلته عالم اللذة و علالة العنّين سعى إلى إخراجه منه و هو نفس ما قامت به ريم في آخر الرواية و بذلك يمكن القول إنّ السارد العليم لم يكن غائبا بل حاضرًا في الرواية و ذلك من وراء حجاب فقد كان يوجّه رؤية القارئ إلى الزاوية التي يريدها هو و تعتبر هذه الثنائية ( العلم والغياب ) مهمّة لأنه لا يمكن الحديث عن سارد عليم إلا إذا تعرضنا إلى زاوية الرؤية حيث يصبح السارد راسما بالألوان التي يريدها في كل مشهد أو حدث من الرواية و هذا يذكرنا برأي بوريس توماشفسكي Boris Tomashevsky عالم السرديات الروسي الذي أكد على أن السارد العليم إنما هو في الحقيقة منتج السرد الساحر الخالق للعالم ، الأمر الذي لمسناه في رواية الطلياني حيث يمارس السارد مع القارئ لعبة الخفاء والتجلي لإثارة لهاث القارئ وراء الحقيقة و زيادة ركضه وراء مبرّر حكائي حتى و لو كان سرابا خُلّبا .
قال الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي متحدِّثًا عن رواية الطلياني : " شخصية عبد الناصر بطل الرواية مركَّبة و غنية و متعددة الأعماق حتى الشخصيات الثانوية منها مقنعة لكن شخصية زينة تظل إنجازا فنيا فريدا تمتزج فيها الثقة و الارتباك والشراسة و الشغف و التماسك والانهيار " يبدو البرغوثي منبهرًا بشخصيات الرواية إلى حد كبير و لكنه في الحقيقة ظهر لنا و كأنه لم ير ما رآه بقية النقاد فمتن الرواية برز فيه شيء من الاضطراب البنائي ذلك أن الطريقة التي رُسمت بها شخصية عبد الناصر وحبيبته و زوجته زينة تبدو غير متوازنة بالشكل المستساغ من المتلقي ، ففي البداية تظهر الشخصيتان بقوة مميزة وثقافة عالية ووعي وقدرة على النضال أما في نهاية الرواية فتنتهي هاتان الشخصيتان إلى ضرب من السقوط والضياع سواء في دهاليز السلطة فيما يتعلق بعبد الناصر أو في أقبية حب الذات والفشل كما هو الحال مع زينة ، بل إن هذا السقوط يدل على شرخ عميق في مكونات الشخصية وتطورها لم يسبقه تمهيد مما يرجّ القارئ و يجعله غير قادر على فهم الآتي : كيف يمكن لعبد الناصر و زينة اللذين تبادلا القبلات تحت هراوات الشرطة أن يسقطا في أول اختبار يتعرضان له " فهمت زينة كما فهم الطلياني أن القرار لارجعة فيه و إن لم تقدّر زينة حجم الكارثة فإن عبدالناصر رآها قادمة من بعيد " (ص 127) يمكننا فهم الإشكالية السالفة الذكر على شكْلٍ آخر تجعل من الشرخ يلتئم إلى حدٍّما على النحو الذي فهمه فليب هامون Philippe Hamon و هو : " اعتبار الشخصية في الرواية وجهة نظر تندمج مع محيطها لتشكل إرسالية في سياق الخطاب اللساني " معنى هذه المقاربة أن الشخصية بكل مكوناتها و سلوكها إنما تعمل في سياقها الحدثي و في إطار علاقتها بالآخرين و لو نزلنا هذا القول في متن الطلياني السردي سنجد أن البطل في إطار تفاعله مع الحدث تأثيرا و تأثرا وجد نفسه يتغيّر في مكوّناته و يتطوّر في علاقاته و لوكان هذا التغيّر نوعا من الضياع و العبث الواقعي بالمعنى الذي نحته فرانز كافكا في عالمه الروائي حيث أن الواقع المرير المتحوّل من المستحيل تغييره فإما أن تتعايش معه أو أن تموت ، بعودتنا يمكن أن نطرح هذا السؤال : هل أن البطل بما هو مناضل يساري في الجامعة توفرت له المبررات المنطقية ليكون دالّة أخرى في مرحلة متطورة من الرواية فيصبح كاتبًا في صحافة السلطة ؟
لقد سعى السارد إلى إبراز حدث مهم في حياة البطل عبد الناصر وهو أنه بعد زواجه بزينة وجد نفسه في حالة من الافتقار و الحاجة و ذلك جعله يتحوّل من النضال السياسي الطوباوي إلى النضال من أجل لقمة العيش فهذا المفصل في الحدث جعل الشخصية تأخذ دالّة أخرى وهي الانغماس في الواقع من أجل الحياة والحب و لقد صرح البطل بهذا التغيير بل إنه كان شاعرا به حين قال : " انتهت سكرة النجاح و انقضت صحوة الضمير الثوري فزال الحرج من تهمة الخيانة ..بدأت حياة الطلياني تتغير "( ص 126 )
و نفس الشيء انسحب على شخصية زينة تلك التي جعلت حياتها تتحول من التمرد إلى السعي من أجل النجاح و إكمال دراستها الجامعية فالتحوّل في مكوّن الشخصية كان هدفه الحفاظ على الحب و لكن الحقيقة أن الانغماس في واقع فاسد جعلهما يفقدان الحب والنضال والتمرد والشهادة وكل شيء....إنها شخصيات تضجّ بالحركة و التطور التي تجعل المجتمع ينصب فخّا لكليهما حتى يفرغهما من ماهيتهما ( النضال والحب في الزمن الماضي ) ليحلّ محلها ( الخيانة و الكراهية في الحاضر ) لكي نخلص إلى أن الحب الحب نفسه لا يختلف عن النضال اليساري عبر الايمان بأفكار طوباوية ( ثورة البروليتاريا و مجتمع العدالة المطلقة... ..) أليس النضال والحب كلاهما مجرد يوطوبيا غائمة حين تنزل إلى الواقع تتهشم وتتشظى و تنتهي بشكل مأساوي ! و ربما لهذا السبب يدخل عبد الناصر عالم الدعاية و ترويج البضائع بأنواعها في حين تنتهي زينة بالعيش على أكاذيب زواج باهت ميت من عالم فرنسي مسن .و قد بدا التشابه واضحا بين الشخصيتين في بداية الرواية من خلال تعرض كليهما إلى الاعتداء الجنسي و كأننا بالمبخوت أراد أن يزعجنا بسؤال مدوٍّ يصرخ فينا :
- كيف يكون وجه الحب إذا وُلدَ من البداية مغتصَبًا ؟؟!
هذا العنف الذي تتعرض له الشخوص يجعلها تتجرع الانكسارات المتتالية و ربما لذلك استهلّ المبخوت روايته بمشهد الموت و كأن حقيقة الموت بمعناه الحقيقي والمجازي هي التي ستحول الشخوص إلى حالة من التيه والخيانة و الانحدار المقيت تماما كما يقول غابريال غارسيا ماركيز على لسان بطله " إن الشيء الوحيد الذي يصل دون خطأ هو الموت " (رواية لا رسالة لدى الكولونيل ) بهذا يجوز القول إنّ رواية الطلياني كانت رحلة موت الذات من الحقيقة إلى المجاز ..
ربما يمكننا أن نطرح في نهاية الحديث عن الشخوص الإشكالية المركزية و هي مسألة الإقناع و نقصد بذلك إلى أيّ مدى يمكن للسارد و من ورائه الكاتب أن يقنعنا بالتحولات الطارئة على شخوصه ، فمثلا كيف يتساوى الطلياني المناضل السابق -الذي استغل سلطته المعنوية وولع ريم بالنجومية حتى تستسلم له – مع أستاذ زينة الذي حرمها النجاح في مناظرة التبريز رغم تفوقها لأنها لم تمنحه جسدها ؟؟و كيف يمكن للقارئ أن يتجاوب مع الراوي الذي تخلى عن زينة التي قاومت وناضلت من أجل العلم و رفضت المغريات بخيانة زوجها رغم كل المعاناة التي عاشتها ، فصرامة السارد جعلت القارئ في حيرة متجددة و لذلك يتحوّل الصراع بين الشخوص و السارد إلى صراع خارجي بين الراوي _ ومن ورائه المبخوت مختفيًا_ من ناحية و القارئ اللاهث وراء الحقيقة من ناحية أخرى و للإجابة عن سؤال مماثل أكد المبخوت في أحد لقاءاته الصحفية على أن :" رواية الطلياني حديث عن مسار شخص و هذا الشخص أصنعه أنا كما أحب أنا "إن الكاتب من حقه أن يقول ما يريد و لكن القارئ من حقه أن لا يصدقه أيضا فكما أن هناك متعة في الكتابة بالنسبة للمبدع هناك ما يسميه رولان بارت بلذة النص بالنسبة للقارئ والرابط بين الطرفين باب خفيٌّ اسمه الصدق بمعناه الفني .
لا اعتباطية في الأدب هذه المقولة تؤكد أن سيميائية السرد في الرواية تبدو ثرية ودينامية تتبع تطور الشخوص وصراعاتهم الداخلية وانهيارتهم الاجتماعية فالراوي لم يسعَ إلى التأريخ لفترة من تاريخ تونس السياسي بل سعى إلى التعمق في فساد مجتمع من خلال التعمق في شخوصه التي تبدو تائهة منكسرة وخاصة النسائية منها ( زينة نجلاء – ريم – للا جنينة ) مما طرح إشكالية التحرر بمعناه الاجتماعي و كأننا بالراوي يشكك في ما حققته المرأة التونسية أو يتهيأ لها أنها حققته فالطلياني هذا الكازانوفا اليساري أكد رجالية المجتمع التونسي بامتياز وإلى درجة مخيفة لأن البطل تلذّذ بللاّ جنينة ثم تخلّى عنها و أحبّ زينة ثم خانها و تمتّع بنجلاء التي دخلت أبواب الدعارة من أبوابه المخملية ! و لذلك ترتقي رواية الطلياني إلى صفة الإدانة عنوانا واصفًا لها هي إدانة للمجتمع و السّاسة والإعلام و الأخلاق الزائفة و هي رغم تضارب آراء النقاد في شأنها بين مؤيِّد منبهر و مهاجم متعثّر يكون لها الفضل في أنها قد شغلت الناس فالطلياني كرواية تثير الدروب أمام الرّوح و تفسح مجالا أوسع لرؤية ما لا يُرى ليس لأنها أرّخت فنيًّا لحركة اليسار التونسي أو لأنها رسمت هزيمة الذات و تِيه الأنا بل لأنها أبرزتْ قذارة عالم السياسة و جنون الحب و فسادنا الآسن المزمن فحرّكت بذلك فينا الكامنَ من الذاكرة على النحو الذي صوّرته الفيلسوفة البريطانية ماري ورنوك Mary Warnock " أهمية الذاكرة في المخيّلة و الفنّ تظهر بوضوح في أنها أهم وسائل بقائنا ".
إنها رواية شخصيّات إشكالية لَبسَها الموت في أبعاده الملحمية المؤلمة !!