يعتبر الفن ذاك النِتاج الإبداعي للبشر و تعبيراً حرّاً عن مشاعر قادمة من حنايا الذات، نسْج الفكر و الخيال، في أعمال ذات قيمة جمالية متميزة، سواء كانت مادية كالتصوير، السينما و الرسم.. أو لامادية كالكتابة و الموسيقى..الخ.
فهل تنفصل الحرية في التعبير الفنِّي عن الوعي الأخلاقي و الضوابط الفطرية لدى لإنسان؟ و هل هناك شروط تسمح للفن، داخل نظام إجتماعي يرى في الأخلاق معياراً محوريا لتقييمه، أن يتحلى بقيمته الجمالية في تأدية وظيفته؟ و هل يُمْكِنُ للفن أن يكون لا أخلاقيا؟ و متى يكون إذن الفن فنا؟
فقد تتعدد ألوان الأسئلة في هذا السياق بقدر ما تتعدد وسائل و رسائل الإبداع الفني، بألوان يختلف طيفها بإختلاف الترسبات الثقافية و المنظورات الفكرية للفنان، التي ترسم أحيانا دلالات متغيرة و متحيزة للعمل الفني، ما قد يمنحه إلتباسا و غموضا محصورا في زاوية نظر معينة. إذ يعكس اللون التعبيري المستعمل، والمقصود هنا طبيعة و مادة الفن، الجانب الشعوري الباطني للفنان و الإنفعالات الداخلية المحتقنة في وجدانه.
فالألوان البهيجة و الزاهية للعمل الفني الراقي أيا كان، تُشِعُّ بمشاعر نبيلة، منبثقة من ذات الفنان الطاهرة، تستطيبها حواس و روح المتلقي، ضافية متعة و إنطباعا مهَذِّبا في وجدانه. أي أن طبيعة اللون الفني و أدواته تجسد ترجمة صادقة لنزعة الفنان الإبداعية، فإن كانت هذه الأخيرة إيجابية ذات الطابع الحسن، فإنها تصبو لتنوير العقول و تحرير الناس من أغلال الجهل و التخلف، أي تتجاوز الرسالة الفنية التي تحوي صورة الجمال في المتعة و التهذيب الروحي للفرد، بأخرى في قوالب غائية تعالج مواضيع و ظواهر من مختلف مناحي الحياة، بصيغ جمالية راقية و سلسة يسهل إيصالها للمواطن، مع إحترام القيم العامة للمجتمع الواحد، بل السمو بها و إغناءها بالقيم الجمالية ذات البعد النبيل و كل ما هو نفعي للشأن العام و لثقافة المجتمع. لأن الفن "يؤثر على أخلاق الإنسان و من ثم على النظام الاجتماعي" كما جاء على لسان أرسطو (كتاب السياسة) . فالفنان ذو الضمير و الطينة الحسنة، يعكس بنظرته الذاتية للأشياء ما يسكن في ثنايا نفسه الطيبة في إبداعه، بصيغ جمالية متناثرة في صور الخير و الفضل تآلفا مع الفطرة السوية للإنسان.
من أثر الفن هو كل ما يؤجج المشاعر الباطنية لمتلقيه و يثير بذلك اللذة، لا الغريزة و الفُجر، و يخلق المتعة لقيمته الجمالية، ليس التقزز و الشَّر، فجمالية الفن بطبيعتها، تفوح بسيم أخلاقية تخدم القيم الإنسانية و لا تتناقض مع مبادئ الفطرة فيها، حيث أن الإنطباع الذي يخلفه الفن في وجدان المتأمل، قد يحرك أحاسيس الحب لديه و يستنهضه لفعل الخير و كل ما هو نفعي له و للآخرين. و من هنا، يكون للفن شأن في تكريس ثقافة فعل الخير في الأنفس و الآفاق. و يجدر الذكر أنه إذا كانت المشاعر الجياشة و الخيال الواسع تشكل أرضية خصبة للإبداع الفني، فلا براح، أن للفكر و الضمير دورا فعالا في تمحيص نفاسة الفن من كل ما هو ليس من شيم فطرة الإنسان السليمة. هنا، أصاوب أبا نصر الفرابي رحمه الله حينما يقول: " فإذا كانت الأشياء التي تستنبط هي أنفع الأمور في غاية ما فاضلة كانت الأشياء التي تستنبط هي الجميلة والحسنات. وإذا كانت الغايات شروراً كانت الأشياء التي تستنبط بالقوة الفكرية شروراً أيضا وأموراً قبيحة وسيئات." (كتاب تحصيل السعادة ). عليه، فأن النفس الزكية لا يتسنا لها ترجمة صفات القبح كالميوعة و السماجة إلى قيمة ثقافية سامية يوزن بمعاييرها إنتاج إبداعي كالفن. و بالتالي، فإن الإبداع الفني الأصيل هو كل ما يزهو بنور الجمال بمختلف أطيافه، تناغما مع خصل فطرة الإنسان السوية، لاسيم الذوق العام لمجتمع ذي وجدان ديني أخلاقي متجدر فيه.
الفن هو مرآة المجتمع كما قال أحدهم، إلاّ أن هذه المقولة قد تفقد بعضا من المصداقية، خصوصا عندما أصبح بعض "تجار الفن" يتسترون وراء مرآة أصبحت اليوم تباع و تشترى كالبضائع العابرة. فما أصبح يُقَدَّمُ اليوم من طرف بعضهم من أعمال سينيمائية و موسيقية هابطة و ما ظلّ يسكن الشاشة من مسلسلات مدبلجة تتفيهية و ما يُستعرض على منصات بعض المهرجانات من نشاز؛ يتراءى في جل صور العنف، الإجرام و الموبقات داخل المجتمع. صور ملحوظة على مرآة تعكس في الأصل أرواح من يتحملون مسؤولية رسالة الفن على عواتقهم. و بالتالي، فإن أقصى و أقسى ما وصل إليه اليوم البعض من الذين يتحكمون في دواليب أمور الفن، و آخرون وصل بهم الأمر ليلقبون أنفسهم بكلمة "فنانين"، أن يستعرضوا أشكال الميوعة و النشاز على محاريب شييد جلها بعرق جبين ضحية إسمه "المال العام"، بإسم الحداثة و حرية التعبير الفني، فإنهم يسيئون بهذا إلى منظومة قيم متأصلة عند المواطن المسلم، فما بالك قيم أمة جمعاء، ترى في الأخلاق نوراً يضيء طريقها إلى النهوض بحضارتها من جديد بعد كبوة دامت قروناً من الزمن. إننا نأمل ذلك...كلّ الأمل!