"في البدء كانت الكلمة"-(إنجيل يوحنا 1: 1)
"أحب الكتاب ، لا لأنني زاهد في الحياة ، و لكن لأن حياة واحدة لا تكفيني"-عباس محمود العقاد
I. من الحسي إلى الافتراضي:
1
ماهي طقوسية القارئ العربي؟ قد يكون من الصعب إن لم أقل المستحيل الحديث عن أية طقوسية للقراءة في العالم العربي شرقا ومغربا. لعدم وجود أية دراسة ميدانية أو متابعة إعلامية حقيقية لهذا الشأن. هل المواطن بالعالم العربي يقرأ؟ هذا هو السؤال، لكن يقابله سؤال آخر بنفس الأهمية، ما هي القراءة؟ فهذا الفعل لا يقتصر على قراءة الكتب أو تصفحها، في زمننا الحالي فعل القراءة صار أكثر تعقيدا، لقد تخطى صفحات الكتب إلى العالم الافتراضي (زمن الصورة)، وقد تجاوز فعل القراءة الكتب الورقي، إلى كتب محملة على الأجهزة الإلكترونية، من الملموس إلى السحابي، من الحسي إلى البصري الخالص، فالطقوسية الجديدة لفعل القراءة مرتبطة الآن، بفتح الحاسوب أـشبكات التواصل الاجتماعي، كل هذا وغيره يُعتبر طقوسا جديدة، تجعلنا أمام ضرورة إعادة التفكير في موضوع طقوس القراءة.
2
ثم إن القراءة هي فعل ثقافي متأصل في البشرية منذ اختراع الكتابة، إن لم أقل منذ اكتشاف التواصل الترميزي في عهد الإنسان البدائي. فلهذا هي تتنوع كما وكيفا من ثقافة إلى أخرى ومن مجتمع إلى آخر. الأهم في فعل القراءة هي القراءة نفسها وليس كيفيتها، بقدر أن تُمارس كما يجب، أي أن تكون أداة فعالة في تنوير المستقبل وتغيير السلوكات. إننا ما نقرأ، بمعنى من المعاني، إذ "قيل لأرسطو : كيف تحكم على إنسان ؟ فأجاب : أسأله كم كتابا يقرأ وماذا يقرأ ؟".
II. من المطلق إلى النسبي:
1
إن كان في ثقافات أخرى غير العربية أنماط قراءة فصلية، تتنوع من فصل إلى آخر نتج عنها كتابات فصلية، أو العكس لربما، فإننا في مجتمعاتنا العربية فعل القراءة ارتبط بالطقوس الدينية، فمثلا ارتبط بكونه فعلا جمعيا، وفي جل البلدان العربية فهو مرتبط بوعي اللائق وغير اللائق، المحرم والمحلل، الجائز وغير الجائز... إلا إنه كانت دائما قراءات خارج المؤسسة الدينية ومحرماتها، إلا أنها ووجهت بتهمة الزندقة والخروج عن الجماعة... فها هو ابن التيمية يربط أي علو انساني ب"قراءة السنة والكتاب" "إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء. ويطير في الهواء فلا تغترّوا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة." فلا قراءة خارج الكتاب الديني بالنسبة للوعي العربي، المسلم منه بالخصوص.
2
فإن "في البدء كانت الكلمة" بالنسبة للعقل الغربي، المسيحي منه بالخصوص، والكلمة مرتبطة بالرب (المطلق) بالشكل المباشر باعتبارها واعتباره هما معا شيء واحد، إن "الكلمة" ممتدة في الزمان والمكان، إنها المطلق (الوحي)، وفي الثقافة العربية الإسلامية ف"اقرأ" فعل أمر صادر عن قوة مطلقة (الله)، إنك لا تقرأ إلا أمرا وبالأمر، إنك لا تقرأ إلا ما أنت ملزم بقراءته (السنة والكتاب). في البدء كانت الكلمة، والكلمة تقرأ وتكتب، إنك لن تقرأ إلا ما هو مكتوب... إن الكتابة سابقة إذن... والقراءة لاحقة.. وفي الثقافة الدينية دائما للسابق (السلف) قيمة كبرى وأعظم من اللاحق (الخلف).
3
في العهد الجديد، عصرنا أعني، لم يعد للقارئ (المرسل إليه) دور اللاحق المهمش، التابع لسطوة الكاتب (المرسِل)، حيث إن فعل الكتابة (يقابلها الوحي) لا محدود عند الارسال الأول (التزيل) بل إنه مفتوح على احتمالات أوسع (كتابات /تنزيلات). لم يعد الكاتب ذا السلطة المطلقة الذي يوحي وعلى القارئ الامتثال والانصياع (المأمور).... إن فلسفة التلقي فتحت النص (الوحي) على التعدد (التأويل اللامتناهي)، ف"جميع معايير التأويل هي مجرد توسعات مشروعة للممكنات النصية اللامحدود" (La réception littéraire , in Théorie littéraire ) وجعلت القارئ (فعل القراءة) جزء من الكتابة، جزء من الوحي. فتعدد "القراءات" وتعدد "المعنى" وصار "المطلق" "نسبيا".