مقدمة:
لقد جرت مياه كثيرة عبر التاريخ، في أنهار الدراسات الأدبية، من نقد –بشتى مذاهبه- في محاولة لحصر المجال الأدبي، وتحديد العلاقات الثقافية داخل الأنساق والبنى، أو خارجها، وقد كانت كل محاولة، سعيا للتخلص من "تكرار كل الصيغ الجاهزة والسعي إلى تحيين الاشكاليات من منظور تنقيدي يربطها بانشغالات الحاضر وأسئلة المستقبل.[1]" وحفاظا على المحلية وصونا لخصوصياتها. فكان ذلك إعلانا لظهور الدرس الأدبي المقارن، باعتباره درسا لعلاقات الأسباب بالمسببات، وأيضا درسا للنقد الجديد في تحديد مدى تداخل وسائل التعبير، في محاولة صريحة لردء التصورات المتشبثة بالبعد المحلي، والانفتاح من خلال تلك الانتاجات على بعدها العالمي، إنها دعوة لتجسيد مفهوم العالمية، واختراق تلك الحدود الوهمية التي تحصر الانسان في جل المستويات.
يعد علم الادب المقارن من العلوم الحديثة، ومن المعروف أن منشأه كان في فرنسا، على الرغم من أن طبيعة الموازنة بين الأدباء في لغة واحدة أو لغات مختلفة كان أسبق، وذلك ما جعل بروزه كعلم مستقل بذاته، متميز بخصوصياته وقواعده المنهجية، لا يكون إلا في القرن التاسع عشر ميلادي، يقول هنري باجوD.H. PAJO في هذا الصدد أنه في 12 مارس1830[2] "أخذ نوع جديد من البحث طريقه إلى الولادة في فرنسا في سنوات ظهور الرومانسية والليبيرالية."[3] وكان وراء هذا الظهور دعوة من مختلف الباحثين والأدباء ممن "يؤمنون بالانفتاح الأممية، وينكرون كل نزعة إلى الانغلاق والانعزالية."[4]، وتأخر هذا الظهور كان مرتبطا بإثارة جدل في تحديد مفهومه حسب الأقطاب والمدارس، وتؤكد سوزان ياسنت SOZAN YASNETعلى أن جل الباحثين في هذا المجال "اتخذوا منطلقات مختلفة في تعريف المصطلح... ولم يلتقوا في نقطة محددة."[5] وهذا ما خلف تشرذما في رؤى لا تؤسس لمفهوم ثابت للأدب المقارن، وهذا ما كان سببا في إثراء هذا العلم من خلال ابتكار نظريات حديثة حاولت جعله علما متكاملا.
قبل الدخول والخوض في سجالات المدارس من حيث تحديد المفهوم والمبادئ العامة وأسس الدراسة المقارنة، يكون من الواجب علينا تسليط الضوء على الأدب المقارن كتمثل قبل مولده علما منهجيا، ذلك أنه قبل القرن الذي ولد فيه الأدب المقارن كان قد مر من مخاض تاريخي، وكانت ظاهرة الموازنة قائمة وموجودة بشكل أسبق منها وهي مكتملة وقيد الدراسة، وقد "يستمر ذلك الوجود زمنا طويلا قبل أن تتهيأ الفرصة للالتفات إليها ومحاولة الالتفاف حولها."[6] فمثلا "سبقت الظواهر الفلكية...وجود علم الفلك... وطبيعي أن ظواهر النصوص والبلاغة تسبق علوم النحو واللغة في كل أمة."[7]
وقد كانت تجليات الظاهرة من حيث التأثير والتأثر حاصلة بين المجتمعين الروماني واليوناني في 146 قبل الميلاد[8]، والمعروف عن الحضارة اليونانية ما كانت تتفرد به وتتميز في شتى الميادين، وفي خضم صناعتها لثورتها الفكرية والحضارية، فكان تدخل الغزو اللاتيني، إلا أن الغازي أصبح مغزوا فكريا وثقافيا وأدبيا، فما كان من اللاتينيين إلا أن انهالوا على الثقافة اليونانية متابعة وهضما ثم محاكاة للنموذج اليوناني "أملا في الوصول بأدبهم المتخلف إلى تلك المرتبة الرفيعة التي نالها الأدب اليوناني."[9]
هذا الضعف الذي كان لدى اللاتينيين، كانوا قد وجدوا عند اليونانيين ما جعلهم أقوياء معرفيا إلى جانب قوتهم العسكرية، فما كان منهم إلا الدعوة الصريحة والعلنية إلى التشرب من النموذج اليوناني، وكان من بين الداعين الشاعر الروماني هوراس في كتابه "فن الشعر" الذي جاء فيه قوله: "اتبعوا أمثلة الاغريق، واعكفوا على دراستها ليلا واعكفوا على دراستها نهارا."[10] وبهذا كان تجلي (نظرية المحاكاة)[11] بين ثقافتين، إلا أن تجسيد المحاكاة "في ذاتها غير كافية، ويجب ألا تعوق ابتكار الشاعر وألا تحول دون أصالته –كما يقول كانتيليان KANTILIAN-[12].
وبهذا تم الازدهار للأدب اللاتيني، ذلك أن النقاد الرومان كانوا يقرنون انتاجاتهم الادبية بنظيرتها الأنموذج اليوناني، فكانوا "يحكمون على جودة العمل الأدبي من خلال قدرته على محاكاة أنماط الأدب اليوناني."[13]
وبعد حلول العصور الوسطى، التي امتدت من (عام 395م حتى عام 1453م)[14]، والتي اتسمت بتبني الديانة المسيحية وانتشارها إلى أبعد مدى، حيث لمّت شتات مختلف البلدان الأوربية، الشيء الذي أبرز سمات مشتركة بين البلدان من خلال توثيق علاقاتها، وكان من التجليات البارزة لهذه العلائق "تسلط طبقتين اجتماعيتين على مقدرات الأمور...وهاتان الطبقتان هما، رجال الدين والفرسان."[15] وتتمظهر هذه السيطرة في أن الكتاب والقراء كانوا حكرا وقصرا على رجال الدين ما جعل لغة الأدب والعلم مقترنة بلغة الكنيسة وتمثلاتها قلبا وقالبا، وبهذا أضحى الأدب مكبلا بأغلال الكنيسة ورجالاتها، يخدم مآربهم.
والتجلي الثاني لمظاهر السطوة، كان أبطاله الفرسان المتفرغين "للحروب والدفاع عن شرف الكنيسة داخل أوربا، وبخاصة في الشام وفلسطين."[16] ما كان نتاجه التوحيد "ما بين كثير من الآداب الاوربية في تلك العصور."[17] فكانت لمحات هذه الوحدة بين الآداب الأوربية سببا لإيجاد "أول مظهر من مظاهر عالمية الادب في أوربا."[18] وكان من الممكن أن يكون هذا التمظهر "مجال دراسات مقارنة في البحث عن المؤثرات العامة التي وحدت اتجاهاته...لكن لم يوجد مجال لتلك الدراسات...بل تأخر بتلك الدراسة الزمن حتى العصور الحديثة."[19]
كانت الدعوة في عصر النهضة صارخة إلى الرجوع صوب الآداب اللاتينية والإغريقية، للثورة على تسلط الكنيسة واحتكارها لصنوف الآداب والعلوم، الشيء الذي وقف حائلا وتقدمهم، فانبعثت بهذه الدعوة نظرية المحاكاة من جديد، لما في أدب الحضارات القديمة من معين لا ينضب، فكانت الدعوة إليها –المحاكاة- تأثيثا لثورة فكرية، ودَرْسًا على هذه الأنظمة القديمة السائدة، التي عفا عن منطقها الزمن.
ولعل حركة النزعة الإنسانية، وأكثر تمحيصا "جماعة الثريا"[20] والتي دعا أفرادها إلى اتخاذ هذه النظرية وسيلة لإغناء للثقافة الفرنسية، كانوا حريصين على أن المحاكاة "يجب ألا تمحو أصالة الكاتب، تُطلعه ولا تقضي عليه إلى أن يسبق نموذجه."[21]
وقد امتدت الدعوة حتى القرنين السابع عشر والثامن عشر، فكان بهذا الأدباء والمفكرون أكثر تأثرا، بل تمادوا في تأثرهم إلى حد أنهم وضعوا "قواعد وقوانين يحكم بها على الآداب المحاكاة، ومدى خضوع الأدباء لهذه القوانين."[22] أي محاولتهم "التقنين في الأدب، إلى النقد الفني العملي."[23] بوضع قواعد فنية لمختلف الأجناس الأدبية استنادا إلى الأنموذج (الأدب اللاتيني واليوناني) والحكم على الإنتاجات الأدبية انطلاقا من هذه القواعد ومدى التزام أصحابها بها.
لكن القرن الثامن عشر "شهد تغييرا لذلك الأساس الفلسفي."[24] نظرا لما وقع من احتكاك بين الآداب الأوربية ، وكذا الصلات التي وقعت بينها من تأثير وتأثر إلى غير ذلك من العوامل. وبهذا كانت للأدب الحظوة في أن يتجه "اتجاها إنسانيا من شأنه أن يخرج به من حدود القومية إلى أفق أوسع وغاية أسمى."[25]
لكن المحاولات النقدية، كانت قاصرة لا تتعدى الحكم أو عقد موازنات استنادا إلى قوانين مستمدة من نظرية المحاكاة، كما أنهم لم يميدوا إلى العنصر التاريخي باعتباره أُسًّا من أساسات الأدب المقارن.
وإذا كان القرن الثامن العشر قد مهد الطريق للدراسة المقارنة، فإن القرن التاسع عشر كان مخرج الأدب المقارن إلى حيز الوجود، نظرا لتظافر عوامل التقدم الاجتماعي والسياسي والبحث العلمي ... الشيء الذي أثر في مناحي البحث الأدبي، وعليها نشأ اتجاهان عامان أثرا بشكل جذري في نشأة الأدب المقارن هما:
الحركة الرومانتيكية التي نشأت كرد فعل رافض للأوضاع السائدة آنذاك، تمجيدا لمبادئ الحرية ورد الاعتبار للذات، كمحاولة لهدم صرح الكلاسيكية، وقد كان لها الفضل –الرومانتيكية- في ظهور تاريخ الأدب، الذي يعد وجهة النقد الحديث، لكن ثمار هذه التجربة لم يكن من السهل جنيها، بل مرت من مخاض صراعات فكرية، كلل في آخر المطاف وبما تفرضه طبيعة الظروف بنجاح أسهم في إغناء المسار الفكري والأدبي.
ويرجع الفضل في ذلك لجنود الفكر الذين حملوا على عاتقهم مهمة إنارة الطريق اللاحقين من بعدهم، ونذكر:
- مدام دي ستالM .DI STAIL (1817-1766) فقد كانت "أكبر داعية للحركة الرومانتيكية في فرنسا... وأول من أسماها الرومانتيكية"[26]. فكانت تجربتها هي المقارنة "بين الادب الألماني وأدبها القومي الفرنسي."[27] وذلك جسدته في ثنايا كتابها "الألمان"، أضافة إلى أنها اعتبرت أن الأديب نتاج الظروف الاجتماعية ...يعيشها وسط أمته[28].
- سانت بوف SANT. PEUF: وكانت دعوته معاكسة تماما لنظرية مادام دي ستال، فقد غلب دور الفرد في ذاتيته ليضحى أديبا، على اعتبار أن الأدب هو جزء من الأديب، وقد كانت نتاجات بحثه راجعة إلى "محاولته استخلاص مبادئ من –العلوم التجريبية- تصلح منهجا في النقد الأدبي."[29] ما جعله "ينصح بموازاة النص الأدبي بنظائره لتتضح خصائصه."[30] لأن هناك تاريخا طبيعيا لأسر الفكر الطبيعية[31] معلنا على انتماء الأدب للعالم وليس حكرا على القومية، وبهذا كانت دعوة (سانت بوف) لها ارتباط موضوعي بالأدب المقارن الشيء الذي يعد من صميم الأدب.
لقد كانت النزعة الرومانتيكية "محدودة بالدعوة إلى الإفادة من الآداب الأخرى... وفتح آفاق جديدة للآداب للآداب القومية في البحث والتأثر."[32]
كما أن النهضة العلمية كان لها الدور في ظهور الأدب المقارن إلى الوجود، فقد صحب ظهور المخترعات والبحث عن الحقائق والأصول تأثير في سيرورة الأدب والنقد، باندحار الرومانسية وانبحاث نمط جديد يستجيب لمتطلبات العصر ويواكبها، ألا وهو المذهب الواقعي. وقد تشرب هذا المذهب من روح نظرية التطور الداروينية، والتي حاول العديد من النقاد النسج على منوالها وإعمالها كمنهج في دراساتهم النقدية للأدب، فهذا (أرنست رينانA. RINANE) يصرح بأن الوعي الانساني يمكن أن يعد "نتيجة لآلاف أخرى من الوعي، تتلاقى كلها مؤتلفة في غاية واحدة.[33]" لتتضح الرؤيا وتتوسع في إتجاه عديد من الأبحاث ممثلا عند الكاتب الانجليزي (بوسنتPOSNET) في كتابه "الأدب المقارن"، وكذلك (ليتورنوLYOUTORNO) في كتابه "تطور الأدب في مختلف الأجناس الأدبية" متبعا فيه خطى )بوسنت(.
وبهذا توسع البحث نسبة وكثر بكثرة الباحثين "الذين أولوا الدراسات الأدبية المقارنة المزيد من الجهد والعناية.[34]" والحق (هيبوليت تينH. TIN)كان من المفكرين الذين مثلوا روح النهضة العلمية وذلك بطرحه "لمبدأ التأثير المتبادل بين العوامل الطبيعية والعوامل النفسية.[35] وربطه "أسباب الاختلاف بين الآداب إلى أبعاد ثلاثة هي البيئة، العصر، الجنس.[36]إلا أن نظريته لم تكن موجهة للأدب المقارن إلا "في اتجاهه الوضعي لتفسير ظاهرة الفن والأدب والفكر تفسيرا عاما على كل الآداب والانتاج الفكري والفني.[37] فهو إذن إسهام في "التقنين لا التطبيق."[38]
وقد بقي تأثير نظرية التطور ممتدا ليتأثر بها (جاستون باريJ. BERI) الذي "اعتبر أن كل موضوع له أصول فطرية شعبية.[39]" وأن لهذه الموضوعات طبيعة التوارث، ولا تغيير في جوهرها، ولكن التغيير يكون في مستوى التركيب.
وكان أمثال هذه الطروحات تصب في ماهية الدراسة المقارنة، إلى جانب طرح (برونتييرPRONTIER)، الذي ركز على الصلات بين الأجناس الأدبية، لأن "الحدود الدولية لا تقف حائلا دون انتقال الأجناس الأدبية من أدب لآخر.[40]" وبهذا كان طرحه دعوة للعناية بالأدب المقارن.
لكن اكتمال المرحلة الجنينية وبدأ المخاض كان على يد الباحث الفرنسي (جوزيف تيكستJ. TEKEXT) الذي اهتم أولا بتطور الأفكار، وكذا تركيزه على الصلات بين الآداب، وقد شاركه في هذه الجهود مواطنه (بتزBITEZ) الذي "وضع بيبليوغرافية مفصلة عن كل ما يتصل بالدراسات المقارنة.[41]"
والمجمع عليه أن أول ظهور للتعبير المنهجي كان "في 1828 على يد جون جاك أمبير.[42]" الذي تبناه فوضع على إثره "دروسا لتلامذته تحت عنوان (تاريخ الأدب المقارن.[43]
وهناك من يقر بأن (فليمانFLIMAN) كان أسبق من )أمبير( وذلك من خلال محاضرات ألقاها حول العلاقات بين الأدب الفرنسي والآداب الأوربية الأخرى[44]،ومن هذا المنطلق تعددت الابحاث، وتفرعت ميادين ومناهج البحث فيه، وفروعه.
ورغم صغر هذا المولود وجِدّته إلا أنه جلب معه إشكالا مفاهيميا، حيث تفرعت التيارات واختلفت في مستوى تحديد المفهوم. فاتخذوا منطلقات مختلفة في تعريف المصطلح لكنهم لم يلتقوا عند نقطة محددة.
1- المدرسة الفرنسية:
كان الدعوة من طرف باحثين ينادون بالانفتاح وينكرون القومية والانعزالية، وتجمل مفهوم الأدب المقارن بأنه "علم يبحث ويقارن بين العلاقات المتشابهة بين الآداب المختلفة وفي لغات مختلفة.[45]"
وعلى اعتبار مدلوله التاريخي فهو" يدرس مواطن التلاقي بين الآداب في لغاتها المختلفة، وصلاتها الكثيرة المعقدة في حاضرها أو في ماضيها، وما لهذه الصلات من تأثير وتأثر(...) سواء تعلق الأمر بالأصول الفنية العامة للأجناس والمذاهب الفنية أو التيارات الفكرية، أو اتصلت بطبيعة الموضوعات والمواقف والأشخاص(...)بوصفها صلات فنية تربط ما بين الشعوب الدول بروابط انسانية تختلف باختلاف الصور والكتاب.[46]" ومصادر لابتداء التقصي والانتهاء به[47].
وهذا التعريف يختص بالمجال الأدبي، حيث يتتبع خطوط العلاقات المتبادلة بين عملين أدبيين أو اكثر، لوجود صلات تاريخية ووشائج روحية "ولمسات مشتركة لعدة آداب.[48]" وأن الأفكار لا يمكن أن تكون معزولة عن بعضها كما يقول فان تييجيم F.TIJIM، بل إنه واجب أن تكون تلك الصلات، لدرجة أنه لا يجب على الدارس الخوض في دراسة نصوص لها اتصال بالآداب، لمجرد تشابه عرضي، بل من واجبه إثبات "أن الموضوعات التي تقارن قد قامت بينها صلات تاريخية نشأ عنها نوع من التأثير والتأثر.[49]" فمبدأ التأثير والتأثر يعد من صميم الدراسة المقارنة لدى المدرسة الفرنسية، ما جعل رواد هذه الأخيرة ملتزمين بوجوب وجود اتصال بين أدبين، عبر خيط ناظم مؤثر في هذه الصلة التاريخية ويخرجون من "حساب الأدب المقارن ما يعقد من مقارنات بين آداب ليست بينها صلة تاريخية.[50]
والأهم من ذلك كشف تلك العلاقة بين الأعمال الأدبية الخاضعة للدرس الادبي المقارن الشي الذي "يتطلب تحليلا دقيقا للمؤلفات التي يراد درسها وإلماما بالحالة الاجتماعية والأدبية في عصرها، ثم بالحالة النفسية للكاتب هو موضوع الدراسة، ثم وقوفا دقيقا على قافة الكاتب وسعة اطلاعه لتكشف تلك الدراسة بعد ذلك عن الأصالة الفنية والواقعية في إنتاجه.[51]"
كما أن "اعتبار اللغة هي الوعاء اللغوي الذي تظهر فيه الآداب.[52]يحتم في عملية الدراس المقارنة على أن تكون اللغة مختلفة، لأن "ميدان الأدب المقارن ميدان دولي يربط بين أدبين مختلفين أو أكثر.[53]" وأن حدود المساحة اللغوية مرتبطة بالمساحة والحدود السياسية.
لقد كانت فرنسا البيت المؤهل لتبني هذا المولود، فما كان منها إلا تحديد مفهومه، ووضع العناصر الأساسية المؤسسة لعملية الدرس المقارن، وكذا انفتاحها على مجالات البحث العديدة، من أبحاث لغوية ودراسة للأجناس الأدبية، إضافة إلى الموضوعات والنماذج والصلات، والتيا رات والمذاهب الأدبية، والمصادر الأدبية والمواقف الأدبية وكذا علم الصورة.
إلا أن تاريخية هذه المدرسة لم تسلم من النقد الذي وجه إليها من طرف الأمريكيين، قما يكون من الفرنسيين إلا محاولة الرد تارة، أو خلخلة منطق المدرسة محاولة منهم سد بعض الهَنَات التي كانت تعتريهم تارة أخرى.
1- المدرسة الأمريكية:
كان منشأها في القرن العشرين، كرد فعل صريح على المدرسة التقليدية الفرنسية، في عدة مستويات، فقد عرف الأمريكيون الأدب المقارن على أنه "البحث والمقارنة بين العلاقات المتشابهة بين الآداب المختلفة بعضها والبعض الآخر، وبين الآداب وبقية أنماط الفكر البشري من فنون وعلوم.[54] وقد عرفه (ريماك) بأنه "دراسة الأدب في ما وراء حدود بلد معين، ودراسة العلاقات بين الآداب من ناحية والمجالات الأخرى للمعرفة.[55]"كمحاولة لاستكمال مفهوم الأدب المقارن باعتباره "استجابة للمتغيرات الفكرية والمنهجية التي تطورت خلال القرن العشرين.[56]" وربط التفكير البشري وعده متداخلا لا يمكن فصله عن غيره.
وعليه، فهم "يعدون مقارنات بين الاتجاهات الأدبية والاتجاهات الفنية.[57]" محاولة منهم "الاهتمام بدراسة الأدب، في صلاته التي تتعدى حدود القومية.[58]" وتتجاوز معضلة التعصب القومي الذي عانى منه المقارنون الفرنسيون الأوائل "الذين كانوا ذوي نزعات استعمارية (...) واثبات تأثيراتهم في الآداب غير الأوروبية، وأهملوا آداب القارات الأخرى.[59]"
والحق أن هذه الخطوة الجريئة والجدية فتحت مجال "دراسة أي ظاهرة أدبية من وجهة نظر أكثر من أدب واحد في اتصاله أو عدمه.[60]" بتسليم أن "وجود أي تشابه بين الأنماط الأدبية والأفكار بين مجموعة من الآداب المختلفة، أو بين أدبين مختلفين يمكن أن يكون في حد ذاته –يؤسس- لقيام دراسات مقارنة.[61]"
عموما، فالاعتراض قد كان على مستوى المنهج التاريخي الذي يعد مرتكزا أساسية في الدراسة المقارنة الفرنسية "التي تهتم بالصلة والعلائق التاريخية ك"جزء من تاريخ الأدب.[62]" وأنهم بهذا مالوا إلى دراسة التاريخ أكثر من دراستهم الأدب الذي يعد جوهر الدراسة وأساسها، بمعنى "أنه لا يتناول العمل الأدبي بالنقد والتحليل، وإنما يحصر نفسه في مشكلات خارجية تتصل بالتأثيرات والمصادر والشهرة والذيوع."[63]
ولعل محاضرات (روني ويليلك) حول "أزمة الأدب المقارن" في 1985[64] قد جلت وبوضوح مآخذ المدرسة الفرنسية وشملت كذلك المدرسة الأمريكية نفسها، وقد حصرها في ثلاث نقاط متمثلة في:
عدم وجود تحديد واضح لموضوع الأدب المقارن[65]، وعدم التركيز على العمل الأدبي، والاندفاع بنزعات قومية ووطنية، الأمر الذي جعل هذا النوع من الدراسة "ينزلق بسهولة إلى اعتبار موضوعها مجرد ملاحق للأدب الوطني الذي ندرس في إطاره هاته الموضوعات.[66]" كما أن الدور الرئيسي في الدراسة هو الأدب الذي يعد جوهرا، بالمقارنة مع العوامل الخارجية كمؤثر، لا كمحدد في العمل الأدبي.
ولِمَ التأكيد على الالتزام باللغة وعدها "جانبا أساسيا في دراسة الأدب المقارن.[67] وهنالك "شواهد على وجود اختلافات بين آداب كتبت بلغة واحدة.[68]" وكمثال نجد الأدبين الأمريكي والانجليزي... ،فلا ضرر في "جواز قيام الأدب المقارن بدراسة لهذه الآداب المكتوبة بلغة واحدة مادامت الأمم مختلفة.[69]
إن النقد الذي وجه إلى المدرسة الفرنسية، كان عاملا إيجابيا في محاولة تعميق النظر في المفهوم لدى الفرنسيين، إلا أن المدرسة الامريكية في نظرتها النقدية "لم تتسم بالوحدة المتكاملة، إذ ظهر فيها طابع الازدواجية.[70]" في طابع المقارنة بين الآداب أو مقارنة الآداب بوسائل التعبير (الرسم، المسرح، النحت...)
كما أن ذلك الانتقاد الشديد لنزعة الفرنسيين القومية والتي اعتبروها من مخلفات وضعية القرن 19، لم يجعلهم يولون النظر إلى منهجهم الذي كانت تعيث فيه تلك الورطة القومية والتي تلونت لتضحى قومية من نوع آخر "تتمثل في نظرتهم الخاصة إلى التراث الأدبي الغربي، بوصفه منطقة مميزة بذاتها في نطاق الدراسات المقارنة.[71]"
ورغم ما تعرضت له من نقد فإنها لقيت ترحيبا من مختلف الأمم، وذلك بانفتاحها على أمة الشرق وبمزجها بين الأدب المقارن والأدب العام لدراسة الأدب ، كما أن هجومات المدرسة الأمريكية جعلت الفرنسيين يعيدون النظر في المفهوم والمنهج ومجالات الاهتمام وكذلك اللغة والصلات التاريخية.
لقد كانت المدرسة منشأ هذا العلم، كما أن نظيرتها الأمريكية ساهمت في في تطويرها، إلا أن هنالك العديد من المدارس في شتى مناقب العالم كان لها إسهامها في تطويره وترسيخ جذوره، فنجد الجامعة الروسية وقد مثلها (فسلوسكيFLOVSKI، وكوفرادGOFRAD، وبيركوفPIERKOV...)، والايطالية ومن أعلامها (ديما...)، وفي شيكوسلوفاكيا نجد (دورشنDOCHREN...)، إضافة إلى العديد من الجامعات التي "تعنى بدراسة بعض فروع الأدب المقارن.[72]"
والمشرق بدوره قد مس بعبق هذا العلم، في الربع الثاني من القرن العشرين، على اعتباره ضرورة ملحة لا غنى عنها، وسبب ذلك "في نقد النقاد عندنا من ذوي الثقافات الغربية التي تتعمق في دراسة في دراسة الأدب الغربي."[73]، وعبر الترجمة كذلك، لتثمر أول دراسة منهجية والتي قام بها الدكتور محمد غنيمي هلال سنة 1953 بعنوان [الأدب المقارن][74]، ومقالات أخرى لفخري أبو السعود، والتي "قارن فيها جوانب من الأدب العربي والانجليزي."[75]
ونجد عددا من الرواد العرب المهتمين بالدرس المقارني كـ:
-عبد الرزاق حميدة –نجيب العقيقي –ابراهيم سلامة –محمد عبد المنعم –حسن جاد الحسن –محمد محمدي –ع.المنعم اسماعيل –الطاهر المكي –كمال أبوديب –سعيد علوش –عبود عبده –المناصرة عز الدين –الخطيب حسام –حسان عبد الحكيم (...)
خلاصة القول أن الأدب المقارن كان له امتداد تاريخي كظاهرة، ثم كمنهج، وهاهو الآن قد انتشر في مختلف أصقاع العالم، لأنه يحمل في ثناياه أكثر من مفهوم دراسة بل هو دعوة [إنسانية] صريحة "للتلاقح بين الثقافات والآداب المختلفة[76]"تطلعا إلى العالمية والقضاء على كل انغلاق ثقافي ودرءً لكل دعوة للقومية في الأدب.
خاتمة:
الأدب المقارن، ولغايته الانسانية، أماط اللثام عن الشوائب القومية والأيديولوجية التي تحيف بالأعمال الأدبية، وجعلها ترتقي إلى مناط العالمية، وخلصها من ربقة كل السلط حتى سلطة المبدع نفسه، فلا يكون السياق والعوامل التاريخية، والأديب إلا وسائل للوصول إلى غاية أساسية ومركزية، هي أن لكن الأنواع أصلا، وأنها وإن تفرقت وتنوعت، فهناك عوامل تجعلها مشتركة.
على الرغم من الثغرات التي تعتري منهج الأدب المقارن، فدعوته الصريحة ذات النوايا الحسنة، قد وجدت أذانا صاغية، ولازال الكثيرون يسيرون على النهج في محاولة لتحقيق متمنيات علم الأدب المقارن، وكما يقول المفكر (جوهان. ف. جوته) "أنا مقتنع بأن أدبا يتشكل. وبأن جميع الأمم ميالة إليه، وتبذل جهودا ثمينة في هذا الاتجاه." فـ "لا يتعلق الأمر بأن تضطر الأمم إلى أن تفكر بالطريقة نفسها، وإنما عليها فقط أن يعي بعضها بعضا، وأن تتفاهم فيما بينها، وإذا لم تستطع أن تتحاب فعليها، بالأقل، أن تتعلم التسامح، وسنتواصل، أكيدا، إلى تسامح عام إذا لم نتخل عما هو خاص عن الفرد والشعوب، مع اقتناعنا في الآن نفسه، بأن جدارة الخصوصية الحق، هي أن تترجم الانسانية.[77]
[1] محمد برادة، الرواية العربية بين المحلية والعالمية، الرواية العربية: الكونية أفقا، أعمال الندوة الرئيسية لمهرجان القرين الثقافي الحادي عشر، تحت عنوان: الرواية العربية وممكنات السرد، 11-13 دجنبر 2004، عدد مرفق بسلسلة عالم المعرفة، الكويت، نونبر2008، ص11
[2] يعرض دانييل هنري باجو في كتابه الأدب المقارن مسألة النشأة على أنها كانت في التاريخ أعلاه، وقد تماشى مع عرض باجو سعيد علوش في كتابه "مدارس الأدب المقارن، وقد تناوله الدكتور ابراهيم ع. الرحمان محمد في كتابه "الأدب المقارن بين النطرية والتطبيق" أن النشأة كانت سنة 1927.وقد أوضح ذلك، فرنسوا غويار، في كتابه "الأدب المقارن" أن النشأة كانت سنة 1828 على بد جاك أمبير..
[3] دانييل هنري باجو، الادب العام والمقارن، ترجمة غسان السيد منشورات اتحاد الكتاب العرب، ص11
- سعيد علوش مدارس الادب المقارن دراسة منهجية، المركز الثقافي العربي، ط1، 1987 ص7
[4] محمد عبد السلام الكفافي، في الادب المقارن، دراسات في نظرية الادب والشعر القصصي، بيروت 1972
[5] بحث في الأدب المقارن، مؤلفه مجهول،,ص5 البحث منشور على صفحة جامعة جنوب الوادي بمصر على الموقع الالكتروني: WWW.SVU.EDU.ORG
[6] أحمد درويش، نظرية الادب المقارن وتجلياتها في الادب العربي، دار الغريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة 2002، ص17
[7] محمد غنيمي هلال، الأدب المقارن، دار العودة ودار الثقافة، بيروت ط5، 1962 ص20
[8] محمد غنيمي هلال، المرجع نفسه، ص21
[9] بديع محمد جمعة، دراسات في الادب المقارن، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، ط2، 1980، ص37
[10] محمد غنيمي هلال، المرجع نفسه، ص21
[11] لا نقصد هنا نظرية المحاكاة الأرسطية بل المحاكاة تعني هنا إلى حد ما التقليد لكن بالفهم والهضم والتجاوز.
[12] محمد غنيمي هلال، المرجع نفسه، ص22
[13] بديع محمد جمعة، المرجع نفسه، ص38
[14] محمد غنيمي هلال، المرجع نفسه، ص22
[15] بديع محمد جمعة، المرجع نفسه، ص38
[16] بديع محمد جمعة، المرجع نفسه، 39
[17] محمد غنيمي هلال، المرجع نفسه، ص22
[18] بديع محمد جمعة، المرجع نفسه، ص39
[19] محمد غنيمي هلال، المرجع نفسه، ص23
[20] جماعة الثريا أو البليادPLEID : تأسست عام 1549 على يد بيردو رونسار BERDU RENSAR وكان محورها دوبلي DOUBLIE، وريمي بلو RIMI BLO، وجودل GODEL، ودورا DORA، ونائيف NAIF، وبليستييهPLISTIE
[21] محمد غنيمي هلال، المرجع نفسه، ص26
[22] محمد بديع جمعة، المرجع نفسه، ص43
[23] محمد غنيمي هلال، المرجع نفسه، ص28
[24] أحمد درويش، المرجع نفسه، ص19
[25] محمد غنيمي هلال، المرجع نفسه، ص29
[26] غنيمي هلال، المرجع نفسه، ص44
[27] بديع جمعة، المرجع نفسه، ص50
[28] المرجع نفسه، ص50
[29] أحمد درويش، المرجع نفسه، ص22
[30] غنيمي هلال، المرجع نفسه، ص49
[31] المرجع نفسه، ص49
[32] المرجع نفسه، ص50
[33] المرجع نفسه، ص52
[34] بديع جمعة، المرجع نفسه، ص54
[35] غنيمي هلال، المرجع نفسه، ص55
[36] بديع جمعة، المرجع نفسه، ص54
[37] غنيمي هلال، المرجع نفسه، ص62
[38] المرجع نفسه، ص63
[39] بديع جمعة، المرجع نفسه، ص55
[40] المرجع نفسه، ص56
[41] المرجع نفسه، ص57
[42] أحمد درويش، المرجع نفسه، ص24
[43] ماريوس فرنسوا غويار، الأدب المقارن، ترجمة: هنري زغيب، منشورات عويدات. بيروت –باريس، ط2. 1988، ص11
[44] هادي نظري منظم\ ريحانة منصوري، الأدب المقارن ومجالات البحث فيه، مجلة التراث الأدبي، السنة الثانية،العدد الثامن ، ص126
[45] بديع جمعة، م.ن، ص13، كما أورده ابراهيم عبد الرحمان محمد، الأدب المقارن بين النظرية والتطبيق، القاهرة، 1980، ص5
[46] غنيمي هلال، المرجع نفسه، ص9
[47] علوش سعيد، مدارس الأدب المقارن دراسة منهجية المركز الثقافي العربي،1987ط1
[48] ماريوس فرنسوا غويار، المرجع نفسه، ص7
[49] بديع جمعة، المرجع نفسه، ص19
[50] غنيمي هلال، المرجع نفسه، ص13
[51] المرجع نفسه، ص98
[52] بديع جمعة، المرجع نفسه، ص17
[53] المرجع نفسه، ص17
[54] محمد عبد السلام الكفافي، المرجع نفسه.
[55] عبد الحكيم حسان، الأدب المقارن بين المفهومين الفرنسي والأمريكي، مجلة فصول، عدد3، يونيو 1983، ص15
[56] عبد الحكيم حسان، المرجع نفسه، ص14
[57] بديع جمعة، المرجع نفسه، ص14
[58] سعيد علوش، المرجع نفسه، ص94
[59] هادي نظري منظم\ ريحانة منصوري، مجلة التراث الأدبي، ص130
[60] سعيد علوش، المرجع نفسه، ص95
[61] بديع جمعة، المرجع نفسه، ص20
[62] أحمد درويش، المرجع نفسه، ص29
[63] هادي نظري منظم\ ريحانة منصوري، مجلة التراث الأدبي، ص130
[64] سعيد علوش، المرجع نفسه، ص97
[65] عبد الحكيم حسان، مجلة فصول، ص15
[66] سعيد علوش، المرجع نفسه، ص97
[67] طه ندا، الادب المقارن، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، 1991، ص35
[68] طه ندا، المرجع نفسه، ص24
[69] بديع جمعة، المرجع نفسه، ص17
[70] عبد الحكيم حسان، مجلة فصول، ص16
[71] المرجع نفسه، ص 16
[72] غنيمي هلال، المرجع نفسه، ص79
[73] غنيمي هلال، المرجع نفسهن ص84
[74] أحمد شكري، المرجع نفسه، ص35
[75] المرجع نفسه، ص37
[76] هادي نظري منظم\ ريحانة منصوري، مجلة التراث الأدبي، ص140
[77] محمد برادة، المرجع نفسه، ص12