يمكن القول ان للعولمة اجندتها المنطلقة من المركز – اميركا – الى الاطراف – العالم بما بدأت به او تروم عمله من تغيير جوهري .. ترغيبا وترهيباً – في طبيعة علاقات الانسان بتاريخه وتراثه او بيئته الحياتية بما في ذلك قيمه وسلوكه وعلاقته مع مجتمعه ، بل وبعلاقته بالكون ونظرته اليه .
قد يرى بعض المهتمين بموضوعة العولمة بانها تعود بجذورها الى قرون خلت لكن المفكر الامريكي (( ناعوم تشومسكي )) يعزو نشوؤها الى بداية ظهور النظام الرأسمالي في اوربا حيث يقول ( لاجديد في النظام الدولي فالقواعد الاساسية مازالت كما هي قواعد القانون للضعفاء وسطوة القوة للاقوياء ) بينما ترى منظمة الامم المتحدة للتجارة والتنمية – وهي احدى اهم ادوات العولمة – بان العولمة ظاهرة متعددة الوجوه .. من ابرز مظاهرها النمو السريع في التجارة الدولية وتدفقات رؤوس الاموال وازدياد اهمية الخدمات في كل من التجارة والاستثمار الاجنبي المباشر على السواء .. وتكامل عوامل وازدياد اهمية الخدمات في كل من التجارة والاستثمار المباشر على السواء .. وتكامل عوامل الانتاج على الصعيد العالمي والتواؤم المؤسسي بين البلدان على الصعيد العالمي .. فيما يرى آخر بان المقصود بالعولمة هو : ( امركة مظاهر الحياة كلها ، سواء في الاقتصاد او العلوم او القيم والتقاليد وحتى الالعاب والفنون والامراض والجوع ) .. وهناك من يعتقد بان ثمة فرقاً بين العولمة التي تأتي نتيجة طبيعة للتطور العلمي والتقني وحركة الاسواق وتقدم وسائل الاتصال واعتماد التبادل .. وهذه تعد مرحلة متقدمة سواء في الصناعة او في آليات النظام الرأسمالي .. وبذلك تعتبر بهذا الشكل حتمية الحدوث .. اما من يعتقد بان العولمة نظام ايديولوجي شامل فانه يرى بانها تقف بوجه الايديولوجيات الاخرى التي تعبر عن خصوصية الهوية الثقافية .. وفي أي حال فان صحيفة (( النيويوزك تايمز )) تتنبأ بان البلدان التي ستقف في وجه قطار العولمة سوف تمنى بالانسحاق والتراجع الى خلف سكة قطار العصر الجديد .
لعل ما يتبادر الى الذهن بعد هذه المقدمة هو : هل ان العولمة تعمل على كوكبة الاقتصاد العالمي ؟ - أي هل هذا التوحيد سيكون حياديا ؟ والامر لايقتصر على الجانب الاقتصادي بل يمتد الى الجوانب الاخرى الاجتماعية والثقافية والسياسية والتاريخية فاذا علمنا بان العولمة مستمدة من الفلسفة النفعية / البراغماتية .. فهل يصح ما اشار له المفكر الفرنسي روجيه غارودي بان العولمة هي وجه آخر للاستعمار .. وان مايفعله الاميركان هو تذويب لثقافات الشعوب الاخرى . ؟
ان للعولمة آثارها الواضحة على شعوب ودول العالم منها ماهو ايجابي ومنها ماهو سلبي بل كارثي .. ولعل مايواجه العملية التربوية بصفتها منظومة اجتماعية تمثل احد اوجه النشاط الانساني بل مركز النشاط للدولة والشعب .. تعد هذه المواجهة ذات اهمية كبرى .. ولكن لعل في حسن ادارة المواجهة ما يمكن من تجنبها الكثير من المساوئ وتمكينها من محاسن العولمة ومنافعها .
اولى اهم التحديات التي تواجه العملية التربوية هي اختلال التوازن في التقدم العلمي والتقني بين المركز والاطراف – بين الشمال والجنوب – مما يؤدي الى تبعية للمركز .. تفرض عمليات اختراق الامن الثقافي للاطراف – تتجاوز عملية التثاقف الى عملية التهميش والاقصاء الى الذاكرة – وتؤدي الى زرع وتنمية الاستلاب الثقافي بين الناشئة خاصة .. (( والذي يعبر عن نفسه بصورة الانبهار بكل ماهو اجنبي مع زرع الشعور باليأس والاحباط وعدم الثقة بالنفس والمستقبل الافضل )) .. الامر الذي يؤدي الى تزعزع القيم حتى الايجابية السائدة ، وبالتالي السعي الى تقبل الثقافة المعلبـة باطر العولمة .. على حساب الخصوصية الثقافية .. لان قيادة المعرفة العلمية يتم توجيهها بحسب مصلحة القوى التي تملكها فضلا عن التأثير في صنع القرارات التربوية بقصد فرض اتجاهات وقيم تحت اغطية وشعارات براقة .. ولكن من باطنها تأتي الفلسفة البراغماتية بوجهها المادي فقط .. لتكون هذه الفلسفة هي البديل للفلسفة التربوية السابقة والتي شوهت كثيراً على ايدي الدكتاتورية .. فنكون كالمستجير بالرمضاء من النار .
لقد اصبحت العملية التربوية مفتاحاً رئيسياً واساسيا من مفاتيح التطور والتقدم لدول العالم كافة .. لذلك فان التعامل مع هذه المسألة المهمة جداً لاتقتصر على المختصين بالجانب التربوي وحسب بل يجب ان يشارك الجميع فيها استجابة للحاجات الانسانية والتنموية ووفاء بالمسؤوليات الوطنية والعالمية .
ان التغيير المنشود في اطار التربية والتعليم ومضمونها هو سمـة العصر وأس النجاح فيه ناهيك عن كونه مطلباً ضرورياً في ظل الظروف التي تنبثق عن العولمة .. واذا كانت ضرورة التغيير هذه تتعاظم اهميتها في الدول المتأخرة التي تريد اللحاق بالدول المتقدمة .. فان هذا التغيير قد شمل دولاً تدعو مؤسساتها نفسها للعولمة .. فالولايات المتحدة الاميركية التي تعتبر قضية التربية قضية امن قومي كانت قد راجعت قطاعها التربوي مرتين خلال النصف الثاني من القرن العشرين كما عبر عن ذلك كتاب (( امة معرضة للخطر )) .
وسعت اليابان الى مراجعة بعض الجوانب في مسيرتها التربوية حيث (( تنكر بعض الاوساط القيم الاصيلة والتهوين من شأن البواعث الاخلاقية في السلوك )) .. كما قامت فرنسا باعادة النظر بمناهجها التربوية واعلن وزير التربية الفرنسي ادخال مادة التربية الاخلاقية في مناهج المرحلة الثانوية قائلا : (( المدرسة ليست مصنعاً للتعليم فقـط لذا يجب اعادة الاخلاق الى المدرسة لمكافحة الانحراف الذي اصبح يهدد مجتمعنا )) .. بالاضافة الى دول عديدة في الشرق والغرب سعت وتسعى الى دراسة مخاطر التلكؤ العلمي والتقني والاخلاقي على تلك الدول .. وعند بحثها الوسائل الكفيلة بالحد من هذه المخاطر وجدت التربية والتعليم اهم تلك الوسائل .
ان النظام التربوي الذي يعمل من اجل تحقيق التقدم في مسار العملية التربوية .. ليس مطلوباً منه ان ينعزل عن العولمة ولا ان يستسلم لها .. بل عليه مواجهة جوانبها السلبية الخطيرة والافادة من الجوانب الاخرى المفيدة.. ان هذا المطلب لايمكن ان يتحقق بالتمنيات والشعارات بل يتطلب مزيداً من العمل والوقت لان التربية لاتعمل بمعزل عن الجوانب الحياتية والمجتمعية الاخرى .. لذلك فان النظام التربوي لابد وان يقوده نظام سياسي مالكاً لارادته الوطنية ومؤمناً بالديمقراطية .. وتتوفر له امكانيات مادية ومعنوية قادرة على حشد الجهد الوطني لمجابهة أي معضلة .. وان تباشير النظام السياسي في العراق الجديد لتدعو الى التفاؤل اذا ما بنيت اسسه على نبذ العنف وتحقيق السلم الاجتماعي وادامة الحوار الوطني على اساس سلطة منتخبة من قبل الشعب تقبل بالرأي والرأي الاخر وتؤمن بالتداول السلمي للسلطة وتطلق الحريات العامة وتحترم ثقافات وحقوق مكونات المجتمع من اثنية ودينية .. الخ .. وتنأى بنفسها عن مرض الاقصاء والتهميش .. وتدعو الجميع للمشاركة في القرار السياسي .. وتتعايش سلمياً ومصلحياً مع دول الجوار وتقيم افضل العلاقات المتكافئة مع دول العالم تبعاً لمصالحها الوطنية وابعادها الانسانية .. كل ذلك يتطلب وجود فلسفة اجتماعية واقتصادية وسياسية واضحة المعالم تنبثق عنها فلسفة تربوية لاعادة النظر بالاهداف والوسائل التربوية .. بحيث يتم استنفار قوى الانسان الروحية والمادية في اطار توازن يفضي الى تكامل شخصيته المستوعبة لثقافة انسانية شاملة باعثة على التفكير والتمييز والنقد واحترام الرأي الاخر .. كما يجب ان تدعو الفلسفة التربوية الى ربط التعليم بحاجات العمالة المتجددة والانتاج وتحقيق تعليم الزامي لايقل عن المرحلة الثانوية .. ووضع استراتيجية علمية وتكنولوجية يكون في مقدمة عناصرها توفير ثقافة تكنولوجية واسعة .. وتجديد التقنيات التربوية وتوطينها وانشاء شبكة معلوماتية تربوية على مستوى القطر .. والمزاوجة بين التعليم والعمل واستنبات اختصاصات علمية جديدة .. واستخدام طرق تعليم حديثة .. وتشجيع التعلم الذاتي والتعليم المستمر .. وان تتوفر مشاركة من اوساط الشعب في تمويل التعليم فضلاً عن مساهمة الدولة .. لان (( اشراك المجتمع في تسيير بعض مفاصل التعليم وتحمل جزء من مسؤولياته يساعد على تجويد التعليم ويبني احساساً لدى المواطنين بان الدولة تهتم بادائهم وتعترف بقدراتهم وتشركهم بتربية اولادهم ، وبهذا يتحقق المزيد من التفاعل والتكامل بين المؤسسات الرسمية والمواطنين )) .
ان التنبؤ بالمستقبل صعب .. لذا يتم اللجوء الى تكثير الاحتمالات المتوقعة حيث يتم توصيفها ودراستها وتبين نتائجها ليصار الى تبني افضلها لذلك فان : (( مرونة النظام التعليمي شرط لابد منه لمحافظة هذا النظام على معناه وقدرته على البقاء في عالم متجدد )) .
ان التحديات التي تفرزها العولمة .. تفرض على التربية والتعليم ان تتصدى لها ليس بمعنى الانغلاق والقطعية المعرفية .. بل بمعنى الانفتاح والاستيعاب والتوطين واعادة الانتاج والابداع .. الامر الذي يتطلب عملية تغيير واسعة النطاق لا على صعيد التربيـة فحسب بـل على مستـوى الحراك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي .. الخ .
ان الحاجة مسيسة الى تعريق النظام التربوي .. تمتد جذوره الى سومر وبابل وآشور ومروراً بالعصور العربية والاسلامية .. والعصور المظلمة والفترات الاستبدادية .. يفتخر بالتنوع الثقافي والديني والاثني للعراق ولكن برؤى انسانية تؤمن بامامة العقل وتمجد كرامة الانسان .. على اساس من الايمان والعلم لبناء مستقبل السلم والسلام والعدل والحق والحرية .. للمساهمة في صنع التاريخ الحديث للانسانية بعد فترة الذهول الحضاري الرهيب الذي حل بالامة العراقية .