I - إطلالة على النّقد القديم
1 ـ مقدّمة
يمتدّ تاريخ تطبيق مبادئ كلّ من النّقد الأدبي والنّقد التاريخي، في دراسة محتويات العهد الجديد وفي تناوله كوثيقة تاريخية، من القرن الثاني إلى أيّامنا.
أ ـ مرحلة ماقبل النّقد:
برغم أنّ نقد الكتاب المقدّس عمل تميّز به العصر الحديث، فقد خطا بعض الدّارسين في العصور الأولى للكنيسة خطى، باتجاه الدّراسة العلمية للعهد الجديد. والشّخصية البارزة في ذلك مرقيون (حوالي 150م)، الذّي تجاوز العهد القديم واليهودية وصاغ قانونا مستخلصا من العهد الجديد لدعم ما ذهب إليه في تعاليمه، ممّا دفع الكنيسة إلى معارضة مذهبه وصياغة قانون أرثوذكسي. رائد آخر من رواد نقد العهد الجديد، كان المهتدي السّوري طاسيانو (حوالي 175م)، يعدّ مؤلّفه ـ Diatessaron ـ أوّل ملخّص يقدّم الأناجيل الأربعة ضمن رواية موحّدة غير مجزّأة. وكانت لأوريجين (حوالي 185 ـ 254م) ـ الدّارس الكبير للكنيسة في الفترة السّابقة لانعقاد مجمع نيقية، وأحد رواد مدرسة الإسكندرية الشهيرة ـ مساهمتين هامتين في دراسات الكتاب المقدّس: تمثّلت الأولى في الهيكسبلا Hexapla، وهي المحاولة المسيحية الأقدم في النّقد النصّي للعهد القديم، والثانية في إيلائه الهرمنوطيقيا اهتماما، فقد خلّفت محاولاته التأويلية للنّصوص أثرا بالغا بين معاصريه بما أضفاه من دلالات مستجدّة(1).
ومن مؤلَّف "التّاريخ الكنسي" (324) لأوسيبيو (حوالي 260 ـ 340م)، مؤرّخ الكنيسة الأوّل، يمكن استخلاص عديد المعلومات الهامة عن العهد الجديد. حيث يقسّم الأناجيل إلى وحدات موجزة مرقّمة، تظهر في العهد الجديد الإغريقي لنيستلي، ووضع بينها مجموعة من التقسيمات لإبراز مظاهر التوازي الموجود بين مختلف الأناجيل.
أما أوغسطين (354 ـ 430م)، لاهوتي الغرب الكبير، فقد صاغ بمؤلفّه De consensus evangelistarum (400 م) المبادئَ التي أثّرت طيلة ألفية من الزّمن، في تناول الفوارق بين أناجيل متّى ومرقس ولوقا، وقد كان واعيا بأن صياغة الأناجيل في مجملها تعكس ذكريات عامّة أكثر من كونها نظاما
تاريخيا متناسقا وصارما، وأن أقوال المسيح ليست منقولة حرفيا دائما، بل مصوغة بعناية لحفظ المعنى. فحتى وإن ساهم العصر الوسيط، خصوصا في العهود المدرسية، في بلورة الفهم الجيّد للنصّ، فإنّ مساهماته في النقد الحديث لم تكتس أهمية عالية(2) . وبتنامي الإصلاح، مع القرن XVI، دبّ اهتمام بالكتاب المقدّس، خصوصا في الكنائس الاصلاحية، ذو طابع عقدي وغير نقدي. وكان الوجه البارز في ذلك مارتن لوثر (1483 ـ
1546م)، بمبدئه ـ sola scriptura ـ "النصّ فحسب"، الذي صار السّمة المميّزة للتأويل النصّي البروتستاني. وبرغم الجدل الذي أثير حول أعماله، فقد كانت مساهمته في دراسة العهد الجديد معتبرة. إذ ألحّ على ضرورة دراسة الكتاب المقدّس في لغاته الأصلية، مع إيلاء اهتمام بالتفاصيل التاريخية الأدبية للنصّ، حيث يرتئي أن تلك الوسيلة، هي التي تيسّر معرفة المسيح، كما شجّع على ألاّ تبقى في حيازة الدّارسين فحسب،
بل مشاعة بين الجميع. وأمّا ترجمته للكتاب المقدّس من اللّغات الأصلية للألمانية، فقد خلّفت أثرا هاما بين معاصريه امتدّ حتى قرون لاحقة. كما نجد وجها بارزا آخر من تلك الفترة وهو أ. أوسياندر ( 1498 ـ 1552م)، إصلاحي لوثري من الرّعيل الأوّل، نشر سنة 1537م خلاصة من الأناجيل طبَعت أسلوب البروتستانيين على مدى القرون اللاّحقة. وكانت مقاربته أكثر صرامة من تلك العائدة لأوغسطين، وتشير الفروقات بالنّسبة إليه،
سواء في التفصيلات أو في التتابع الزّمني، لتواجد أحداث مختلفة.
ب ـ الدّراسات النّقدية قبل القرن التاسع عشر:
شهد القرن الثامن عشر تطوّر المنهج العلمي جرّاء ما خلّفته حركتا العقلانية والاستنارة، فقد ظهر علم نقد الكتاب المقدّس مع بدء تطبيق المنهج في الدّراسات التاريخية، وخصوصا ما تعلّق منها بالكتاب المقدّس.
* كان الرّاهب والخطيب الفرنسي ر.سيمون ( 1638 - 1712م) أوّل من طبّق المنهج النّقدي على العهد الجديد، في الأجزاء الثلاثة من مؤلّفه: "التاريخ النّقدي" (1689 ـ 1692م). وبناء على أعماله، أعّد ج. د. ميكاليس المقدّمة التاريخية والنّقدية الحقيقية الأولى للعهد الجديد ( (1750.
* كما يبدو جليا من العنوان الألماني (Von Reimarus zu Wrede) "البحث عن يسوع التاريخي" لـ: أ. شويتزر، يحوز هـ.س. ريماروس 1694 - 1768 م مكانة أساسية في تاريخ نقد العهد الجديد. ففي مقتطفات من مؤلّفه:ـ Von dem Zweck Jesu und seinen Junger ـ "تطلّع المسيح وحواريّه"، الذي نشر على إثر وفاته، يميّز ريماروس المسيحَ التاريخي، الثّائر "اليهودي"، الذي فشل في مسعاه لإرساء مملكة مسيحانية على الأرض، عن المسيح الذي تتيسّر ملاقاته في الأناجيل وفي تعاليم الكنيسة، وهو خلط صِيغ من طرف التلاميذ الذين اختلسوا جثّته، ثم صاغوا عقيدتي البعث ومقاضاة الأحياء والأموات يوم الدّينونة. واعتمادا على رفض عقلاني للغيبي، كان ريماروس أوّل من سعى للتخلّص من العقيدة المسيحولوجية في الأناجيل وتطلّع لرسم المسيح التاريخي الواقعي، ولازالت أطروحاته حتى قرننا الحالي تحوز أهميّة(3).
II نشأة النّقد في القرن التاسع عشر
بالاعتماد على أعمال سابقة، طوّر دارسو القرن التاسع عشر الدّراسات الإنجيلية المحدثة، ضمن سياقين مختلفين: فمن ناحية نقدية، جرى الاهتمام بمسألة القيمة التاريخية للعهد الجديد، ومن ناحية لاهوتية، كان الانشغال بمدلولات النصّ. وسوف يكون هذان المساران أساسيين في التاريخ النّقدي اللاّحق للأناجيل.
أـ مدرسة توبنغن:
قليلة المدارس التي كان لها أثر مماثل على تأويل العهد الجديد، وقد حافظت الجامعة لاحقا على ذلك الاسم نسبة لها. فالمسائل المصاغة مع أبرز ممثّلي تلك المدرسة، والإيحاءات التي خلّفوها في الدّراسات الإنجيلية، طبعت مسار النّقد الإنجيلي اللاّحق(4).
* نشر د. ستروس1808 - 1874 م، تلميذ ف. ك باور ، كتاب "حياة المسيح" سنة 1835م، وهو تفسير جدّ متعارض مع الرّوايات الإنجيلية. فحتى تلك اللّحظة، كانت حياة المسيح، إمّا مؤوَّلة ضمن قراءة أرثوذكسية تقرّ بالتدخّل الغيبي في حياة البشر، أو مفسّرة أحداثها ذات الطابع الغيبي ظاهريا بنزعة عقلية. أدمج ستروس إمكانية ثالثة، متمثّلة في التأويل الأسطوري، وبحسب تلك الرّؤية، تعرض الأناجيل مجموعة من الوقائع التاريخية، حُوِّرت وحُجِبت بفعل إيمان الكنيسة. أنهى ستروس عمله خالصا لاستحالة كتابة سيرة المسيح، لكون الأناجيل تلغي النّظر للمسيح كجزء من التاريخ، وما تقدّمه من وقائع، هي عبارة عن مقتطفات متناثرة فحسب، يعود تنظيمها للمدوّنين(5) .
خلّف عمل ستروس أثرا عميقا على كاتبين آخرين من القرن التاسع عشر هما: ب. باوور 1809 - 1882م، الذي تجاوز عديد الأسس التاريخية التي اعتمدها ستروس، واحتفظ فقط بالأسطورة، معتبرا يسوع وبولس ابداعات أدبية تفتقد لأيّ سند تاريخي، وأرنست رينان 1823 - 1892م الذي سوّى بين الغيبي واللاّواقعي في مؤلّفه "حياة المسيح" (1863م)، عارضا فيه على قرّائه مسيحا إنسانيا.
* كان ف. ك بور 1792 - 1860م أستاذ ستروس، وهو وبدون منازع، منظّر مدرسة توبنغن، وأحد أهمّ دارسي العهد الجديد في القرن التاسع عشر. وحتى وإن تمّ الاحتفاظ بالقليل من مقترحاته إلى اليوم، فإن المسائل التي أثارها، حافظت على نفاذها، إذ يعود له الفضل في دفع نقد العهد الجديد إلى مستوى يتميّز بطابع علمي. فتاريخ المسيحية، من سنة 40 إلى 160م، يمثّل بالنسبة لبور، وذلك ضمن سياق هيغلي، تاريخ توتّر وصراع، أُختُتِم بمصالحة. فقد كان صراع المعارضة التحرّرية البولسية، برسالتها المنعتقة من الشّريعة والدّاعية لكونية الرّسالة الكنسية، على تناقض مع تشدّد التشريع اليهودي المتبنّى من طرف الحواريين الأوائل بزعامة بطرس، عبر التأكيد على التعاليم اليهودية. من هذا التعارض بين الأطروحات، ظهرت الكنيسة الكاثوليكية وتشريع العهد الجديد اللّذين ألغيا أي خلاف، ووضعا بطرس وبولس في نفس المستوى. كان مسرح هذا التركيب القرن الثّاني، حيث تقلّص العداء واستعيض عنه بتهديد مشترك من الغنوصية. كانت لفرضيات بور، بشأن مسألتي صياغة العهد الجديد وتاريخيته، تأثيرات في غاية الأهمية. حيث خلص إلى أنّه ما كانت توجد قبل سنة 70م سوى رسائل بولس الأصلية (رومة 1 ـ 2 وكورنثوس 1 ـ 2 وغلاطية). كما تمّ اختبار يهودية متّى بما سبقها، ومن التّعارض بين متّى وبولسية لوقا تجلّت خلاصات مرقس، وقد ضُبِطت تواريخ الأعمال وإنجيل يوحنّا حوالي منتصف القرن الثّاني.
يمثّل التطبيق الصّارم للمبادئ الهيغلية، إضافة إلى الأهمّية الكبرى المنوطة بأثر اليهودية على المسيحية البدئية، الخاصيات الأكثر جلاء لعمل بور. لكن المساهمات التي أسهم بها في الدّراسات المحدثة للعهد الجديد، كانت دون شكّ في غاية الأهمية. ففي مستوى أوّل، تعامل مع العهد الجديد بصفته جزءا من تاريخ المسيحية، مبيّنا أنه من انتاج الكنيسة البدئية، وهو ما يعكس روح حقبة محدّدة. وفي مستوى ثان، جعله هذا المعطى التاريخي يقرّ أن دراسة العهد الجديد ينبغي أن تبدأ من التواريخ الأكثر قدما، أي من الكتابات البولسية. وفي مستوى ثالث، أقرّ بأهمّية بولس ولاهوته. وبالنهاية عمل على إرساء تمييز دقيق بين أناجيل كلّ من متّى ومرقس ولوقا من ناحية، وإنجيل يوحنا(6).
ب ـ ردود الفعل على مدرسة توبنغن:
يفسح العمل النّقدي لستروس وبور المجال لخيارين فحسب: إمّا إلى تقديس عفوي للكتاب المقدّس، مع رفض دغمائي لعرضه على محكّ الدّراسة النقدية، أو إلى قبول بالنّقد الألماني الذي يبدو لا منأى منه في تدمير المسيحية الأرثوذكية. تمثّلت مهمّة الدّراسات المحدثة للعهد الجديد في النّصف الثاني من القرن XIXفي بلورة إمكانية ثالثة، وهي القبول بالمنهج التاريخي النّقدي المنحصر داخل فرضيات بور ونتائجه. في أنجلترا تولى تلك المهمّة ثلاثة من كمبريدج، وفي ألمانيا تكلّف بذلك العمل أ.فون هرناك.
وطّد الدّارسون الثلاثة الكبار بكمبريدج الصّلة بمدرسة توبنغن، واضعين رهن الإنجاز تفسيرا نقديا لمجمل العهد الجديد. وقد أُنجِز ذلك التفسير بشكل تاريخي وفيلولوجي في غاية الإتقان، اعتمادا على طبعة نقدية للعهد الجديد الإغريقي، صيغت داخل سياق الحقبة التي أنتجتها. وحتى وإن لم يبلغ المشروع منتهاه، فإنه يصعب تقدير الأثر الذي خلّفه ثلاثي كمبريدج على الدّراسات المحدثة للعهد الجديد(7).
* انشغل ج. ب. لايتفوت 1828 - 1889م بدءا بسلسلة من التعليقات على رسائل بولس، ولم يختلف عن بور في ضرورة البدء بالدّراسة النّقدية للعهد الجديد انطلاقا من بولس، حيث أتم رسالة مؤمني غلاطية 1865م، ومؤمني فيليبي 1868م، وقد جعل منه الانشغال بالرّسائل حذرا في تناول مسألة تواريخ العهد الجديد، الأمر الذي دفع الدّراسات النّقدية اللاحقة، في جزء كبير منها، للقبول بالتواريخ التي حدّدها لكتب العهد الجديد، ولكن لايتفوت تنبّه أن نظريات توبنغن سيكون مصيرها الانهيار لو تم إرساء تواريخ أكثر قدما لمتن أدبي لاحق للعهد الجديد. واكتشف لايتفوت مراده في نقطة انطلاق من رسائل إغنازيو الأنطاكي وفي رسالة كليمنت دي روما، وهي أدبيات تحوي إلماحات لمجمل كتب العهد الجديد. ظهرت نتائج المجهودات القيّمة للايتفوت خلال 1885م، كما تم نشر الآثار المتعلّقة بكليمنت بعد مماته سنة 1890م. فبفضل مجهود بحث تاريخي، تقرّرت صياغة رسالة كليمنت في أواخر القرن الأوّل، والرّسائل السّبع الأصلية لإغنازيو مع بداية القرن الثاني. وعلاوة على ما توفّره هذه الأدبيّات من مرجعية زمنية لتاريخية العهد الجديد، فهي تقدّم صورة عن حياة الكنيسة في المراكز الكبرى الثلاثة، أنطاكية وأفسس (اغنازيو) وروما (كليمنت)، بين منتهى القرن الأوّل وبداية القرن الثاني الميلادي، وتوفّر معلومات عن صراع مرير وطويل بين حزبي بولس وبطرس، يجمع إغنازيو وكليمنت بينهما باسمي الحواريين الكبيرين، وتلك العملية بالنسبة لبور تكاد تكون مستحيلة قبل منتصف القرن الثاني(8).
* كان عمل ب. ف واستكوت 1825 – 1901م، أحد التفاسير الثّلاثة المميّزة في كمبريدج، تناول فيه إنجيل يوحنّا، وهو مزيج رائع بين النّقد واللاّهوت، ظهرت طبعته الأولى سنة 1880م، ثم أعيد نشره سنة 1958م، ثم لاحقا سنة 1966م بعنوان:ـThe Epistles of St. Johnـ.
* من الأعمال القليلة المنشورة لـ: ف.ج.أ هورت 1828 - 1892م، مؤلّفان على أهمية عالية يتناولان تاريخ الكنيسة البدئية: الأوّل بعنوان "المسيحية اليهودية" (1894م) و "الاكليسيا المسيحية" (1897م). وأمّا في مشروع التفسير فقد ساهم بعمل فقط بشأن رسائل بطرس 1: 1،1-2، 17 سنة 1898م.
لم تتأسّس شهرة واستكوت وهورت على هذه الأعمال فحسب، بل على النّشر النّقدي للعهد الجديد الإغريقي أيضا. إذ لحدّ تلك اللّحظة استعمَلت الدّراسات المحدَثة للعهد الجديد نصّ ـ textus receptus ـ، وهو نصّ يعود لأرازم نشر خلال سنة 1516م، أعتُمد فيه على مصادر مخطوطة ونادرة. ولكن واستكوت وهورت صاغا منهجا علميا للنّقد، تجلّى من خلال نشر النصّ النّقدي للعهد الجديد سنة 1881م مشفوعا بمقدّمة وافية في علم نقد النصوص.
* يعدّ أ. فون هرناك 1851 - 1930م من أبرز رجال اللاّهوت البروتستانيين في القرن XIX، فهو دارس موسوعي وخبير في الدّراسات التوراتية وفي فترة الآباء وتاريخ الكنيسة واللاّهوت المنهجي. إذ على شاكلة بور، غاص في وثائق العهد الجديد بصفته مؤرّخا للكنيسة البدئية، ولكن باختلاف مع سابقيه، تحدّى الأرثوذكسية الجديدة لتوبنغن في نداء "الرّجوع للأصل!". ولا يتعلّق الأمر لديه بالدعوى لهجران المناهج التاريخية النّقدية، ولا بتقبل عفوي للعهد الجديد اعتمادا على سطوته عبر الحقب السّابقة للكنيسة، بل بخلاف مع ذلك، بالسعي للتوظيف النّبيه للمنهج النّقدي، حيث عالج هرناك المسألة وخلَص أن بور قد ألغى بشكل متسرّع، في غياب نقد للأفكار التقليدية، أصل العهد الجديد وتطوّره.
نجد أنموذجا من منهج هرناك في ثلاثيته المتعلّقة بلوقا: "لوقا المعلّم" (1906م)، و "أعمال الرّسل" (1908م)، و "تواريخ الأعمال وأناجيل متى ومرقس ولوقا" (1911م). ففي هذه الأعمال دعم البحث النّقدي لهرناك الفهمَ التقليديَّ، الذي ينسب للوقا رفيق بولس، بشأن القرابة بين لوقا والأعمال. هذا الموقف الذي تم تجاوزه منذ ستّين سنة على إثر نقد بور، يبقى العمل الشهير لهرناك، والذي ليس من صنف الدّراسات النّقدية، بل سلسة من الدّروس المعروضة على العموم تحت عنوان "روح المسيحيّة"، والذي نشر في طبعته الألمانية الأصلية سنة 1900م، وصار يعبّر عن العرض الكلاسيكي للبروتستانية التحرّرية. فبالنسبة لهرناك، تتمثّل "روح المسيحية" في بعض الحقائق الأخلاقية المعلَنة من طرف المسيح مثل: الأبوّة الإلهية، والأخوّة البشرية، والقيمة المطلقة للرّوح الإنسانية. وهي مواقف تناقض شويتزر، الذي يذهب إلى مقولة أن المسيح لم يصدح بسلسلة من المبادئ اللاّزمنية، بل بالنهاية المرتقبة لنظام عالمه(9).
* ومن الوجوه التي يصعب تصنيفها، نجد أ. شلاتر 1852 - 1938م، فقد تأثّر بهرناك وبالمسائل التي أثارتها مدرسة توبنغن، تبقى مقاربته للعهد الجديد أسلوبا محوريا مستقلاّ. فهو بارع حقّا، سواء في الدراسات العقدية أو في دراسات الكتاب المقدّس. وبرغم أن مقاربته عُدّت محافظة، فإن جانبا من أعماله سبق التطوّرات العلمية اللاّحقة. أما تعليقاته على إنجيل متّى - Der Evangelist Matthus, 1929 - مثلا، فتتمتّع بأهمّية عالية. وتكشف المرجعيات المعتادة لـ"الإنجيلي" عن وعي بدور آثار كتّاب الأناجيل، السّابقة لصياغة تاريخ الكتابة. فالوعي بأهمية التاريخ في دراسات الكتاب المقدّس، والمعرفة الواسعة، سواء بالعهد الجديد أو بالعهد القديم، والتأكيد على كون الكتاب المقدّس يؤدّي إلى الإيمان الذاتي، مثّلت مساهمات ساعدت على فهم السّحر النافذ لشلاتر وإعادة نشر أعماله المتكرّرة مثل:
Die Geschichte des Christus, 1923، Die Theologie der Apostel, 1922 ، المنشوران معا في مؤلّف موحّد بعنوان: Die Theologie des Neuen Testaments,(10) 1909/ 10، و Gottes Gerchtigkeit, 1935..
III التحوّل من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين
1 ـ الدّراسات اللّغوية وبنية العهد الجديد
بدا السّؤال اللاّهوتي للمعنى الدّيني للعهد الجديد، في تحليلات باور وفي أعمال هرناك وثلاثي كمبريدج، أكثر إلحاحا. وللإجابة عن ذلك بطريقة مناسبة كان لابدّ من تطوير دراسات نثرية عميقة، شبيهة بتلك المتعلّقة بلغة العهد الجديد وبنيته.
أ ـ لغة العهد الجديد: في إحدى دروسه سنة 1863م، أصرّ لايتفوت على أن اكتشاف أسلوب الكلام والكتابة لدى أناس القرن الأوّل، سيساهم في تطوير فهمنا للغة العهد الجديد. وترافق الأمر بشأن في غاية الأهمية على إثر اكتشاف برديات ومخطوطات قديمة في النّصف الثّاني من القرن XIX، ستحوز قيمة عالية.
* يعود الفضل لـ: ك. فون تيشندورف 1815 ـ1874م في اكتشاف أثر هام له صلة بتاريخ دراسات الكتاب المقدّس. ففي سنة 1859م عثر في دير على جبل سيناء على إحدى أقدم النّصوص المقدّسة، التي تحوي العهد الجديد الذي بحوزتنا الآن:ـCodex sinaiticusـ. ستوضع مساهمة تيشندورف في دراسة نصّ العهد الجديد، في مستوى أعمال لوستكوت وهورت لأهميتها.
* ومع نهاية القرن XIX سيتكرّر العثور في مصر على أوراق البردي، التي ساهم المناخ الجاف للمنطقة في حفظها. وهي في جانب كبير متكوّنة من وثائق شعبية: رسائل ومحكيات ونصوص، تقريبا من نوع المواد التي تحدّث عنها لايتفوت، كتب بعضها بالإغريقية الشائعة زمن العهد الجديد، المعروفة بالـ: koiné. وقد كان أ. ديسمان 1866 - 1937م رائد تطبيق المعرفة الجديدة المتعلّقة بالعهد الجديد الناتجة عن بعض الاكتشافات. حيث كان العنوان الثاني لدراساته بشأن الكتاب المقدّس (1895م): "مساهمات في تاريخ اللّغة والأدب والدّين اليهودي الهلّيني والمسيحية البدئية المستمدّة أساسا من البرديات والنقائش"، والذي عرض فيه ملخّصا هاما لعمله. ألحق هذا الكتاب بمؤلّفٍ ثان، بنفس الغرض: "أضواء من الشّرق القديم "1908م.
ب ـ بنية العهد الجديد: علاوة على التطوّرات المنجزة في الدّراسات اللّغوية، حازت دراسة العهد الجديد، في فترة التحوّل تلك، مغانم من المعرفة المتطوّرة باستمرار عن عالم "العهد الجديد"، سواء ما تعلّق منها بالتاريخ أو الجغرافيا أو بالسّياسة والدّين حينها، أو بالأنماط الفكرية والأدبية. باختصار بكل ما يتعلّق ببنيته.
* يرتبط اسم أ. هاتش 1835ـ1889م شديد الارتباط بـ: هـ.أ. ردباث، فقد أنتجا معا مؤلّفا مشتركا للمترادفات LXX نشر سنة 1897م. بيد أن عملنا في هذا الموضع يتركّز على كتاب أقلّ شهرة، ظهر سنة 1889م وأعيد طبعه سنة 1957م، وقد حظي بأهمية لدى هرناك. ففي مؤلّف "أثر الأفكار الإغريقية في المسيحية"، يحلّل هاتش موضوعا ذا أهمية لدى الدّارسين، وهو مسألة تداخل المسيحية مع فضائها الهلّيني، إضافة إلى التمييز بين العناصر السّامية والهلّينية في الإيمان والفكر المسيحيين. تتلخّص أهمّية هذا الموضوع في أثره على مدرسة تاريخ الأديان، كما يمثّل أحد أهمّ المؤثّرات على فكر رودولف بولتمان.
* الأبوكاليبس بشكل ما، هو جنس أدبي متميّز عما نجده في العصر الحديث، لكن على غاية من الأهمية في تفسير العهد الجديد، فهو ينبع من عالم مخترق بالأنماط الفكرية والأدبية الأُخروية العبرية. كان ر.هـ. شارلز 1855ـ1931م الدّارس المتميّز للآداب الأخروية عموما وللأدب العبري المنحول بصفة أدقّ، قد أعدّ عملا في الشأن: "الكتابات المنحولة والمنسوبة للعهد القديم بالأنجليزية" (1913م)، منجزا بذلك أهمّ المساهمات في الميدان. وخلال سنة 1920م، وعبر توظيف معرفته الواسعة، عرض عملين بشأن تفسير الأدب المنحول في "التفسير النقدي العالمي" ICC.
* و.م. رمساي 1851ـ 1939م، هو عالم آثار ومؤرّخ وباحث شغوف بشؤون آسيا الصغرى، مهد المسيحية الأولى. أُشتُهر خاصة بعملين هامّين: "القدّيس بولس الرحّالة والمواطن الرّوماني" (1895م) و "مدن القدّيس بولس" 1907م، يشرح فيهما السّندات التاريخية والسياسية والجغرافية لـ"أعمال الرّسل"، منطلقا من موقف جوهري متشكّك في القيمة التاريخية لهذا الكتاب. فقد اقتنع رمساي عبر أبحاثه التاريخية والأثرية عن آسيا الصغرى، التي عرفها وجابها بولس، بأهمية الاستناد على لوقا كمؤرّخ معايش للأحداث الجارية. فعلى ضوء المعطيات الأثرية، تبيِّن كتابات لوقا وتعكس بصدق الأوضاع في المنتصف الثاني من القرن الأوّل. فالدّراسات المتعلّقة ببولس، والعالم الإغريقي الرّوماني الذي ضرب في أصقاعه، لعبت دورا هاما في إعادة رسم صورة الحواري كشخص بشري. أقل شهرة، لكن ذات جدوى دراسته: "رسائل عن كنائس آسيا السّبع" (1904م)، التي بيّن فيها أهمّية الطّقس الإمبراطوري الذي كان وراء محنة الكنيسة في آسيا القيصرية، وأثر الجغرافيا التاريخية على صورة الكنائس السّبع(11).
2 ـ الأناجيل الثّلاثة (متى ومرقس ولوقا): النّقد والتطوّر
يثير التّفسير الحديث للعهد الجديد مسألتين أساسيتين: الأولى بشأن التّماثل بين الأناجيل الثّلاثة، والثانية متعلّقة بروايات العهد الجديد، عن حياة يسوع المسيح وموته. سيجلب كلا الأمرين انتباه الدّارسين في القرن XX.
أ ـ أولوية مرقس ونظريّة المصدرين
على مدى زمن طويل، حاز الإنجيل المنسوب لمرقس عناية دراسية أقلّ، ضمن تاريخ شروحات العهد الجديد. فبالنسبة لأوغسطين، لم يكن سوى نسخة مختصرة لإنجيل متّى، ومع القرن XIX فقط بدأ دارسو العهد الجديد بالعودة لمرقس، كردّ على انتقادات ستراوس للأسس التاريخية للمسيحيّة، في مسعى للحفاظ على تاريخية الإيمان المسيحي، كونه دين يعتمد على الحضور التاريخي لشخصية يسوع النّاصري. جرى توظيف المنهج التاريخي النّقدي لاكتشاف المنابع الأساسية لروايات العهد الجديد عن المسيح. وهذا النوع من البحث، تمّت بلورته من خلال العمل الهام لـ: ج. ج غريباش 1745ـ1812م، الذي أقرّ بفروقات تميّز إنجيل يوحنّا عن الأناجيل الثّلاثة الأولى، وبإمكانية جمع أناجيل متّى ومرقس ولوقا ضمن خلاصة مشتركة، مبيّنا في نفس الوقت استحالة إرساء التناسق بين الأناجيل، حيث لم يول دارسو الأناجيل أي اهتمام لمسألة الانتظام الزّمني.
* مع سنة 1835م، بنشر ك. لاكمان 1793 – 1851م مؤلّفه ـ De ordine narrationum in evangeliis synopticis ـ، حصل تطوّر جلي، دفع لتقديم أولوّية الفرضية الأدبيّة لمرقس، والتأكيد على اقترابه أكثر من غيره من الترجمة الأصلية، معتبرا إياه المصدر الأساسي لأيّ مسعى للعودة لأصول المسيحية.
* في سنة 1838م، طوّر ش. هـ. ويس 1801 - 1866م فرَضيّة لاكمان بإدماج مصدر آخر، متكوّن من مجموعة الأقوال المنسوبة لمتّى ولوقا، نعت بمصدر "Q"، وبذلك رُسِمت الخطوط الأساسية لنظرية المصدرين الكلاسيكيّة.
ب ـ النّقد العلمي للمصادر: يرتكز عمل كلّ من لاكمان وويس بالأساس على الحدس، وقد كانت المهمّة اللاّحقة للنقد في عرض نظرياتهم على المحك العلمي.
* خلال سنة 1863م، نشر هـ.ج. هولتزمان 1832 - 1910م نتائج دراساته القيّمة، التي تتوجّه بالأساس لاختبار نظرية المصدرين علميا، تحت عنوان: ـDie synoptichen Evangelien ـ. كان الاستنتاج لديه، أن إنجيل مرقس يمثّل الوثيقة الرّسولية الأصلية، وخلْف نصّي متّى ولوقا توجد وثيقة أخرى مكتوبة، هي عبارة عن مجموعة قديمة من أقوال المسيح وتعاليمه، ومن المحتمل احتواءها أيضا على بعض القصص، مثل التعميد وروايات التجربة.
* نولي الآن اهتماما بالقرن العشرين وبالباحث الذي رسم لنظرية نقد المصادر خاصياتها الكلاسيكية. استعان ب.هـ. ستريتر 1874 - 1937م بعملين: نشْر كتاب العهد الجديد لويستكوت وهورت، وعمل هولتزمان. وعلى أساس تقبّل شبه إجمالي، لفرضية المصدرين، اقترح ستريتر تطويرا للنّظرية في مؤلّفه: "الإنجيل الرّابع: دراسة في الأصول" (1924م). حسب رأيه، جرّاء ما يربط روما بمرقس ( المدوَّن إنجيله حوالي 65 ـ70م) من تقاليد مميّزة بشأن المسيح، فإن ذلك الأمر، يوحي باحتمال امتلاك المراكز المسيحية الثّلاثة الكبرى لتقاليد محلّية مشابهة. اعتمادا على تلك الفرضية ألحق المصدر "Q" بأنطاكية، ونسبت إلى قيصرية المادة الأصلية الخاصة بلوقا، كما ألحقت المادة الأساسية لمتّى بأورشليم، وعلى هذه الأسس حدِّدت الصياغة النّهائية للوقا حول سنة 80 ومتى حول سنة 85.
كانت المساهمة الكبرى لستريتر في بيان أن المصادر المتّصلة بالأناجيل الثلاثة: (متّى ومرقس ولوقا) هي أربعة لا اثنان، وما عمّق النقاش حول الفكرة القائلة بأربع وثائق مكتوبة، ميل الدّارسين حتى أيّامنا للحديث عن حلقات تراث شفوي. ويمثّل عمل ستريتر كلمة الختام في حقل نقد المصادر، فلمّا نشر كتابه، كان الدّارسون بصدد تحويل انتباههم من نقد المصادر إلى نقد الشّكل.
ج ـ أصول الأناجيل: المسألة الآرامية
واصلت مسألة التّداخل بين المؤثّرات السّامية والإغريقية في العهد الجديد جذب النقّاد باستمرار. والعلامة الأكثر جلاء ضمن هذا الاهتمام، ربما تتلخّص في المجلّدات الخمسة لتفسير العهد الجديد التي أعِدّت عن مصادر الأحبار من طرف: هـ.ل. ستراك و ب. بيلرباك: ـ Kommentar zum Neuen Testament aus Talmud und Midrasch ـ (1922-1961م)، وأيضا مع ج. بونسيرفن في مؤلّفه: ـ نصوص الأحبار خلال القرن الأول والثاني المسيحيين وأثرها في الإلمام بالعهد الجديد ـ روما 1955، وكذلك أيضا مع: و.د. دافييس في كتابه:ـ بولس ويهودية الأحبار ـ (لندن 1955)، ومع أ.ب. ساندرس في مؤلّفه:ـ بولس واليهودية الفلسطينية ـ فيلادلفيا 1977.
كشَف نقد المصادر عن حضور عديد العناصر في الأناجيل، ذات الخاصيات الآرامية خلف تلك الإغريقية. وكان من رواد هذا الحقل ج. دالمان 1855 - 1941م، وهو من الدّارسين الكبار للآرامية. فقد عرض موقفا متحفّظا ومحدودا لما يتعلّق بالتأثير الآرامي في العهد الجديد، وكان كتابه الأكثر أهمّية:ـ Die Worte Jesus ـ (1898)، الذي بيّن فيه بيقين، أن اللّغة التي تكلّم بها المسيح مع تلاميذه كانت الآرامية، وحتى وإن بدت غير مستحيلة فرضية أصالة الآرامية التي نبعت منها الأناجيل الثلاثة، فإن ألفاظ المسيح المنقولة عبر الأناجيل تعرض دون أدنى ريب ذلك التأثير الآرامي.
النظرية الشّاملة بشأن الأصول الآرامية للعهد الجديد وجدت مدافعا فذّا في ك.ك. تورّاي 1863 - 1956م، حيث أكّد في مؤلّفيه: "الإنجيل الرّابع" (1933م) و "أناجيلنا المترجمة" (1936م)، أن الأناجيل هي ترجمات عن أصول آرامية، لكن تلك الأطروحة لم تقنع أغلب دارسي العهد الجديد.
ركّز ك. ف. بورناي 1868 - 1925م اهتمامه على إنجيل يوحنّا، وبخلاف ما كان شائعا أنه الإنجيل الأكثر تأثّرا بالثّقافة الهلّينية، أجلى خاصياته السّامية. نجد توضيحا لذلك في مؤلّفه: "الأصل الآرامي للإنجيل الرّابع" 1922م، وعلى شبه مع تورّاي، ذهب لاحتمال ترجمة إنجيل يوحنّا عن أصل آرامي.
بيّن ج. جرمياس 1900-1979م، تلميذ دالمان، أهمّية الآرامية كأداة في الدّراسات الإنجيلية في مؤلّفيه: "أمثال المسيح" (1947م) و " كلمات العشاء الأخير" (1949). وفي كلي المؤلّفين اعتمد جرمياس على الرّوايات الإغريقية للكنيسة البدئية في إعادة بناء الأصل الآرامي المتلفّظ به من طرف المسيح والسّعي لاستعادة كلمته الأصلية.
خلال 1946 تبيّنت أهميّة مؤلّف م. بلاك "مقاربة للأناجيل والأعمال"، فقد حاز تحليله موضعا وسطا بين تورّاي وبورناي، كون الآراميات تظهر جليّا وبتتابع بين ألفاظ المسيح، وكان مستلزما على تراث الأناجيل الثّلاثة العثور على مصدر مكتوب أو شفوي للأقوال الآرامية. ولكنّ الأعمال اللاّحقة لـ: ج. فرميس، وخصوصا لـ: ج. أ. فيتزماير حذّرت الدّارسين من اعتماد وثائق الآرامية اليهودية لإثبات الآرامية السّائدة زمن المسيح.
المؤلفان جون. س. كسِلمان ورونالد. د. ويثروب: الأوّل أستاذ العهد القديم في "Weston School of Theology" بكمبريدج وماساشوسيت بالولايات المتحدة الأمريكية، والثاني أستاذ الكتاب المقدّس في "St. Patrick's Seminary, Menlo Park" بكاليفورنيا. وقد وردت الدّراسة ضمن النسخة الإيطالية المعنونة بـ:
Nuovo Grande Commentario biblico, Editrice Queriniana, Brescia, Italia, 1997
المترجم: أستاذ تونسي بجامعة لاسابيينسا بروما.
(1) ـ J.W. Trigg, Origen: The Bible and Philosophy in the Third-Century Church. Atlanta 1983.
(2) ـ بشأن الأعمال النقدية القروسطية المتعلّقة بالمسيح، أنظر: H. K. McArthur, The quest Through the Centuries. Philadelphia 1966. 57-84.
(3) ـ C.H. Talbert (ed), Reimarus: Fragments (Philadelphia 1970).
(4) ـ H. Harris, The Tübingen School (Oxford 1975).
(5) ـ R.S. Cromwell, David Friedrich Strauss and his Place in Modern Thought (Fairlawn 1974); H. Harris, David Friedrich Strauss and His Theology (Cambridge 1973).
(6) ـ P.C. Hodgson, The formation of Historical Thelogy, New York 1966; R. Morgan, Exp Tim 90, 1978, 4 - 10.
(7) ـ P.C.N Conder, Theology 77, 1974, 422-431; Neil, The Interpretation of the New Testament, 33-76; G.A. Patrick, Exp Tim 90, 1978, 77-81.
(8) ـ B.N. Kaye, NovT 26, 1984, 193-224.
(9) ـ G.W. Glick, The Reality of Christianity, New York, 1967; R.H. Hiers, Jesus and Ethics, Fhiladelphia, 1968, 11-38.
(10) ـ G. Egg. Adolf Schlatters Kritische Position, Stuttgart, 1968; P. Stuhlmacher, NTS 24, 1978, 433 ـ 446.
(11) ـ W.W. Casque, Sir William M. Ramsay (Grand Rapids 1966).
ب ـ الدّراسات النّقدية قبل القرن التاسع عشر:
شهد القرن الثامن عشر تطوّر المنهج العلمي جرّاء ما خلّفته حركتا العقلانية والاستنارة، فقد ظهر علم نقد الكتاب المقدّس مع بدء تطبيق المنهج في الدّراسات التاريخية، وخصوصا ما تعلّق منها بالكتاب المقدّس.
* كان الرّاهب والخطيب الفرنسي ر.سيمون ( 1638 - 1712م) أوّل من طبّق المنهج النّقدي على العهد الجديد، في الأجزاء الثلاثة من مؤلّفه: "التاريخ النّقدي" (1689 ـ 1692م). وبناء على أعماله، أعّد ج. د. ميكاليس المقدّمة التاريخية والنّقدية الحقيقية الأولى للعهد الجديد ( (1750.
* كما يبدو جليا من العنوان الألماني (Von Reimarus zu Wrede) "البحث عن يسوع التاريخي" لـ: أ. شويتزر، يحوز هـ.س. ريماروس 1694 - 1768 م مكانة أساسية في تاريخ نقد العهد الجديد. ففي مقتطفات من مؤلّفه:ـ Von dem Zweck Jesu und seinen Junger ـ "تطلّع المسيح وحواريّه"، الذي نشر على إثر وفاته، يميّز ريماروس المسيحَ التاريخي، الثّائر "اليهودي"، الذي فشل في مسعاه لإرساء مملكة مسيحانية على الأرض، عن المسيح الذي تتيسّر ملاقاته في الأناجيل وفي تعاليم الكنيسة، وهو خلط صِيغ من طرف التلاميذ الذين اختلسوا جثّته، ثم صاغوا عقيدتي البعث ومقاضاة الأحياء والأموات يوم الدّينونة. واعتمادا على رفض عقلاني للغيبي، كان ريماروس أوّل من سعى للتخلّص من العقيدة المسيحولوجية في الأناجيل وتطلّع لرسم المسيح التاريخي الواقعي، ولازالت أطروحاته حتى قرننا الحالي تحوز أهميّة(3).
II نشأة النّقد في القرن التاسع عشر
بالاعتماد على أعمال سابقة، طوّر دارسو القرن التاسع عشر الدّراسات الإنجيلية المحدثة، ضمن سياقين مختلفين: فمن ناحية نقدية، جرى الاهتمام بمسألة القيمة التاريخية للعهد الجديد، ومن ناحية لاهوتية، كان الانشغال بمدلولات النصّ. وسوف يكون هذان المساران أساسيين في التاريخ النّقدي اللاّحق للأناجيل.
أـ مدرسة توبنغن:
قليلة المدارس التي كان لها أثر مماثل على تأويل العهد الجديد، وقد حافظت الجامعة لاحقا على ذلك الاسم نسبة لها. فالمسائل المصاغة مع أبرز ممثّلي تلك المدرسة، والإيحاءات التي خلّفوها في الدّراسات الإنجيلية، طبعت مسار النّقد الإنجيلي اللاّحق(4).
* نشر د. ستروس1808 - 1874 م، تلميذ ف. ك باور ، كتاب "حياة المسيح" سنة 1835م، وهو تفسير جدّ متعارض مع الرّوايات الإنجيلية. فحتى تلك اللّحظة، كانت حياة المسيح، إمّا مؤوَّلة ضمن قراءة أرثوذكسية تقرّ بالتدخّل الغيبي في حياة البشر، أو مفسّرة أحداثها ذات الطابع الغيبي ظاهريا بنزعة عقلية. أدمج ستروس إمكانية ثالثة، متمثّلة في التأويل الأسطوري، وبحسب تلك الرّؤية، تعرض الأناجيل مجموعة من الوقائع التاريخية، حُوِّرت وحُجِبت بفعل إيمان الكنيسة. أنهى ستروس عمله خالصا لاستحالة كتابة سيرة المسيح، لكون الأناجيل تلغي النّظر للمسيح كجزء من التاريخ، وما تقدّمه من وقائع، هي عبارة عن مقتطفات متناثرة فحسب، يعود تنظيمها للمدوّنين(5) .
خلّف عمل ستروس أثرا عميقا على كاتبين آخرين من القرن التاسع عشر هما: ب. باوور 1809 - 1882م، الذي تجاوز عديد الأسس التاريخية التي اعتمدها ستروس، واحتفظ فقط بالأسطورة، معتبرا يسوع وبولس ابداعات أدبية تفتقد لأيّ سند تاريخي، وأرنست رينان 1823 - 1892م الذي سوّى بين الغيبي واللاّواقعي في مؤلّفه "حياة المسيح" (1863م)، عارضا فيه على قرّائه مسيحا إنسانيا.
* كان ف. ك بور 1792 - 1860م أستاذ ستروس، وهو وبدون منازع، منظّر مدرسة توبنغن، وأحد أهمّ دارسي العهد الجديد في القرن التاسع عشر. وحتى وإن تمّ الاحتفاظ بالقليل من مقترحاته إلى اليوم، فإن المسائل التي أثارها، حافظت على نفاذها، إذ يعود له الفضل في دفع نقد العهد الجديد إلى مستوى يتميّز بطابع علمي. فتاريخ المسيحية، من سنة 40 إلى 160م، يمثّل بالنسبة لبور، وذلك ضمن سياق هيغلي، تاريخ توتّر وصراع، أُختُتِم بمصالحة. فقد كان صراع المعارضة التحرّرية البولسية، برسالتها المنعتقة من الشّريعة والدّاعية لكونية الرّسالة الكنسية، على تناقض مع تشدّد التشريع اليهودي المتبنّى من طرف الحواريين الأوائل بزعامة بطرس، عبر التأكيد على التعاليم اليهودية. من هذا التعارض بين الأطروحات، ظهرت الكنيسة الكاثوليكية وتشريع العهد الجديد اللّذين ألغيا أي خلاف، ووضعا بطرس وبولس في نفس المستوى. كان مسرح هذا التركيب القرن الثّاني، حيث تقلّص العداء واستعيض عنه بتهديد مشترك من الغنوصية. كانت لفرضيات بور، بشأن مسألتي صياغة العهد الجديد وتاريخيته، تأثيرات في غاية الأهمية. حيث خلص إلى أنّه ما كانت توجد قبل سنة 70م سوى رسائل بولس الأصلية (رومة 1 ـ 2 وكورنثوس 1 ـ 2 وغلاطية). كما تمّ اختبار يهودية متّى بما سبقها، ومن التّعارض بين متّى وبولسية لوقا تجلّت خلاصات مرقس، وقد ضُبِطت تواريخ الأعمال وإنجيل يوحنّا حوالي منتصف القرن الثّاني.
يمثّل التطبيق الصّارم للمبادئ الهيغلية، إضافة إلى الأهمّية الكبرى المنوطة بأثر اليهودية على المسيحية البدئية، الخاصيات الأكثر جلاء لعمل بور. لكن المساهمات التي أسهم بها في الدّراسات المحدثة للعهد الجديد، كانت دون شكّ في غاية الأهمية. ففي مستوى أوّل، تعامل مع العهد الجديد بصفته جزءا من تاريخ المسيحية، مبيّنا أنه من انتاج الكنيسة البدئية، وهو ما يعكس روح حقبة محدّدة. وفي مستوى ثان، جعله هذا المعطى التاريخي يقرّ أن دراسة العهد الجديد ينبغي أن تبدأ من التواريخ الأكثر قدما، أي من الكتابات البولسية. وفي مستوى ثالث، أقرّ بأهمّية بولس ولاهوته. وبالنهاية عمل على إرساء تمييز دقيق بين أناجيل كلّ من متّى ومرقس ولوقا من ناحية، وإنجيل يوحنا(6).
ب ـ ردود الفعل على مدرسة توبنغن:
يفسح العمل النّقدي لستروس وبور المجال لخيارين فحسب: إمّا إلى تقديس عفوي للكتاب المقدّس، مع رفض دغمائي لعرضه على محكّ الدّراسة النقدية، أو إلى قبول بالنّقد الألماني الذي يبدو لا منأى منه في تدمير المسيحية الأرثوذكية. تمثّلت مهمّة الدّراسات المحدثة للعهد الجديد في النّصف الثاني من القرن XIXفي بلورة إمكانية ثالثة، وهي القبول بالمنهج التاريخي النّقدي المنحصر داخل فرضيات بور ونتائجه. في أنجلترا تولى تلك المهمّة ثلاثة من كمبريدج، وفي ألمانيا تكلّف بذلك العمل أ.فون هرناك.
وطّد الدّارسون الثلاثة الكبار بكمبريدج الصّلة بمدرسة توبنغن، واضعين رهن الإنجاز تفسيرا نقديا لمجمل العهد الجديد. وقد أُنجِز ذلك التفسير بشكل تاريخي وفيلولوجي في غاية الإتقان، اعتمادا على طبعة نقدية للعهد الجديد الإغريقي، صيغت داخل سياق الحقبة التي أنتجتها. وحتى وإن لم يبلغ المشروع منتهاه، فإنه يصعب تقدير الأثر الذي خلّفه ثلاثي كمبريدج على الدّراسات المحدثة للعهد الجديد(7).
* انشغل ج. ب. لايتفوت 1828 - 1889م بدءا بسلسلة من التعليقات على رسائل بولس، ولم يختلف عن بور في ضرورة البدء بالدّراسة النّقدية للعهد الجديد انطلاقا من بولس، حيث أتم رسالة مؤمني غلاطية 1865م، ومؤمني فيليبي 1868م، وقد جعل منه الانشغال بالرّسائل حذرا في تناول مسألة تواريخ العهد الجديد، الأمر الذي دفع الدّراسات النّقدية اللاحقة، في جزء كبير منها، للقبول بالتواريخ التي حدّدها لكتب العهد الجديد، ولكن لايتفوت تنبّه أن نظريات توبنغن سيكون مصيرها الانهيار لو تم إرساء تواريخ أكثر قدما لمتن أدبي لاحق للعهد الجديد. واكتشف لايتفوت مراده في نقطة انطلاق من رسائل إغنازيو الأنطاكي وفي رسالة كليمنت دي روما، وهي أدبيات تحوي إلماحات لمجمل كتب العهد الجديد. ظهرت نتائج المجهودات القيّمة للايتفوت خلال 1885م، كما تم نشر الآثار المتعلّقة بكليمنت بعد مماته سنة 1890م. فبفضل مجهود بحث تاريخي، تقرّرت صياغة رسالة كليمنت في أواخر القرن الأوّل، والرّسائل السّبع الأصلية لإغنازيو مع بداية القرن الثاني. وعلاوة على ما توفّره هذه الأدبيّات من مرجعية زمنية لتاريخية العهد الجديد، فهي تقدّم صورة عن حياة الكنيسة في المراكز الكبرى الثلاثة، أنطاكية وأفسس (اغنازيو) وروما (كليمنت)، بين منتهى القرن الأوّل وبداية القرن الثاني الميلادي، وتوفّر معلومات عن صراع مرير وطويل بين حزبي بولس وبطرس، يجمع إغنازيو وكليمنت بينهما باسمي الحواريين الكبيرين، وتلك العملية بالنسبة لبور تكاد تكون مستحيلة قبل منتصف القرن الثاني(8).
* كان عمل ب. ف واستكوت 1825 – 1901م، أحد التفاسير الثّلاثة المميّزة في كمبريدج، تناول فيه إنجيل يوحنّا، وهو مزيج رائع بين النّقد واللاّهوت، ظهرت طبعته الأولى سنة 1880م، ثم أعيد نشره سنة 1958م، ثم لاحقا سنة 1966م بعنوان:ـThe Epistles of St. Johnـ.
* من الأعمال القليلة المنشورة لـ: ف.ج.أ هورت 1828 - 1892م، مؤلّفان على أهمية عالية يتناولان تاريخ الكنيسة البدئية: الأوّل بعنوان "المسيحية اليهودية" (1894م) و "الاكليسيا المسيحية" (1897م). وأمّا في مشروع التفسير فقد ساهم بعمل فقط بشأن رسائل بطرس 1: 1،1-2، 17 سنة 1898م.
لم تتأسّس شهرة واستكوت وهورت على هذه الأعمال فحسب، بل على النّشر النّقدي للعهد الجديد الإغريقي أيضا. إذ لحدّ تلك اللّحظة استعمَلت الدّراسات المحدَثة للعهد الجديد نصّ ـ textus receptus ـ، وهو نصّ يعود لأرازم نشر خلال سنة 1516م، أعتُمد فيه على مصادر مخطوطة ونادرة. ولكن واستكوت وهورت صاغا منهجا علميا للنّقد، تجلّى من خلال نشر النصّ النّقدي للعهد الجديد سنة 1881م مشفوعا بمقدّمة وافية في علم نقد النصوص.
* يعدّ أ. فون هرناك 1851 - 1930م من أبرز رجال اللاّهوت البروتستانيين في القرن XIX، فهو دارس موسوعي وخبير في الدّراسات التوراتية وفي فترة الآباء وتاريخ الكنيسة واللاّهوت المنهجي. إذ على شاكلة بور، غاص في وثائق العهد الجديد بصفته مؤرّخا للكنيسة البدئية، ولكن باختلاف مع سابقيه، تحدّى الأرثوذكسية الجديدة لتوبنغن في نداء "الرّجوع للأصل!". ولا يتعلّق الأمر لديه بالدعوى لهجران المناهج التاريخية النّقدية، ولا بتقبل عفوي للعهد الجديد اعتمادا على سطوته عبر الحقب السّابقة للكنيسة، بل بخلاف مع ذلك، بالسعي للتوظيف النّبيه للمنهج النّقدي، حيث عالج هرناك المسألة وخلَص أن بور قد ألغى بشكل متسرّع، في غياب نقد للأفكار التقليدية، أصل العهد الجديد وتطوّره.
نجد أنموذجا من منهج هرناك في ثلاثيته المتعلّقة بلوقا: "لوقا المعلّم" (1906م)، و "أعمال الرّسل" (1908م)، و "تواريخ الأعمال وأناجيل متى ومرقس ولوقا" (1911م). ففي هذه الأعمال دعم البحث النّقدي لهرناك الفهمَ التقليديَّ، الذي ينسب للوقا رفيق بولس، بشأن القرابة بين لوقا والأعمال. هذا الموقف الذي تم تجاوزه منذ ستّين سنة على إثر نقد بور، يبقى العمل الشهير لهرناك، والذي ليس من صنف الدّراسات النّقدية، بل سلسة من الدّروس المعروضة على العموم تحت عنوان "روح المسيحيّة"، والذي نشر في طبعته الألمانية الأصلية سنة 1900م، وصار يعبّر عن العرض الكلاسيكي للبروتستانية التحرّرية. فبالنسبة لهرناك، تتمثّل "روح المسيحية" في بعض الحقائق الأخلاقية المعلَنة من طرف المسيح مثل: الأبوّة الإلهية، والأخوّة البشرية، والقيمة المطلقة للرّوح الإنسانية. وهي مواقف تناقض شويتزر، الذي يذهب إلى مقولة أن المسيح لم يصدح بسلسلة من المبادئ اللاّزمنية، بل بالنهاية المرتقبة لنظام عالمه(9).
* ومن الوجوه التي يصعب تصنيفها، نجد أ. شلاتر 1852 - 1938م، فقد تأثّر بهرناك وبالمسائل التي أثارتها مدرسة توبنغن، تبقى مقاربته للعهد الجديد أسلوبا محوريا مستقلاّ. فهو بارع حقّا، سواء في الدراسات العقدية أو في دراسات الكتاب المقدّس. وبرغم أن مقاربته عُدّت محافظة، فإن جانبا من أعماله سبق التطوّرات العلمية اللاّحقة. أما تعليقاته على إنجيل متّى - Der Evangelist Matthus, 1929 - مثلا، فتتمتّع بأهمّية عالية. وتكشف المرجعيات المعتادة لـ"الإنجيلي" عن وعي بدور آثار كتّاب الأناجيل، السّابقة لصياغة تاريخ الكتابة. فالوعي بأهمية التاريخ في دراسات الكتاب المقدّس، والمعرفة الواسعة، سواء بالعهد الجديد أو بالعهد القديم، والتأكيد على كون الكتاب المقدّس يؤدّي إلى الإيمان الذاتي، مثّلت مساهمات ساعدت على فهم السّحر النافذ لشلاتر وإعادة نشر أعماله المتكرّرة مثل:
Die Geschichte des Christus, 1923، Die Theologie der Apostel, 1922 ، المنشوران معا في مؤلّف موحّد بعنوان: Die Theologie des Neuen Testaments,(10) 1909/ 10، و Gottes Gerchtigkeit, 1935..
III التحوّل من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين
1 ـ الدّراسات اللّغوية وبنية العهد الجديد
بدا السّؤال اللاّهوتي للمعنى الدّيني للعهد الجديد، في تحليلات باور وفي أعمال هرناك وثلاثي كمبريدج، أكثر إلحاحا. وللإجابة عن ذلك بطريقة مناسبة كان لابدّ من تطوير دراسات نثرية عميقة، شبيهة بتلك المتعلّقة بلغة العهد الجديد وبنيته.
أ ـ لغة العهد الجديد: في إحدى دروسه سنة 1863م، أصرّ لايتفوت على أن اكتشاف أسلوب الكلام والكتابة لدى أناس القرن الأوّل، سيساهم في تطوير فهمنا للغة العهد الجديد. وترافق الأمر بشأن في غاية الأهمية على إثر اكتشاف برديات ومخطوطات قديمة في النّصف الثّاني من القرن XIX، ستحوز قيمة عالية.
* يعود الفضل لـ: ك. فون تيشندورف 1815 ـ1874م في اكتشاف أثر هام له صلة بتاريخ دراسات الكتاب المقدّس. ففي سنة 1859م عثر في دير على جبل سيناء على إحدى أقدم النّصوص المقدّسة، التي تحوي العهد الجديد الذي بحوزتنا الآن:ـCodex sinaiticusـ. ستوضع مساهمة تيشندورف في دراسة نصّ العهد الجديد، في مستوى أعمال لوستكوت وهورت لأهميتها.
* ومع نهاية القرن XIX سيتكرّر العثور في مصر على أوراق البردي، التي ساهم المناخ الجاف للمنطقة في حفظها. وهي في جانب كبير متكوّنة من وثائق شعبية: رسائل ومحكيات ونصوص، تقريبا من نوع المواد التي تحدّث عنها لايتفوت، كتب بعضها بالإغريقية الشائعة زمن العهد الجديد، المعروفة بالـ: koiné. وقد كان أ. ديسمان 1866 - 1937م رائد تطبيق المعرفة الجديدة المتعلّقة بالعهد الجديد الناتجة عن بعض الاكتشافات. حيث كان العنوان الثاني لدراساته بشأن الكتاب المقدّس (1895م): "مساهمات في تاريخ اللّغة والأدب والدّين اليهودي الهلّيني والمسيحية البدئية المستمدّة أساسا من البرديات والنقائش"، والذي عرض فيه ملخّصا هاما لعمله. ألحق هذا الكتاب بمؤلّفٍ ثان، بنفس الغرض: "أضواء من الشّرق القديم "1908م.
ب ـ بنية العهد الجديد: علاوة على التطوّرات المنجزة في الدّراسات اللّغوية، حازت دراسة العهد الجديد، في فترة التحوّل تلك، مغانم من المعرفة المتطوّرة باستمرار عن عالم "العهد الجديد"، سواء ما تعلّق منها بالتاريخ أو الجغرافيا أو بالسّياسة والدّين حينها، أو بالأنماط الفكرية والأدبية. باختصار بكل ما يتعلّق ببنيته.
* يرتبط اسم أ. هاتش 1835ـ1889م شديد الارتباط بـ: هـ.أ. ردباث، فقد أنتجا معا مؤلّفا مشتركا للمترادفات LXX نشر سنة 1897م. بيد أن عملنا في هذا الموضع يتركّز على كتاب أقلّ شهرة، ظهر سنة 1889م وأعيد طبعه سنة 1957م، وقد حظي بأهمية لدى هرناك. ففي مؤلّف "أثر الأفكار الإغريقية في المسيحية"، يحلّل هاتش موضوعا ذا أهمية لدى الدّارسين، وهو مسألة تداخل المسيحية مع فضائها الهلّيني، إضافة إلى التمييز بين العناصر السّامية والهلّينية في الإيمان والفكر المسيحيين. تتلخّص أهمّية هذا الموضوع في أثره على مدرسة تاريخ الأديان، كما يمثّل أحد أهمّ المؤثّرات على فكر رودولف بولتمان.
* الأبوكاليبس بشكل ما، هو جنس أدبي متميّز عما نجده في العصر الحديث، لكن على غاية من الأهمية في تفسير العهد الجديد، فهو ينبع من عالم مخترق بالأنماط الفكرية والأدبية الأُخروية العبرية. كان ر.هـ. شارلز 1855ـ1931م الدّارس المتميّز للآداب الأخروية عموما وللأدب العبري المنحول بصفة أدقّ، قد أعدّ عملا في الشأن: "الكتابات المنحولة والمنسوبة للعهد القديم بالأنجليزية" (1913م)، منجزا بذلك أهمّ المساهمات في الميدان. وخلال سنة 1920م، وعبر توظيف معرفته الواسعة، عرض عملين بشأن تفسير الأدب المنحول في "التفسير النقدي العالمي" ICC.
* و.م. رمساي 1851ـ 1939م، هو عالم آثار ومؤرّخ وباحث شغوف بشؤون آسيا الصغرى، مهد المسيحية الأولى. أُشتُهر خاصة بعملين هامّين: "القدّيس بولس الرحّالة والمواطن الرّوماني" (1895م) و "مدن القدّيس بولس" 1907م، يشرح فيهما السّندات التاريخية والسياسية والجغرافية لـ"أعمال الرّسل"، منطلقا من موقف جوهري متشكّك في القيمة التاريخية لهذا الكتاب. فقد اقتنع رمساي عبر أبحاثه التاريخية والأثرية عن آسيا الصغرى، التي عرفها وجابها بولس، بأهمية الاستناد على لوقا كمؤرّخ معايش للأحداث الجارية. فعلى ضوء المعطيات الأثرية، تبيِّن كتابات لوقا وتعكس بصدق الأوضاع في المنتصف الثاني من القرن الأوّل. فالدّراسات المتعلّقة ببولس، والعالم الإغريقي الرّوماني الذي ضرب في أصقاعه، لعبت دورا هاما في إعادة رسم صورة الحواري كشخص بشري. أقل شهرة، لكن ذات جدوى دراسته: "رسائل عن كنائس آسيا السّبع" (1904م)، التي بيّن فيها أهمّية الطّقس الإمبراطوري الذي كان وراء محنة الكنيسة في آسيا القيصرية، وأثر الجغرافيا التاريخية على صورة الكنائس السّبع(11).
2 ـ الأناجيل الثّلاثة (متى ومرقس ولوقا): النّقد والتطوّر
يثير التّفسير الحديث للعهد الجديد مسألتين أساسيتين: الأولى بشأن التّماثل بين الأناجيل الثّلاثة، والثانية متعلّقة بروايات العهد الجديد، عن حياة يسوع المسيح وموته. سيجلب كلا الأمرين انتباه الدّارسين في القرن XX.
أ ـ أولوية مرقس ونظريّة المصدرين
على مدى زمن طويل، حاز الإنجيل المنسوب لمرقس عناية دراسية أقلّ، ضمن تاريخ شروحات العهد الجديد. فبالنسبة لأوغسطين، لم يكن سوى نسخة مختصرة لإنجيل متّى، ومع القرن XIX فقط بدأ دارسو العهد الجديد بالعودة لمرقس، كردّ على انتقادات ستراوس للأسس التاريخية للمسيحيّة، في مسعى للحفاظ على تاريخية الإيمان المسيحي، كونه دين يعتمد على الحضور التاريخي لشخصية يسوع النّاصري. جرى توظيف المنهج التاريخي النّقدي لاكتشاف المنابع الأساسية لروايات العهد الجديد عن المسيح. وهذا النوع من البحث، تمّت بلورته من خلال العمل الهام لـ: ج. ج غريباش 1745ـ1812م، الذي أقرّ بفروقات تميّز إنجيل يوحنّا عن الأناجيل الثّلاثة الأولى، وبإمكانية جمع أناجيل متّى ومرقس ولوقا ضمن خلاصة مشتركة، مبيّنا في نفس الوقت استحالة إرساء التناسق بين الأناجيل، حيث لم يول دارسو الأناجيل أي اهتمام لمسألة الانتظام الزّمني.
* مع سنة 1835م، بنشر ك. لاكمان 1793 – 1851م مؤلّفه ـ De ordine narrationum in evangeliis synopticis ـ، حصل تطوّر جلي، دفع لتقديم أولوّية الفرضية الأدبيّة لمرقس، والتأكيد على اقترابه أكثر من غيره من الترجمة الأصلية، معتبرا إياه المصدر الأساسي لأيّ مسعى للعودة لأصول المسيحية.
* في سنة 1838م، طوّر ش. هـ. ويس 1801 - 1866م فرَضيّة لاكمان بإدماج مصدر آخر، متكوّن من مجموعة الأقوال المنسوبة لمتّى ولوقا، نعت بمصدر "Q"، وبذلك رُسِمت الخطوط الأساسية لنظرية المصدرين الكلاسيكيّة.
ب ـ النّقد العلمي للمصادر: يرتكز عمل كلّ من لاكمان وويس بالأساس على الحدس، وقد كانت المهمّة اللاّحقة للنقد في عرض نظرياتهم على المحك العلمي.
* خلال سنة 1863م، نشر هـ.ج. هولتزمان 1832 - 1910م نتائج دراساته القيّمة، التي تتوجّه بالأساس لاختبار نظرية المصدرين علميا، تحت عنوان: ـDie synoptichen Evangelien ـ. كان الاستنتاج لديه، أن إنجيل مرقس يمثّل الوثيقة الرّسولية الأصلية، وخلْف نصّي متّى ولوقا توجد وثيقة أخرى مكتوبة، هي عبارة عن مجموعة قديمة من أقوال المسيح وتعاليمه، ومن المحتمل احتواءها أيضا على بعض القصص، مثل التعميد وروايات التجربة.
* نولي الآن اهتماما بالقرن العشرين وبالباحث الذي رسم لنظرية نقد المصادر خاصياتها الكلاسيكية. استعان ب.هـ. ستريتر 1874 - 1937م بعملين: نشْر كتاب العهد الجديد لويستكوت وهورت، وعمل هولتزمان. وعلى أساس تقبّل شبه إجمالي، لفرضية المصدرين، اقترح ستريتر تطويرا للنّظرية في مؤلّفه: "الإنجيل الرّابع: دراسة في الأصول" (1924م). حسب رأيه، جرّاء ما يربط روما بمرقس ( المدوَّن إنجيله حوالي 65 ـ70م) من تقاليد مميّزة بشأن المسيح، فإن ذلك الأمر، يوحي باحتمال امتلاك المراكز المسيحية الثّلاثة الكبرى لتقاليد محلّية مشابهة. اعتمادا على تلك الفرضية ألحق المصدر "Q" بأنطاكية، ونسبت إلى قيصرية المادة الأصلية الخاصة بلوقا، كما ألحقت المادة الأساسية لمتّى بأورشليم، وعلى هذه الأسس حدِّدت الصياغة النّهائية للوقا حول سنة 80 ومتى حول سنة 85.
كانت المساهمة الكبرى لستريتر في بيان أن المصادر المتّصلة بالأناجيل الثلاثة: (متّى ومرقس ولوقا) هي أربعة لا اثنان، وما عمّق النقاش حول الفكرة القائلة بأربع وثائق مكتوبة، ميل الدّارسين حتى أيّامنا للحديث عن حلقات تراث شفوي. ويمثّل عمل ستريتر كلمة الختام في حقل نقد المصادر، فلمّا نشر كتابه، كان الدّارسون بصدد تحويل انتباههم من نقد المصادر إلى نقد الشّكل.
ج ـ أصول الأناجيل: المسألة الآرامية
واصلت مسألة التّداخل بين المؤثّرات السّامية والإغريقية في العهد الجديد جذب النقّاد باستمرار. والعلامة الأكثر جلاء ضمن هذا الاهتمام، ربما تتلخّص في المجلّدات الخمسة لتفسير العهد الجديد التي أعِدّت عن مصادر الأحبار من طرف: هـ.ل. ستراك و ب. بيلرباك: ـ Kommentar zum Neuen Testament aus Talmud und Midrasch ـ (1922-1961م)، وأيضا مع ج. بونسيرفن في مؤلّفه: ـ نصوص الأحبار خلال القرن الأول والثاني المسيحيين وأثرها في الإلمام بالعهد الجديد ـ روما 1955، وكذلك أيضا مع: و.د. دافييس في كتابه:ـ بولس ويهودية الأحبار ـ (لندن 1955)، ومع أ.ب. ساندرس في مؤلّفه:ـ بولس واليهودية الفلسطينية ـ فيلادلفيا 1977.
كشَف نقد المصادر عن حضور عديد العناصر في الأناجيل، ذات الخاصيات الآرامية خلف تلك الإغريقية. وكان من رواد هذا الحقل ج. دالمان 1855 - 1941م، وهو من الدّارسين الكبار للآرامية. فقد عرض موقفا متحفّظا ومحدودا لما يتعلّق بالتأثير الآرامي في العهد الجديد، وكان كتابه الأكثر أهمّية:ـ Die Worte Jesus ـ (1898)، الذي بيّن فيه بيقين، أن اللّغة التي تكلّم بها المسيح مع تلاميذه كانت الآرامية، وحتى وإن بدت غير مستحيلة فرضية أصالة الآرامية التي نبعت منها الأناجيل الثلاثة، فإن ألفاظ المسيح المنقولة عبر الأناجيل تعرض دون أدنى ريب ذلك التأثير الآرامي.
النظرية الشّاملة بشأن الأصول الآرامية للعهد الجديد وجدت مدافعا فذّا في ك.ك. تورّاي 1863 - 1956م، حيث أكّد في مؤلّفيه: "الإنجيل الرّابع" (1933م) و "أناجيلنا المترجمة" (1936م)، أن الأناجيل هي ترجمات عن أصول آرامية، لكن تلك الأطروحة لم تقنع أغلب دارسي العهد الجديد.
ركّز ك. ف. بورناي 1868 - 1925م اهتمامه على إنجيل يوحنّا، وبخلاف ما كان شائعا أنه الإنجيل الأكثر تأثّرا بالثّقافة الهلّينية، أجلى خاصياته السّامية. نجد توضيحا لذلك في مؤلّفه: "الأصل الآرامي للإنجيل الرّابع" 1922م، وعلى شبه مع تورّاي، ذهب لاحتمال ترجمة إنجيل يوحنّا عن أصل آرامي.
بيّن ج. جرمياس 1900-1979م، تلميذ دالمان، أهمّية الآرامية كأداة في الدّراسات الإنجيلية في مؤلّفيه: "أمثال المسيح" (1947م) و " كلمات العشاء الأخير" (1949). وفي كلي المؤلّفين اعتمد جرمياس على الرّوايات الإغريقية للكنيسة البدئية في إعادة بناء الأصل الآرامي المتلفّظ به من طرف المسيح والسّعي لاستعادة كلمته الأصلية.
خلال 1946 تبيّنت أهميّة مؤلّف م. بلاك "مقاربة للأناجيل والأعمال"، فقد حاز تحليله موضعا وسطا بين تورّاي وبورناي، كون الآراميات تظهر جليّا وبتتابع بين ألفاظ المسيح، وكان مستلزما على تراث الأناجيل الثّلاثة العثور على مصدر مكتوب أو شفوي للأقوال الآرامية. ولكنّ الأعمال اللاّحقة لـ: ج. فرميس، وخصوصا لـ: ج. أ. فيتزماير حذّرت الدّارسين من اعتماد وثائق الآرامية اليهودية لإثبات الآرامية السّائدة زمن المسيح.
المؤلفان جون. س. كسِلمان ورونالد. د. ويثروب: الأوّل أستاذ العهد القديم في "Weston School of Theology" بكمبريدج وماساشوسيت بالولايات المتحدة الأمريكية، والثاني أستاذ الكتاب المقدّس في "St. Patrick's Seminary, Menlo Park" بكاليفورنيا. وقد وردت الدّراسة ضمن النسخة الإيطالية المعنونة بـ:
Nuovo Grande Commentario biblico, Editrice Queriniana, Brescia, Italia, 1997
المترجم: أستاذ تونسي بجامعة لاسابيينسا بروما.
(1) ـ J.W. Trigg, Origen: The Bible and Philosophy in the Third-Century Church. Atlanta 1983.
(2) ـ بشأن الأعمال النقدية القروسطية المتعلّقة بالمسيح، أنظر: H. K. McArthur, The quest Through the Centuries. Philadelphia 1966. 57-84.
(3) ـ C.H. Talbert (ed), Reimarus: Fragments (Philadelphia 1970).
(4) ـ H. Harris, The Tübingen School (Oxford 1975).
(5) ـ R.S. Cromwell, David Friedrich Strauss and his Place in Modern Thought (Fairlawn 1974); H. Harris, David Friedrich Strauss and His Theology (Cambridge 1973).
(6) ـ P.C. Hodgson, The formation of Historical Thelogy, New York 1966; R. Morgan, Exp Tim 90, 1978, 4 - 10.
(7) ـ P.C.N Conder, Theology 77, 1974, 422-431; Neil, The Interpretation of the New Testament, 33-76; G.A. Patrick, Exp Tim 90, 1978, 77-81.
(8) ـ B.N. Kaye, NovT 26, 1984, 193-224.
(9) ـ G.W. Glick, The Reality of Christianity, New York, 1967; R.H. Hiers, Jesus and Ethics, Fhiladelphia, 1968, 11-38.
(10) ـ G. Egg. Adolf Schlatters Kritische Position, Stuttgart, 1968; P. Stuhlmacher, NTS 24, 1978, 433 ـ 446.
(11) ـ W.W. Casque, Sir William M. Ramsay (Grand Rapids 1966).