تمهيد ضروري :
لن يستطيع السادة القرّاء استيعاب سلسلة هذه الحقائق عن الأدوار القذرة والإنتهازية المدمّرة للولايات المتحدة الأمريكية إذا كانوا يصدّقون مزاعم الإدارة الأمريكية الإعلامية عن إيمانها بالحرية والديمقراطية ، وستصدمهم هذه المعلومات التي تثبت أن هذه الإدارة يقوم سلوكها على أساس الجشع والإستيلاء على الثروات عن أي طريق مهما كان شيطانيا ومهما كان مخالفاً للمبادىء الإنسانية ولمفاهيم الحق والعدالة . الشيء الآخر هو أن التفوّق الإعلامي الهائل والمخيف للماكنة الإعلامية الأمريكية نجح في جعلها تتلاعب بحقائق التاريخ ، حيث تطوي وتمزّق صفحات التأريخ التي تدينها وتثبت عدوانيتها ، لتبدأ بتأريخ "جديد" يضلّل عقول البشر خصوصاً من الأجيال الجديدة معتمدة على تفوق ساحق لحضارة الصورة المذهلة الساحرة على حساب حضارة الكلمة التي تتطلب التأمّل والهدوء العقلي الذي لم يعد مُتاحا في ظل انفجار تقنيات الإتصالات والدعاية . هل سيصدّق السادة القرّاء أن الولايات المتحدة كانت من أوّل مناصري هتلر والنازية والمدافعين عن موسوليني والفاشية قبل الحرب العالمية الثانية ؟ هل يصدّقون أنها أعادت الفاشية إلى الواجهة بعد الحرب وحطّمت المنظمات اليسارية الداعية إلى الحرية والمساواة في أوروبا ؟ ثم هل سيستوعبون هذه المعلومات التي تؤكّد أن الولايات المتحدة كانت الراعي الأكبر للضباط النازيين والمستعيدة لنشاطاتهم الإجرامية بعد الحرب ؟ .. كونوا معنا .
الرئيس الأمريكي روزفلت : "موسوليني هذا النبيل الإيطالي الرائع" ! :
استدعى صعود الفاشية في فترة ما بين الحربين قلق الشعوب ومخاوفها ، إلا إنه اعتُبر على العموم شيئا مؤاتيا من جانب الحكومتين الأميركية والبريطانية ، ومن قطاع المال والأعمال ، وكذلك من شطر لا يُستهان به من أوساط النخبة . وتفسير ذلك أن النسخة الفاشية من القومية المتطرفة سمحت باختراق اقتصادي غربي واسع النطاق ، وحطّمت الحركات العمالية مثار الخوف الشديد ، والقوى اليسارية ومعها الديمقراطية التي كانت تسمح لها بحرية الحركة . الدعم المُعطى لموسوليني كان قوياً وفيّاضا . فقد دأب هذا "النبيل الإيطالي الرائع" كما وصفه الرئيس الأمريكي “روزفلت” عام 1933 ، يحظى بقدر وافر من الاحترام بين طيف واسع من شتى الآراء إلى حين اندلاع الحرب العالمية الثانية . كما حظيت ألمانيا الهتلرية بتأييد مماثل هي الأخرى .
والتأييد للفاشية بدأ من غير إبطاء . فقد أشاد السفير الأمريكي في إيطاليا "هنري فلتشر" باستيلاء الفاشية على مقاليد الحكم في إيطاليا عام 1928 ، التي سرعان ما قضت على النظام البرلماني وقمعت بعنف المعارضة العمالية والسياسية ، وحدّد بوضوح الاعتبارات السياسية الموجهة للسياسة الأمريكية تجاه ايطاليا وغيرها من البلدان في السنوات القادمة ، وكتب إلى وزير الخارجية يقول إن إيطاليا أمام خيارين شديدي الوضوح ؛ إما "موسوليني والفاشية" وإما "غيوليتي والاشتراكية" (غيوليتي رئيس وزراء إيطالي مخضرم يساري وليس اشتراكي ، كان يحبذ العمل النقابي والاصلاحات الاجتماعية وعارض مشاركة ايطاليا في الحرب الأولى ، كما كان مناهضا شرسا للفاشية ، وكان وجها بارزا من وجوه الليبرالية الإيطالية) .
الولايات المتحدة تقول إن الفاشيين أناس ديمقراطيون حقيقيون وموسوليني إنسان عظيم !:
وبعد مرور عقد من الزمن ، تحديداً في عام 1937 ، استمرت وزارة الخارجية الأمريكية في النظر إلى الفاشية الأوروبية على أنها قوى معتدلة يجب "أن تنجح، وإلّا فإن الجماهير ، مُعزّزة هذه المرة بالطبقات الوسطى المُحبطة ، سوف تتجه مجدّدا نحو اليسار " . في ذلك العام كان سفير الولايات المتحدة إلى إيطاليا "وليام فيليبس" "شديد الإعجاب بجهود موسوليني لتحسين ظروف معيشة الجماهير" ، وقد عثر على "أدلة كثيرة" تشهد لصالح نظرة الفاشيين باعتبارهم "أناسا يمثلون ديمقراطية حقيقية بقدر ما أن رفاهية الشعب هي غايتهم الرئيسية" . لقد اعتبر انجازات موسوليني "رائعة ، وتبعث على الذهول الدائم" ، واشاد على نحو حماسي "بمزاياه الإنسانية العظيمة" . وافقته وزارة الخارجية الرأي بشدة ، وأطرت كذلك مآثر موسولني "الجبّارة" في أثيوبيا ، وحيّت الفاشية على "إحلالها النظام محل الفوضى ، والإنضباط بدل التسيّب ، والثراء عوض الإفلاس" . وحتى عام 1939 كان الرئيس "فرانكلين روزفلت" ما فتىء يرى أن الفاشية الإيطالية "ذات أهمية كبرى بالنسبة إلى العالم ، وإن كانت بعد في مرحلتها التجريبية" .
الولايات المتحدة تقول : النازيون يريدون سعادة البشر !:
في العام 1938 صادق الرئيس روزفلت وصديقه الحميم "سامنر ويليس" على تسوية ميونيخ الهتلرية التي قطّعت أوصال تشيكوسلوفاكيا . وكان "ويليس" يشعر بأنها "تمثل الفرصة السانحة لأن تقيم شعوب العالم نظاما عالميا جديدا مبنيا على العدالة والقانون" يلعب فيه النازيون المعتدلون دورا بارزاً . وفي نيسان عام 1941 كتب جورج كينان من مركزه القنصلي في برلين أن القادة الألمان لا يرغبون في "رؤية الشعوب الأخرى تعاني تحت الحكم الألماني" و "هم أشد ما يكونون توقا إلى أن ينعم رعاياهم الجُدد بالسعادة في ظل عنايتهم" ولا يترددون في تقديم "تنازلات مهمّة" لضمان هذه النتيجة الحميدة .
فتّش عن المال :
-
وعالم المال والأعمال بدوره ، كان جيّاشاً بالحماسة للفاشية الأوروبية . فقد ازدهرت الاستثمارات في ايطاليا الفاشية ، ورأينا مجلة "فورتشون" تعلن عام 1934 على الملأ : "ها هم "الوبيون" يطهّرون أنفسهم من رجس الوبية" ( WOP تسمية مُهينة جدا تُطلق على الإيطالي في أمريكا) . كذلك ازدهرت الاستثمارات في ألمانيا بعد صعود هتلر للأسباب عينها : فقد أشيع مناخ مستقر من أجل العمليات التجارية ، و"خطر" الجماهير تم احتواؤه. وحتى اندلاع الحرب عام 1939 كانت بريطانيا أشد ما تكون دعما وتأييدا لهتلر لأسباب تتجذر عميقا في العلاقات الصناعية والتجارية والمالية القائمة بين بريطانيا وألمانيا ، وبوحي من "سياسة حفظ الرأس التي تتبعها المؤسسة البريطانية في وجه الضغوطات الديمقراطية والشعبية الصاعدة" .
وفي ذات الوقت كان اللورد "هاليفاكس" ، المبعوث البريطاني الخاص إلى ألمانيا ، يزف المديح إلى هتلر "لوقوفه في وجه انتشار الشيوعية ، وهي جهود قربت بريطانيا من تفهّم الدور الكبير الذي يقوم به هتلر" . وكانت كلمات هاليفاكس تُقدّم إلى هتلر بينما كان الأخير يقوم بأعماله الاجرامية المرعبة .
لقد كان تجّار السياسة الأمريكية مغمضي الأعين ومرتاحي البال لما يجري في ألمانيا . كما كانت ايطاليا الفاشية خيارا رائعا للمستثمرين ، وبالمثل كانت المانيا لأصحاب الشركات الأمريكية الذين انخرطوا في الانتاج الحربي النازي ، وحققوا ثروات وأرباح بالمشاركة في عمليات نهب ثروات اليهود في ظل برنامج هتلر الآري . وبحسب "كريستوفر سيمبسون" في دراسة حديثة فإن استثمارات الولايات المتحدة قد تزايدت في ألمانيا بشكل ملحوظ مع وصول هتلر للحكم ، حيث ارتفعت بمعدل 48,5% في ما بين 1929 و1940 ، بينما تدهورت بشكل حاد في بقية أقطار القارة الأوروبية خلال نفس الفترة ، وظلت دون تغيير في بريطانيا .
في ظل الحرب بدأ تفكيك المقاومة المناهضة للفاشية :
هذا وقد ظلت المواقف عرضة للتجاذبات ، حتى بعد دخول الولايات المتحدة الحرب . واعتبارا من عام 1943 شرعت الولايات المتحدة وبريطانيا ببذل الجهود – التي تكثفت بعد انتهاء الحرب – لتفكيك المقاومة الناهضة للفاشية على نطاق العالم كلّه ، واستعادة ما يشبه النظام التقليدي ، لا بل ومكافأة بعضٍ من أسوأ مجرمي الحروب بإسناد أدوار بارزة إليهم . ويشير المؤرخ "شميتز" لدى مراجعته هذا السجل الى ان "المرتكزات الايديولوجية والاعتبارات الجوهرية للسياسة الاميركية بقيت ثابتة على نحو لافت" في السنوات المتبقية من القرن العشرين . صحيح أن الحرب الباردة "استلزمت مقاربات وتكتيكات جديدة" ، لكنها من ناحية تركت أولويات حقبة ما بين الحربين على حالها دونما تغيير" .
كانت وزارة خارجية الرئيس ويلسون تعتبر الإيطاليين "أولاداً يجب أن يُقادوا من أيديهم ، وتُسدى المساعدة إليهم أكثر من أي شعب آخر" لذا كان صنيعا صائبا ومناسبا أن لا يضن خلفاؤه بأوجه الدعم الحماسي على "الثورة الفتية الرائعة" لفاشية موسوليني التي حطّمت خطر الديمقراطية بين الإيطالييين "المتعطشين إلى قيادة حازمة ، والمستمتعين بكونهم يُحكمون بصورة مثيرة" . بقي المفهوم في نصابه طوال عقد الثلاثينات ، وأعيد إحياؤه بعيد الحرب مباشرة. وقد عمدت الولايات المتحدة عام 1948 إلى تهديم الديمقراطية الإيطالية بمنعها وصول الأغذية إلى الناس المتضوّرين جوعا ، وبترميمها الشرطة الفاشية وتهديدها بما هو أسوأ من ذلك بعد . كما أوضح رئيس دائرة إيطاليا في وزارة الخارجية أن تلك السياسة يجب أن تكون مُعدّة بحيث "يشعر حتى أغبى وُب بالتغيير الحاصل"
والمخاوف عينها كانت وراء استمرار "الإطار التحليلي الذي طوّره صنّاع السياسة الأميركيون واستخدموه خلال سنوات ما بين الحربين في العلاقة مع الديكتاتوريات اليمينية" التابعة للفاشية الأوروبية وصولا إلى حقبة ما بعد الحرب. وكان القصد منه السيطرة على "خطر الشيوعية" الذي فُهم ليس على أنه خطر عسكري ، بل بالأحرى في ضوء الاعتبارات آنفة الذكر (وهو التحويل الاقتصادي في البلدان الشيوعية بطريقة تقلل من ميلها وقابليتها للتكامل مع الاقتصاديات الصناعية للغرب ، وهذا منذ عام 1917. هذا ويستحق "الإطار التحليلي" للعلاقات مع الدول الفاشية عودة ضافية بالذاكرة إليه ، لا لسبب إلّا لظهوره المتكرر بتلك الدرجة من الثبات والاتساقية حتى يومنا الحاضر.
و"الإطار التحليلي" الذي بيّن المؤرّخ "شميتز" معالمه بالتفصيل ، استمر حتى يومنا هذا ، مخلفا وراءه مآس ضخمة وخرابا هائلا . كتب "آلن توفلسون" يقول إنه على طول الخط ، ظلت تواجه صنّاع السياسة الأميركيين تلك "المشكلة المؤرّقة" : كيف السبيل إلى التوفيق بين الالتزام الرسمي بالديمقراطية والحرية ، وبين الحقيقة الطاغية وهي أن "الولايات المتحدة كثيرا ما تضطر إلى اقتراف أعمال رهيبة للحصول على ما تريده" . وما كانت الولايات المتحدة تريده هو : "سياسة اقتصادية من شأنها تمكين مشاريع الأعمال الأمريكية من العمل بحُرّية قدر الإمكان ، وفي أحيان كثيرة من العمل بشكل احتكاري قدر المستطاع ، وكل ذلك بهدف خلق اقتصاد عالمي رأسمالي متكامل تهيمن عليه الولايات المتحدة " .
تعريف أمريكي للشيوعية يعزّز دور الفاشية والنازية :
كانت الفكرة عن الشيوعية شاملة جدا . ففي عام 1955 ، توصلت "مؤسسة وودرو ولسون" بالاشتراك مع جمعية التخطيط القومي إلى تعريف للشيوعية
أكثر ما يكون دقة وهو "يأتي الخطر الشيوعي من التحول الاقتصادي لبلد ما بشكل يُضعف رغبته وقدرته في أن يكون مُتمما لاقتصاد الغرب الصناعي"
ولكي يتصدى القادة الأمريكان لمثل هذا التهديد لم يترددوا - غداة الحرب العالمية الثانية - في حمل جنرالات النازية الجديدة إلى السلطة والتحالف معهم .
وكانت هذه السياسة التي طُبقت بعد الحرب العالمية الثانية في كل أمريكا اللاتينية ، قد طبقت سابقا بعد الحرب العالمية الأولى في أوروبا . ففي عام 1922 وصف السفير الأمريكي في روما مستذكرا ذكرى مسيرة موسوليني إلى روما التي وضعت نهاية للديمقراطية في إيطاليا ، وصفها "بالثورة الشابة والجميلة" ، وأوضح لماذا يرى "أن الفاشيست ربما يكونون العامل الأقوى في كبح البلشفية" .
وحظيت إيطاليا الفاشية منذ ذلك الحين بتعامل طيب من قبل الولايات المتحدة ، وذلك عندما سُوّيت مسألة ديون الحرب . ثم تدفقت الاستثمارات الأمريكية إلى أيطاليا . وفي عام 1933 تحدث تيودور روزفلت عن موسوليني واصفا إيّاه "بالسيّد الإيطالي الذي يثير الإعجاب" كما قلنا سابقا. وفي 1937 قيّمت وزارة الخارجية الأمريكية الحركة الفاشية بأنها "أصبحت روح إيطاليا التي فرضت النظام في قلب الفوضى والمبادىء في وجه التجاوزات ، وحلت مشكلة الإفلاسات" .
وفي 1937 اعتبرت وزارة الخارجية الأمريكية الفاشية تتوافق مع المصالح الاقتصادية وبمعنى ما مع المفهوم الامريكي للديمقراطية.
وحدث الأمر نفسه مع هتلر ، في عام 1933 كتب القائم بالأعمال الأمريكي في برلين إلى واشنطن قائلاً : "إن الأمل المعقود على ألمانيا ، إنما يعلّق على الجناح المعتدل في الحزب الذي يقوده هتلر الذي وجّه دعوة تعاون إلى كل الناس المتمدنين والعقلاء" .
ولأن دول "المحور" لم تهاجم الولايات المتحدة بعد "بيرل هاربر" ، فقد استمر الموقف الامريكي الإيجابي من الفاشية على حاله لم يتغير .
موقف أمريكي وبريطاني انتهازي خلال الحرب :
كان الدعم الأمريكي الكبير المُقدّم لموسوليني منذ "الزحف على روما" 1922 والدعم اللاحق المقدم لهتلر ، مؤسّسين على المبدأ القائل إن النازية والفاشية كانتا رغم تطرفهما أحيانا ردا مقبولا على التهديد البلشفي الأشد خطرا بكثير لأن الشيوعيين حسب "جون فويتر دالاس" وزير الخارجية الأميركي آنذاك أفضل منّا في تحفيز الفقراء لنهب الأثرياء ...
عندما كانت روسيا تمتص ضربات النازية الكبرى صار ستالين حليفا ، وعم الإعجاب بـ "العم جو" . كانت استراتيجية روزفلت في زمن الحرب ، كما أسرّ لابنه مرة ، هي ابقاء الولايات المتحدة "كاحتياطي في انتظار أن يستنزف الروس قواهم في صراعهم مع النازية قبل أن تتحرك الولايات المتحدة للإجهاز عليها" . إن دعم الإتحاد السوفيتي صار أولوية عند الرئيس على أساس ان انتصارات الجيش الأحمر ستسمح للرئيس بابقاء الجنود الأمريكيين خارج الحرب البرية في أوروبا . وقد قال الرئيس الأمريكي "ترومان" :
(إنْ رأيْنَا أن المانيا في سبيلها إلى الفوز فعلينا أن نساعد روسيا ، أما إن ربحت روسيا فعلينا مساعدة ألمانيا ، وبهذه الطريقة نجعلهم يقتلون أكبر عدد ممكن منهم) .
نجحت حركات العمال والفلاحين الإيطاليين في الانتصار على ست فرق ألمانية وتحرير شمال إيطاليا . وعندما تقدمت الجيوش الأمريكية داخل إيطاليا شتّتت تلك الحركات المعادية للفاشية ، وأعادت الهيكل الرئيسي الفاشي لنظام ما قبل الحرب .
وفي مراجعة حديثة للسجل البريطالني خلص "لويد جاردينر" إلى أنه "بالنسبة للبريطانيين كانت المشكلة الأساسية هي روسيا وليس ألمانيا ، وذلك خلال الفترة التي اتفق فيها هتلر وستالين (حتى يونيو 1941 م) . فلم يكن يقلق البريطانييين تقسيم بولندا وحصول المانيا على نصف أراضيها ، لقد أقلقها أكثر اتفاق هتلر وستالين ، وهو ما جعل الحرب ضرورة" ، وذلك حسب تصريح مسئولين رفيعي المستوى في الحكومة البريطانية آنذاك.
مساندة الفاشية وإعادتها إلى حكم إيطاليا بعد الحرب :
-
وبعد الحرب ، تتابعت السياسة نفسها ، ولكن بلبوس جديد . ففي عام 1943 شهد الجنوب الإيطالي تقدّماً لقوات الدوتشي بناء على إيحاءات تشرشل مدفوعاً بالخوف من شبح حصار بلشفي . وقامت الولايات المتحدة بدعم ملك إيطاليا الذي تعاون مع النظام الفاشي . وفرضت ديكتاتورية المارشال "بادرغليو" ، تماما كما فعل روزفلت عندما نصّب عام 1942 الأميرال "دارلان" - لا الجنرال ديغول - على الجزائر كما سنرى.
كان الهدف منع المقاومة ضد الفاشية من الوصول الى السلطة ، وكان الشيوعيون قد لعبوا دوراً حاسما في صفوف هذه المقاومة . يقول "ديفيد ماك ميشيل" في كتابه "أكاذيب عصرنا" : "منذ أن تسرب التقرير المعروف باسم تقرير بايك عام 1976 إلى الكونغرس ، بات معروفا مدى تدخل الولايات المتحدة في الحياة السياسية في ايطاليا . وكان الأمر يتعلق بمبلغ 65 مليون دولار ، قُدمت كمساعدات مالية لأحزاب سياسية مرضيٍّ عنها ، وإلى شركاء لها ، وذلك بين عام 1948 وبداية السبعينات . وفي عام 1976 سقطت حكومة "ألدو مورو" في إيطاليا ، بعد ما كُشف أن وكالة المخابرات المركزية أنفقت سنة ملايين دولار لدعم المرشحين المعادين للشيوعية" .
بحلول 1943 بدأت الولايات المتحدة بإعادة المتعاونين مع الفاشية والمتعاطفين معها في ايطاليا الى مواقعهم السابقة ، وهو النمط الذي انتشر عبر العالم مع تحرير مختلف البلدان من النازية ، وذلك بهدف استخدام التسامح مع الفاشيين كحاجز في وجه التغيّر الاجتماعي الذي تنادي به القوى اليسارية.
أدرك مخططو ما بعد الحرب الثانية أنّه يجب استعادة النظام اليميني التقليدي وسيادة أصحاب الأعمال مع تقسيم وإضعاف التكتلات العمالية ، وتتحمل الطبقة العاملة والفقراء أعباء إعادة البناء . وقفت مقاومة الفاشية كعقبة رئيسية أمام ذلك ، في جميع أنحاء العالم . وكثيرا ما تمّ استخدام المتعاونين مع الفاشية والنازية . احتاجت المسألة إلى استخدام العنف البالغ في بعض الأحيان ، ونجحت في الأحيان الأخرى اساليب أكثر نعومة ، مثل التلاعب في الإنتخابات ، ومنع وصول القوت الضروري .
وقد أرسى روزفلت عام 1942 النموذج الذي يُحتذى عندما عين الأدميرال "جان دارلان" – كما قلنا - حاكما عاما على شمال أفريقيا الفرنسي . كان "دارلان" أحد أركان التعاون مع النازيين ، وقد وضع قوانين معاداة السامية التي عمّمتها حكومة فيشي (الحكومة الفرنسية الألعوبة في يد النازيين) . في إيطاليا فَرَضتْ الولايات المتحدة بناء على نصيحة تشرشل حكومة يمينية استبدادية على رأسها الماريشال الفاشي "بادجليو" والملك "فيكتور عمانوئيل الثالث" المتعاون مع الفاشيين . أدرك مخططو السياسة أنّ ما يهدّد أوروبا ليس عدوانا من الاتحاد السوفيتي ، ولكن الحركات والأفكار الديمقراطية المعادية للفاشية عند العمال والفلاحين ..
احتاطت المخابرات الأمريكية من أن يفوز الشيوعيون بانتخابات عام 1948 الحاسمة في إيطاليا ، واتخذت اجراءات عديدة منها : إعادة الشرطة الفاشية ، وتحطيم اتحادات العمال ، وعرقلة امدادات الطعام ، ومع هذا ، لم يكن هناك ما يضمن هزيمة الشيوعيين .
حددت مذكرة الأمن القومي الأولى عام 1948 (NSC 1) عدة اجراءات تُتخذ في حالة فوز الشيوعيين بالانتخابات تضمنت احداها التدخل العسكري لمساعدة الحركات العسكرية السرية (الفاشية) في إيطاليا .
تحمّس البعض – خصوصا جورج كينان – للعمل العسكري قبل الانتخابات ، فهو لم يرد السماح بأي قدر من المخاطرة ، ولكن أقنعه الآخرون بأنه يمكن تدارك الانتخابات بالتلاعب الأمر الذي ثبتت فاعليته .
160000 قتيل في اليونان بسبب إعادة أمريكا للفاشية إلى الحكم :
-
أما اليونان فقد دخلت إليها القوات البريطانية بعد خروج النازية ، وفرضت نظام حكم فاسد ، مما اثار مقاومة جديدة لم تستطع بريطانيا الآفلة مساندته ، فتدخلت الولايات المتحدة عام 1947 ودعمت حربا وحشية أسفرت عن 160000 قتيل من اليونانيين. اكتملت تلك الحرب بالتعذيب ونفي عشرات الألوف من اليونانيين ، ودخول عشرات الألوف الآخرين في "معسكرات إعادة التعليم" ، وتدمير النقابات وأيّة امكانيات للاستقلال السياسي .
مكّنت تلك الحرب قبضة المستثمرين الأمريكيين ورجال الأعمال المحليين من أن تُطبِق على اليونان ، بينما اضطر كثير من اليونانيين للهجرة طلبا للأمن وللقوت . شملت قائمة المستفيدين أولئك المتعاونين مع النازي ، بينما شملت قائمة الضحايا أولئك الذين قاوموا النازي من العمال والفلاحين .
100000 قتيل في كوريا بسبب إعادة أمريكا للفاشية إلى الحكم :
-
عندما دخلت قوّات الولايات المتحدة كوريا في عام 1945 ، عزلت حكومة ذات شعبية معادية للفاشية قاومت الاحتلال الياباني ، وأشعلت حربا ضروسا ، واستعانت بعناصر من الشرطة اليابانية الفاشية والكوريين المتعاونين معهم خلال الاحتلال الياباني لكوريا . سقط في كوريا 100000 قتيل على أيدي الحكم الفاشي ، وذلك قبل نشوب ما سُمّي بالحرب الكورية – وفي إقليم واحد صغير هو "جزيرة شيخو" سقط 30000 – 40000 قتيل في اثناء ثورة الفلاحين بسبب بطش الفاشيين الذين قامت الولايات المتحدة بإعادتهم إلى الحكم .
بعد الحرب كشفت القيم الأمريكية عن وجهها القبيح :
لقد كشفت القيم التي تحكم السياسة الأمريكية والبريطانية عن وجهها القبيح في شمال إيطاليا ، والتي كانت تحت سيطرة المقاومة المناهضة للنازية ، وذلك حينما وصلت جيوش التحالف لتجد نظاما اجتماعيا فعّالاً وقاعدة اقتصادية قوية . لقد تم وقف عملية طرد العمال ، وأقيمت مجالس للإدارة العمالية ، وانتُخب ممثلون عن العمال ، وهي إنجازات لم تكن ترضى عنها بريطانيا ، وكان من الواجب تدميرها ، بحسب نصيحة "برين" الملحق التجاري البريطاني لحكومته . لقد اعترف بأن مشكلة إيطاليا الأخطر تكمن في كيفية استعادة قوات التحالف لنظام العمل التقليدي قبل قيام التنظيمات المناهضة للنازية . لقد جعلت قوات التحالف من أولوياتها الفعالة حماية الملكية ونزع سلاح المقاومين وإخضاع لجنة التحرير القومي "للسيطرة" . لقد صارت حركة المقاومة بعد الحرب مصدرا لقوة مستقلة ومن ثم وجب كبحها ، وبالمثل كان على الحكومة العسكرية أن تولي اهتماما لعملية "تنوير عقول الشعب الإيطالي نحو طريقة للحياة الديمقراطية" ، بحسب ما أعلنه رئيس قوات التحالف الأدميرال "إليري ستون" في تقرير أثنت عليه وزارة الخارجية الأمريكية واعتبرته "رائعاً" .
لقد أبدت حكومة التحالف العسكرية مخاوفها من إعادة البناء الإجتماعي في إيطاليا بما قد يؤدي إلى اضطراب شعبي يتجه نحو المطالبة بملكية عامة لوسائل الإنتاج الصناعي ، وترتيب البناء الهرمي للمجتمع الإيطالي في غير صالح أصحاب المشروعات الصناعية الكبرى . وللحيلولة دون ظهور أية توجهات مضادة للفاشية تقوم على أساس طبقي ، قامت حكومة التحالف العسكرية في إيطاليا بتفتيت الاتحادات العمالية وتهميشها ، وتمت استعادة البناء الهرمي في الصناعة الإيطالية . هكذا كانت قوة حكومة التحالف قادرة على "كبح جماح الطبقة العاملة والحفاظ على الامتيازات لكبار المقاولين من الرأسماليين" .
لقد كان العمال دوما مشكلة لأنهم كانوا "مؤثّرين للغاية" عبر الاتحادات العمالية بما يهدد استقرار النظام ، ولذلك كان من الواجب تعليمهم نموذج اتحاد العمال الأمريكي البعيد عن ممارسة السياسة . ويقوم هذا النمط على مثال "اتحاد العمال الأمريكي – AFL" المؤلف من "دائرة صغيرة من موظفي الإتحاد" الذين لا ينخرطون في السياسة إلا بمقدار ما يُسمح لهم بالموافقة والتصديق ، ويحافظون على علاقاتهم الوثيقة بكل من المخابرات الأمريكية ووزارة الخارجية ، ويركزون على العمليات ذات "الأهداف الإستراتيجية" . لقد فجر الشيوعيون مشكلة أنهم يحظون بثقة الشعب بفضل اتحادهم على المستوى الشخصي وبفضل سجلهم المناهض للفاشية ، وذلك كما يقول الملحق التجاري الأمريكي "جون آدامس" . لقد بُنيت شعبية الحزب الشيوعي بين العمال الإيطاليين على حقيقة دفاعه عن حقوق العمال ، ولهذا (والكلام لآدامس) لا بُدّ من تقويض الاتحاد العمالي من أجل مصالح "الإعتدال" و"الديمقراطية" . لقد أوضحت الولايات المتحدة بشكل قاطع أنه سيتم قطع المساعدات ، وأن إيطاليا ستُترك وحيدة بلا عون إذا لم يلتزم الناخبون بتعهداتهم ، وهو ما جعلهم يقومون بعملية انتخابية يسمونها "ديمقراطية تحت الإكراه". وتم التخطيط لوسائل أكثر قمعية تحسّبا لما قد لا تحقّقه "العملية الديمقراطية" .
الجيش الأمريكي يعتمد كرّاسات الجيش النازي والفاشي :
لقد صاغت الولايات المتحدة حين دخلت جيوشها الدول الأوروبية بعد اندحار دول المحور ، مبادىء مقاومة الإنتفاضات الشعبية التي قاومت النازية والفاشية على هدي انجازات وممارسات فاشية من الحرب العالمية الثانية ، مع أن النموذج النازي كان هو النموذج المفضل . ويلاحظ بعض المحللين "التشابه المفزع بين النظرة النازية للعالم والنهج الأمريكي في الحرب الباردة" . تعترف الكراسات نفسها - أي كراسات الجيش الأمريكي في الخمسينات - بالشبه الشديد بين المهام التي وضعها هتلر لنفسه والمهام التي اضطلعت بها الولايات المتحدة على نطاق عالمي بمجرد توليها الصراع ضد المقاومة المعادية للفاشية وغير ذلك من المجرمين (الذين تُلصق بهم تسميات من قبيل "شيوعيين" و"إرهابيين") . وتتبنى كراسات الجيش الأمريكي منظومة المصطلحات النازية نفسها كأمر مُسلّم به ، حيث كانوا يسمّون الأنصار بـ "الإرهابيين" بينما كان النازيون "يحمون السكان" من عنف الإرهابيين . أمّا قتل "كل من يقدّم المساعدة بشكل مباشر أو غير مباشر لهؤلاء الأنصار" أو اي شخص يخفي معلومات عنهم فهو أمر قانوني حسب اتفاقيات جنيف !! كما يقول الأمريكيون. كان الألمان والمتعاونون معهم محرّرو الشعب الروسي . وساعد قدامى ضباط الجيش الألماني النازي في إعداد كراسات الجيش الأمريكي التي اختارت دروساً مهمة مثل "الإخلاء الكامل للسكان من المناطق التي تشهد نشاطات الأنصار وتدمير كل المزارع والقرى والمباني في المنطقة بعد الإخلاء" . إنها السياسات التي أشاد بها مستشارو كندي من الحمائم . أوصت كراسات الجيش الأمريكي بتكتيك الخوف ، واختطاف أو اغتيال أعضاء معارضة مختارين بعناية لتخويف كل الناس من التعاون مع حرب العصابات وهي الأساليب التي اتبعتها الولايات المتحدة في أمريكا الجنوبية . ولا يُستثنى المدنيون حين يختارون الجانب الخطأ .. (لقد نشرت مجلة التايمز مقالة تصوّر (كيف دُكّت مدينة "فينه" الفيتنامية التي تسمّى "درسدن فيتنام" – ودرسدن مدينة ألمانية دمرتها القاذفات الأمريكية تماما عام 1945 وكانت مركزا لتجمع اللاجئين الفارين أمام تقدم الجيش الروسي وقتلت بين 300000 – 500000 مدنيّاً. ومثل ذلك دمّرت الطائرات الأمريكية مدينة "فينه" الفيتنامية بقاذفات ب – 52 لأنها كانت "موقع ملعون" يحتضن المقاومين "الإرهابيين" ، وسُوّيت هذه المدينة البالغ سكانها 600000 نسمة بالأرض كما أفاد مسؤولون كنديون وحولت مناطق واسعة من جوارها إلى ما يشبه سطح القمر ، وهي أفعال تفوق بشاعتها بشاعة ما كان يقوم به النازي.
احتضان الولايات المتحدة الضباط النازيين وتشغيلهم بعد الحرب :
بعد الحرب العالمية الثانية سعت الولايات المتحدة إلى تدمير الاتحاد السوفيتي ونخره اقتصاديا بصورة علنية. لكنها اتبعت أيضاً وسائل سرّية في تلك المرحلة تضمنت إرسال معدات وعملاء يندسّون في صفوف جيوش الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية ، والتي كانت قد صمدت أمام هتلر ، ووضع إدارة أجهزة التجسس في ألمانيا الفدرالية بيد "رينهارد غيلين" الذي كان يدير أجهزة التجسس العسكرية النازية في الجبهة الشرقية ، وتجنيد مجرمي الحرب النازيين للمشاركة في المشروع الأمريكي الشامل لما بعد الحرب ، والذي يهدف لتحطيم المقاومة المعادية للفاشية . ولأن العملاء من أمثال هؤلاء المجرمين لا يمكن حمايتهم في أوروبا ، فقد أرسلوا ، كل حسب مهمته ، إلى بلد من بلدان أمريكا اللاتينية .
وفي كتاب لـ "كريستون سيمبسون" بعنوان "انفجار" صدر عام 1988 :
"قامت أجهزة التجسس الأمريكية ، والأجهزة المعادية للمقاومة ، بتجنيد مجرمي الحرب النازيين الكبار ، مثل كلاوس باربي الذي يعتبر بدون شك ، الأكثر شهرة بينهم " .
وعمل النائب العام الأمريكي ماك كلوي على اطلاق سراح مجرم حرب نازي اسوأ حتى من باربي ، وكان يطلق عليه اسم (فرانز 6) والذي كان يعمل تحت إمرة (رينهارد غلين) الذي أوكلت إليه مهمة تشكيل "جيش سري" ، تحت الرعاية الأمريكية ، وبالتعاون مع أعضاء قدامى في جهاز الأمن النازي واختصاصيين آخرين في جهاز قوات الدفاع الوطني النازية والذين كانوا قد قدّموا العون للقوات العسكرية الميدانية التي وضعها هتلر في بلدان أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي ، وساعدوا بعد انتهاء الحرب في عمليات استمرت حتى أعوام السبعينات . وكان غلين نفسه رئيسا للاستخبارات العسكرية النازية في اوروبا الشرقية ، وقد عُهد إليه فيما بعد ، في الدولة الألمانية الجديدة بمنصب مدير إدارة التجسس والتجسس المضاد ، تحت مراقبة صارمة من المخابرات الأمريكية.
وقد أعادت الولايات المتحدة تشغيل المئات - إن لم نقل الآلاف - من رجال المخابرات والاستخبارات النازيين في دول مختلفة ، ويهمني هنا أن أقدّم نبذة عن أشهر ضابطين نازيين احتضنتهما الولايات المتحدة وأعادت تشغيلهما في مناصب وعمليات خطيرة وشهيرة جدا ، وهما :
أوّلاً : الجنرال (رينهارد غلين) :
ولد في 3/أبريل/1902، وهو جنرال ألماني كان رئيسا لوحدة الإستخبارات العسكرية النازية في الجبهة الشرقية خلال الحرب الثانية حيث ارتكب جرائم حرب حقيقية ، ثم أصبح قائدا لما سمّي بـ (منظمة غلين) ثم أول رئيس لوكالة الإستخبارات الألمانية الفدرالية خلال الحرب الباردة . ويعتبر واحدا من أعظم أساطير سادة التجسس في الحرب الباردة . وقد قامت الولايات المتحدة بتجنيده خلال الحرب الباردة بعد أسره في 22 آيار 1945 في بافاريا ليقوم بتشكيل خلية تجسسية موجّهة ضد الإتحاد السوفيتي سمّيت بـ (منظمة غلين) جمع فيها العديد من الضباط الألمان النازيين السابقين من الحرس الخاص والحرس الحديدي ثم أصبح رئيسا لوكالة الإستخبارات الألمانية حتى عام 1968 .
بعد أسره ، تم التحقيق معه من قبل ضابط الاستخبارات الأمريكي (جون بوكر) ، وكان قد قام بدفن أكثر من 50 صندوقا مليئة بالوثائق عن القيادة العسكرية الألمانية العليا في أماكن متفرقة ، وكذلك معلومات مهمة جدّاً عن الإتحاد السوفيتي والجيش الأحمر التي افتقد إليها الحلفاء بعد اسدال الستار الحديدي في عام 1946 . عرض على المحققين الأمريكان شحنات وثائقه ومعلوماته عن الاتحاد السوفيتي وتوظيف صلاته التجسسية داخل روسيا لمصلحة الولايات المتحدة مقابل حريته وحريّة زملائه الضباط المعتقلين في معسكرات الأسر داخل الولايات المتحدة . في 20 أيلول 1945 تم نقل غلين – بمعرفة الرئيس إيزنهاور وجون دالاس وريشارد دونوفان - إلى الولايات المتحدة حيث بدأ العمل مع الأمريكان في معسكر الأسر مع زملائه . في تموز 1946 أطلق سراح غلين رسميا من الأسر ونُقل إلى ألمانيا حيث بدأ النشاط المخابراتي في 6 أيلول 1956 بتأليف منظمة من الضباط النازيين الألمان السابقين تحت تسمية تمويهية هي (منظمة التنمية الصناعية لجنوب ألمانيا) . استدعى غلين 350 ضابطا نازيا مخابراتيا للإرتباط به ، ثم تصاعد العدد تدريجياً إلى 4000 عميل سري . أطلق على هذه المنظمة اسما حركيّاً هو "منظمة غلين" . كانت هذه المنظمة تحت الإشراف المباشر للجيش الأمريكي في البداية ، لكن غلين نجح في إقناع الأمريكان بوضعها تحت إشراف وكالة المخابرات في عام 1947 . كانت هذه المنظمة ولسنوات طويلة عيون وآذان الوكالة في التجسس على الاتحاد السوفيتي . كل أسير ألماني عاد من الاتحاد السوفيتي بين 1948 و1955 تم استجوابه من قبل هذه المنظمة . زرعت المنظمة العديد من العملاء داخل الإتحاد السوفيتي .
ثانياً : كلاوس باربي
ولد في 25 تشرين أول 1913، وكان ضابطا في الحرس الخاص النازي وعضو في الغستابو ، يلقب أيضا بـ "سفّاح ليون" لأنه كان يقوم بنفسه بتعذيب السجناء الفرنسيين من المقاومة الفرنسية كرئيس لدائرة الغستابو في مدينة ليون الفرنسية في أثناء احتلالها حيث كان يقوم بتكسير أطراف السجناء وصعقهم بالكهرباء رجالا ونساء وأطفالا ، واغتصابهم مستخدما الكلاب أحيانا . كان باربي مسؤولا عن موت 14000 شخص !!. بعد الحرب استخدمته وكالة المخابرات الأمريكية في حربها ضد المنظمات الماركسية ونجحت في تهريبه إلى أمريكا الجنوبية . وهناك قام بالمساهمة في أخس وأشهر عمل في تاريخ الإستخبارات الأمريكية في أمريكا اللاتينية وهو ألقاء القبض على المناضل الأرجنتيني الثائر الخالد العظيم "تشي غيفارا" عام 1967 وإعدامه . وقد وضع الخطة مستخدما خبرته في الحرب المضادة لحرب العصابات . كما كان له دور في الإعداد لانقلاب عسكري في بوليفيا عام 1980 . بعد انهيار الديكتاتورية في بوليفيا لم يعد بالإمكان حمايته حيث تم تسليمه إلى الحكومة الفرنسية عام 1983 حيث أدين بجرائم حرب ومات في السجن .
تفسير ومعلومات من المؤرّخ "نعوم تشومسكي" :
ردا على سؤال للصحفي "ديفيد بارساميان" عن كيف تم احضار أعداد كبيرة من مجرمي الحرب النازيين المعروفين وعلماء صناعة الصواريخ وحراس المخيمات وغيرهم إلى الولابات المتحدة ، قال المؤرخ "نعوم تشومسكي" :
(كانت هنالك أيضا عملية شملت الفاتيكان !! ووزارة الخارجية الأمريكية والمخابرات البريطانية حيث أخذت بعض اسوأ المجرمين النازيين واستخدمتهم في أورويا أولا . فهنالك على سبيل المثال : كلاوس باربي ، جزّار مدينة ليون الفرنسية ، الذي أخذته المخابرات الأمريكية وإعادته إلى العمل ، وعندما تحول هذا الموضوع إلى حديث الساعة فيما بعد ، لم يجد بعض المسؤولين الأمريكيين أي تفسير لتلك الجلبة . فقد دخلنا أخيرا إلى ألمانيا لكي نحل محل الألمان . كنا بحاجة إلى شخص يشن هجوما على المقاومة اليسارية وقد حصلنا على خبير في المجال . هذا ما كان يفعله بالنازيين . فهل يوجد من يقوم لنا بهذا العمل بطريقة افضل ؟
وعندما لم يعد الأمريكيون قادرين على حماية باربي ، تم إرساله إلى أمريكا اللاتينية على يد مجموعة من الكهنة الكروات النازيين وأشخاص آخرين . وهناك تابع عمله ، فأصبح سيد المخابرات وتاجرها الأكبر ، كما شارك في تمرد عسكري في بوليفيا . وكان ذلك كله بدعم من الولايات المتحدة . إلا أن باربي كان صغيرا على القيام بهذه العمليات التي تتطلب عدداً لا بأس به من النازيين الكبار وهكذا استطعنا إرسال "والاروف" الذي ابتدع غرف الغاز ، إلى تشيلي ، في حين رُحّل آخرون إلى إسبانيا الفاشية .
كان الجنرال "رينهارد غلين" رئيسا للمخابرات العسكرية الألمانية على الجبهة الشرقية ، حيث كانت تنفذ جرائم الحرب الحقيقية . والآن نحن بصدد الحديث عن أوشفيتز ومخيمات موت أخرى ، إذ نقل غلين وشبكته المؤلفة من جواسيس وإرهابيين إلى هناك بمساعدة المخابرات الأمريكية ليقوموا بشكل أساسي ، بالأدوار ذاتها .
عندما تلقي نظرة على المؤلفات الأدبية التي تتناول موضوع إحباط المحاولات الانقلابية (يتم تصنيف الكثير منها الآن) تلاحظ أنها تبدأ يتحليل التجربة الألمانية في أوروبا ، وقد كتبت بالتعاون مع الضبط النازيين حيث يتم وصف جميع الأشياء من وجهة نظرهم . مع ذكر كل التقنيات التي أدت إلى نتيجة في السيطرة على المقاومة ، والتقنيات التي لن تؤدي إلى أي نتيجة . . لقد تركت الولايات المتحدة خلفها جيوشا أسسها النازيون في أوروبا الشرقية واستمرت في دعمها . لقد تم تجنيد مجرمي الحرب النازين وإنقاذهم وهو أمر في غاية السوء ولكن تقليد نشاطاتهم هو الأسوأ .وذلك من خلال عمليات أمريكية وبريطانية خلال الحرب والتي كان الهدف منها تدمير المقاومة المناهضة للفاشية وإعادة النظام الفاشي الكلاسيكي إلى السلطة) .
النازية إبنة الحضارة الغربية :
ومخطيء خطأ بليغا من يعتقد أن اللحظة النازية هي لحظة انبثقت من الفراغ و أنها لحظة ألمانية صرف . إنها النتاج الطبيعي والمؤكّد للحضارة الغربية ، والتعبير السلوكي عن الرؤى المركزية في الفلسفة المادية الغربية الحديثة. كان الحلفاء يشربون من معين الفلسفة المادية نفسه الذي شرب منه النازيون وكان النازيون ، كما يقول المفكّر الراحل د. عبد الوهاب المسيري ، يدركون تمام الإدراك أن نظامهم النازي وممارساته الإبادية إنما هي ثمرة طبيعية للتشكيل الحضاري الغربي الحديث. ولعل أكبر دليل على أن الإبادة إمكانية كامنة، تضرب بجذورها في الحضارة الغربية الحديثة، أنها لم تكن مقصورة على النازيين وإنما تشكل مرجعية فكر وسلوك الحلفاء، أعداء النازيين الذين قاموا بمحاكمتهم بعد الحرب. فإرنست همنجواي ، الكاتب الأميركي المعروف، كان يطالب بـ "تعقيم" الألمان بشكل جماعي للقضاء على العنصر الألماني. وفي عام 1940 م قال تشرشل إنه ينوي تجويع ألمانيا وتدمير المدن الألمانية وحرقها وحرق الغابات الألمانية. وقد عبر "كليفتون فاديمان" محرر مجلة النيويوركر، وهي من أهم المجلات الأميركية إبان الحرب، عن حملة كراهية ضارية ضد الألمان، تشبه في كثير من الوجوه الحملة التي شنها الغرب ضد العرب في الستينيات والتي يشنها ضد المسلمين والإسلام في الوقت الحاضر، حيث قال :
(إضرام الكراهية لا ضد القيادة النازية وحسب، وإنما ضد الألمان ككل، فالطريقة الوحيدة لأن يفهم الألمان ما نقول هو قتلهم.. فالعدوان النازي لا تقوم به عصابة صغيرة.. وإنما هو التعبير النهائي عن أعمق غرائز الشعب الألماني. فهتلر هو تجسّد لقوى أكبر منه، والهرطقة التي ينادي بها هتلر عمرها 2000 عام).
ولنأخذ مثلاً عمليّاً موثّقاً يتعلق بأسرى الحرب . فإذا كانت النازية نظاماً عدوانياً وعنصرياً لا يتورّع عن تجويع أسرى الحرب وتعذيبهم وقتلهم ، فكيف نفسّر إبادة ما يقرب من مليون أسير حرب ألماني على أيدي آسريهم الفرنسيين والأمريكيين والبريطانيين؟
لنقرأ هذه المعلومة :
(لقد قضى 793239 جندي ألماني نحبهم في معسكرات الإعتقال الأميركية عام 1945 م ، كما قضى 000167 ألف منهم في معسكرات الاعتقال الفرنسية نتيجة للجوع والمرض والأحوال الصحية السيئة، وفي الوقت نفسه كان يوجد ( 13,5 ) مليون طرد طعام في مخازن الصليب الأحمر ، تعمّدت سلطات الحلفاء عدم توزيعها عليهم لغرض إبادتهم !!).
يقول تشومسكي : (كان الأمريكان يديرون ما سُمّي بـ "معسكرات إعادة التأهيل" لأسرى الحرب الألمان . وقد رُحّب بهذه المعسكرات باعتبارها مثالاً كبيرا للأعمال الإنسانية. وذلك لأننا كنّا نعلّم الأسرى الأساليب الديمقراطية (بمعنى آخر كنا نملي عليهم كيفية قبول مفاهيمنا) . لقد كان السجناء يعاملون بطريقة وحشية . هذا بالإضافة إلى تجويعهم . وبما أن هذه المعسكرات كانت تنتهك المواثيق الدولية انتهاكا صارخا ، فقد بقيت سرّية خشية أن يعامل الألمان أسرانا بطريقة مماثلة كشكل من اشكال الإنتقام. هذا وقد استمرت تلك المعسكرات بعد الحرب لفترة لا أعرف كم طالت . لكنني أعرف أن الولايات المتحدة احتفظت بأسرى الحرب الألمان حتى منتصف عام 1946 ، حيث كانوا يستخدمونهم في الأشغال الشاقة ويضربونهم ويقتلونهم . وقد كان الأمر أكثر سوءا في إنكلترا . إذ احتفظوا بأسرى الحرب الألمان حتى منتصف عام 1948 . وهذا بمجمله مناف للقانون .
عندما كنت صغيرا كان هناك معسكر لأسرى الحرب بجوار مدرستي مباشرة . فكانت تنشأ نزاعات بين الطلاب حول موضوع توبيخ السجناء ، ولم يكن الطلاب قادرين على العراك معهم لأنهم كانوا خلف حاجز ، لكنهم كانوا يرمونهم بالحجارة ويشتمونهم . إلا أن مجموعة قليلة من الطلاب كانت تعترض على تلك الأعمال معتبرة إياها أعمالا فظيعة) .
ملاحظة عن هذه الحلقات :
هذه الحلقات تحمل بعض الآراء والتحليلات الشخصية ، لكن أغلب ما فيها من معلومات تاريخية واقتصادية وسياسية مُعدّ ومقتبس ومأخوذ عن عشرات المصادر من مواقع إنترنت ومقالات ودراسات وصحف وكتب خصوصاً الكتب التالية : ثلاثة عشر كتاباً للمفكّر نعوم تشومسكي، كتاب أمريكا المُستبدة لمايكل موردانت ، التاريخ السري للامبراطورية الأمريكية لجاك بركنس ، أمريكا والعالم د. رأفت الشيخ، تاريخ الولايات المتحدة د. محمود النيرب، الولايات المتحدة طليعة الإنحطاط لروجيه غارودي، الفردوس الأرضي د. عبد الوهاب المسيري، وغيرها الكثير.