لا يزال زمن الأزمات الاجتماعية ذات المنحى الطبيعي والبشري في تاريخ المغرب، بأبحاث ودراسات على قدر كبير من الندرة. ولعل مما تزخر به وتحتويه وتحفظه خزانتنا التاريخية من ذخيرة في هذا الاطار، وما يتوزع حول هذا الشأن من بحث وتنقيب وتراكم أكاديمي، الى جانب اسهامات كل من الحسين بولقطيب رحمه الله عن مغرب العصر الوسيط ومحمد تريكي عن زمنه الحديث وبوجمعة رويان حول الفترة المعاصرة، نجد ما أسهم به محمد الأمين البزاز رحمه الله، من عمل رزين يخص تاريخ المغرب الاجتماعي، تحديداً ما توجه اليه بالعناية حول أوبئة ومجاعات مغرب القرن الثامن عشر والتاسع عشر.
والمؤرخ والباحث محمد الأمين البزاز رحمه الله الذي ينتمي لمنطقة جبالة بشمال البلاد توفي قبل ثمان سنوات، كان استاذا بكلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط ومن الباحثين الذين توجهوا بورشهم واهتمامهم في مجال البحث العلمي، للتنقيب في ما هو اجتماعي يخص تاريخ المغرب وخاصة موضوع المجاعات والأوبئة. وقد توجت جهوده في هذا المجال بمؤلَّفين متميزين اشرف عليهما الاستاذ جرمان عياش رحمه الله وهما: المجلس الصحي من 1792 إلى 1829 وقد نال به دبلوم دراسات عليا في التاريخ، أما المؤلف الثاني فقد تمحور حول موضوع مجاعات وأوبئة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ولعله موضوع اطروحته التي نال به شهادة دكتوراه الدولة، والتي نوقشت بكلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط في يونيو 1990. والى جانب ما اسهم به محمد الأمين البزاز رحمه الله من مقالات علمية تخص تاريخ المغرب بعدد من المنابر العلمية المحكمة، خاصة منها مجلة دار النيابة بطنجة ومجلة كلية الآداب بالرباط فضلاً عما نشر بمجلة المناهل وهيسبريس تامودا.. عمل رفقة عبد العزيز التمسماني خلوق رحمه الله على تعريب مؤلف "دراسات في تاريخ المغرب" ومؤلف" أصول حرب الريف" لأستاذهما المؤرخ الفقيد جرمان عياش رحمه الله.
وبقدر ما كان عليه مؤلفه "الأوبئة والمجاعات بالمغرب خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر" من سبق، بقدر ما كان بقيمة علمية مضافة للخزانة التاريخية المغربية والعربية. فقد أورد عنه جرمان عياش رحمه الله رائد التاريخ الوثائقي المغربي وهو من أشرف عليه وتتبع فصوله باعتباره أطروحة في الأصل، أنه حصيلة جهد كبير في خضم ما توجد عليه المادة العلمية من ثغرات وندرة وتشتت ليس من السهل جمعها وتنسيقها، فضلاً عن شح مصادر كثيراً ما تقتصر على اشارات تذكر أن هذا مات هناك بسبب الطاعون وأن أولائك دفنوا هناك خلال شهر كذا وسنة كذا. مشيراً الى أن ما يتير الدهشة هو استمرارية الشعب المغربي رغم ما حصل من ضربات لكوارث طبيعية متكررة قاسية، وانه رغم ضعفه منذ عهد الموحدين خلال القرن الثاني عشر الميلادي ظل على تنظيم وتلاحم. ما ظهر جلياً خاصة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، من خلال ما كانت عليه الدولة على تواضع اجراءاتها من دور في التخفيف من وقع نزيف جوائح البلاد.
وحول جوائح وأوبئة مغرب القرن الثامن عشر والتاسع عشر، يذكر الفقيد محمد الأمين البزاز أن الاخباريين المغاربة ومن خلالهم المصادر كانوا أكثر اهتماماً بما هو وقائعي سياسي، مع عناية وتركيز على مراكز البلاد وليس على هوامشها وبفترات ازدهار وليس بتلك التي كان المغرب فيها يعيش أزمات وأوضاع صعبة، باستثناء نتف اشارات هنا وهناك ارتبطت بأزمات اجتماعية مروا عليها سريعاً. ما يجعل منها حقيقة قضايا مجتمع جديرة ببحث ودراسة والتفات من قبل باحثين ومؤرخين، علماً أن الأوبئة ومعها المجاعات وغيرها من الآفات الاجتماعية هي ظواهر ملأت سجل تاريخ البلاد، مشكلة محطات بارزة بالنظر لِما ترتب عنها من خراب بليغ ونزيف بشري كان أحياناً على درجة عالية من الأثر والتأثير والقساوة بدليل ما ورد حولها في مصادر تاريخية مغربية لمعاصرين.
وعما كان عليه المغرب من طاعون ومجاعة وحروب أهلية بين عشرينات القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، من جملة ما أورده حول أوبئة هذه الفترة على امتداد حوالي المائة سنة نجد طاعون 1742 -1744، الذي ضرب البلاد انطلاقاً من مدن متوسطية. مشيراً ومعتمداً على ما هناك من رواية تاريخية الى أن تسرب الوباء كان بسبب قدوم قافلة تجارية للحرير، قدمت من الشرق فجلبت معها العدوى الى فاس، ما تأكد من اشارات "نشر المثاني" للقادري الذي ذكر أن تازة كانت منطلقاً للوباء بعدما وصلها من جهة الشرق:" فلما نال العبيد ما نالهم من نهب أولاد حماد رجعوا مسرعين فوجدوا الطاعون قد فشا في مكناس وفاس، فنزل العبيد خارج مشرع الرمل ولم يدخلوا لديارهم وكان قبل هذا بنحو عامين ظهر بتازا."
وعليه فقد كانت التجارة والتجار خلال هذه الفترة من أسباب ما حصل من تسرب لوباء الطاعون الى المغرب، بل ما كان يطبع البلاد أيضاً من حرب أهلية وصراع على العرش، جعل الجند بدورهم يعملون على توسيع انتشاره مع تنقلاتهم وبعد عودتهم من معاركهم، فكان ما كان من نزيف بشري بعدد من مدن البلاد كفاس ومكناس وزرهون وتطوان ثم سلا والرباط. ويذكر "الضعيف" في هذا الاطار:" عم الوباء جميع المغرب وغلت الأسعار وضاعت من الخلائق ما لا يحصى عددها حتى قيل مات من أهل القصر أربعة عشر ألف بالطاعون وهربت منه أهل الريف." مع أهمية الاشارة لما ورد عند الاخباريين من اشارات حول ما سجل من تراجع وانحصار للوباء خلال فصل الصيف من شدة الحرارة كما حصل عام 1742، وهو ما تبين أكثر وتأكد خلال سنوات وبائية لاحقة.
ويذكر محمد الأمين البزاز أن من طواعن زمن مولاى سليمان وخلفه مولاي عبد الرحمن، والتي كانت بأثر اجتماعي وسياسي واقتصادي كبير هناك طاعون 1798- 1800 الذي عمر تقريباً لمدة ثلاث سنوات، وقد جاء بعد حوالي نصف قرن عن سابق له. ويعتقد أنه تسرب الى المغرب من الشرق 1799 عبر الطريق التجاري البري (وجدة - تازة- فاس..) عندما كان متفشياً في تلمسان 1798. ويذكر "الضعيف" في هذا الاطار:" وفي 10 رمضان خرج مولاي الطيب من فاس الجديد بعد أن جاء من مكناس عاملاً على تادلا والشاوية (فبراير 1799)..وكان الوباء بفاس وقصبة اشراكة وفي اولاد جامع وكثر الموت في الناس. وكان مولاي الطيب قبل خروجه من فاس بيوم زار مولاي ادريس وفرق على الضعفاء مالاً يوم الجمعة 9 رمضان، ولما أراد الخروج من فاس الجديد .. قبل طلوع الشمس، فلما وصل قبة السمن وجد جنازة خارجة على الباب الجديد.. فوقف حتى تخرج الجنازة فالتفت وراءه فوجد جنازة أخرى فتطير من ذلك وتغير لونه واشتد الطاعون في الناس." ومن الروايات من تحدثت على أن هذا الوباء ظهر بفاس منذ نهاية 1798، لينتشر تدريجياً في فبراير من السنة اللاحقة ليبلغ دروته شهر مارس من السنة نفسها.
والى جانب ضعف ومحدودية تدابير الوقاية خلال هذه الفترة، يضيف محمد الأمين البزاز أن من جملة ما يسجل هو ما حصل بالتوازي من قحط وجفاف ومن جراد عم البلاد حتى أنه بلغ طنجة. مع أهمية الاشارة الى أن طاعون 1799 تفشى وانتشر في فاس والنواحي قبل انتقاله الى غرب البلاد حيث الشاوية ودكالة وعبدة والحوز في بداية الصيف، ليتوغل في بلاد سوس خلال شهر غشت وشتنبر من السنة نفسها وليضرب تطوان وطنجة خلال خريف نفس الفترة بحيث لم ينقطع أثره سوى عام 1800. وكان هذا الوباء الذي ضرب البلاد قد خلف نزيفاً ديمغرافياً ترتب عنه خلاء كثير من مدن المغرب بحسب الرواية الأجنبية، بل من الاشارات التاريخية من تحدثت عن هروب الناس الى البوادي لدرجة أنه لم يكن يوجد من يتولى تجهيز الموتى. ومن الاشارات الاخبارية أيضاً ما أفاد أن الناس كانوا يلقون بالجثث في حفر كثيرة، ومن الرواية الأجنبية من توقفت على ما أصاب الناس من يأس لدرجة شراء أكفانهم لتلف بها جثثهم حينما يأتي دورهم.، بل من الناس من عمد الى افراغ مطاميرهم وتوزيع ما بها على الفقراء وتهيئتها لتكون قبوراً لهم.
ولا تذكر الرواية المغربية وباء 1799 لا بالأسود ولا بالأبيض بل نعتته ب"الطاعون الكبير"، الذي عم بوادي البلاد وأمصارها وخلت بسببه خيام وديار. ولعل من الاشارات التي وردت حوله كون الموت بسببه كان رهيباً فضيعاً ودريعاً وكاد من شدته أن يفضي الى الفناء، ومن الروايات من قالت عنه أنه :" أخلى العباد من البلاد". وحول ما أحدثه طاعون هذه الفترة من نزيف قيل أنه كان يموت في تطوان كل يوم حوالي مائة وثلاثين فرداً، وفي فاس كان يدفن حوالي ألف ضحية كل يوم. وحول درجة فتكه بعباد غرب البلاد أورد الضعيف:" وقصد السلطان (مولاي سليمان) دكالة فوجد عاملها قد مات ومات ولده وأخوه بخدمه وعياله ونساءه وبقيت داره خالية." ليبقى ختاما بحسب ما هناك من رواية مغربية وأجنبية معاً، أن هذا الوباء الذي نعت ب"الكبير" قد يكون أباد ثلث أو نصف سكان المغرب.