لماذا عرْضُ هذا الكتاب الذي يدور حول شخصية الباحث والأستاذ الجامعي غرشوم شوليم؟ يُعدّ شوليم من أعلام الفكر اليهوديّ (1897-1982)، وقد خلّفَ أثرًا واضحًا في مسار الدراسات اليهودية المعاصرة، بفضل أبحاثه التأصيلية في الموروث الصوفيّ العبريّ، وفي الثقافة اليهودية المعاصرة بشكل عامّ. لكنّ الإسهام الأكبر لشوليم في مشاركته في قيام الجامعة العبرية في القدس، وفي تمثيله للصهيونية الثقافية النقدية على مدى فترة حاسمة. نتابع مع الكاتب دافيد بيالِه، أستاذ التاريخ العبريّ في جامعة كاليفورنيا (دافيس)، إعادة كتابة سيرة الرجل، من خلال إبراز دوره الثقافي داخل إسرائيل وخارجها، وقَبل قيام الدولة العبرية وبَعده.

1
تفسيرُ التاريخ يُشكِّل تاريخًا جديدًا للمَعنى الوجودي، وحياةً مُوازية لحياة الإنسان . وبما أن عملية التفسير تشتمل على الأسئلة المصيرية والأجوبة المنطقية ، فإنَّ التاريخ سَيَؤُول إلى تواريخ مُتعدِّدة ومُتكاثرة . إذْ إنَّ كُلَّ تفسير للتاريخ ولادةٌ جديدة له، وكُل ولادةٍ ظاهرةٌ معرفية تمتاز بالاستمرارية في سُلطة الأفكار، وتتمتَّع بالدَّيمومة في الظواهر الثقافية . وهذا يعني أن التاريخ يُولَد باستمرار كنشاط ذهني خارج الزمان والمكان . وهذا الانبعاثُ التاريخي الدائم يَمتلكُ القُدرةَ على التواصل معَ عوالم الإنسان الداخلية بلا انقطاع ، ويستطيعُ تجميعَ قواعد المنهج الاجتماعي المتناثرة في البيئات المُحيطة بالإنسان بلا توقُّف ، مِمَّا يدلُّ على أن التاريخ يَكتسب شرعيته من داخله ، ولَيس مِن علاقته مع المراحل الزمنية . ومعَ أنَّ التاريخ يتماهى مع بُنية الزمان المركزية ، وطبيعةِ المكان الرمزية ، إلا أن يَمتلك وُجودًا خاصًّا به عابرًا للتجنيس ، ومُتَجَاوِزًا للصراع الوهمي بين الماضي والحاضر . ومِن أجل حمايةِ التاريخ مِن التَّشَظِّي الوجودي والتَّشَعُّب الفكري ، وإحكامِ السَّيطرة على وِلادات التاريخ المُتواصلة، ينبغي ربط تفسير التاريخ بالتحليل النَّفْسي للأفراد والجماعات، للكشف عن منطقِ التاريخ، والوَعْيِ العميق الذي يُحرِّك الأحداثَ ، ويُحدِّد معالمَ الهُوية التاريخية قلبًا وقالبًا ، وهذا مِن شأنه تحليل الخِطاب المعرفي القائم على أنسنة التاريخ ( إضفاء الصفات الإنسانية على التاريخ ) ، وُصولًا إلى تجسيد تاريخ الإنسان ذهنيًّا وواقعيًّا. وهذه العلاقةُ الفلسفية التبادلية بين التاريخ والإنسان تُشير إلى أنَّهما كائنان حَيَّان، يتحرَّكان بشكل مُتوازٍ معَ مصادر المعرفة ومرجعيات الثقافة ، ويَلتقيان في مجالات التفكير العقلاني ، ومنظومة الأخلاق، والتجارب الاجتماعية، وأشكال الوَعْي ، وانعكاسات المعنى على مسار الحركة الفكرية في المجتمع.

إن التركيز على الحاضر، أو على الماضي القريب جدا، يجعلنا عاجزين عن تفسيرهما، مِثل عالِم بحار يرفض رفع عينيه إلى النجوم بحجة أنها بعيدة جدا من البحر، وحينها لن يكون بوسعه أبدا معرفة أسباب المد والجزر. هكذا يدعو مارك بلوخ، المهووس بمهنة المؤرخ، قارئ شهادته حول الهزيمة الغريبة لفرنسا للبحث، وهو يستقصي الحقيقة، في أسباب الاندحار السريع أمام ألمانيا النازية، وتجنب التفسيرات السطحية والمتهافتة .
بعد الانسحاب من الجبهة، والعودة إلى درس التاريخ في جامعة السوربون شهر ماي 1940 كتب مارك بلوخMarc Bloch شهادته حول الحرب الثانية، وكان يتمنى أن يبقى لديه، كما الشعب الفرنسي، دمٌ لبذله في سبيل الوطن، وفي الوصية كان الرجاء لديه في أن تُنقشَ على قبره عبارة: " كان يعشق الحقيقة" .
نص الشهادة L’étrange défaite, témoignage الذي جاء بنبرة تأنيب الضمير لمواطن يعشق وطنه، صدرت الترجمة العربية له في طبعتها الأولى عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة ترجمات في شهر ماي 2021،وهي للباحثة في العلوم السياسية عومرية سعيد سلطاني .الكتاب من الحجم المتوسط (184صفحة).
يقدّم المترجمُ شهادة المؤرخ مارك بلوخ من خلال ثلاثة فصول، الأول منها تعريف بالشاهد، والثاني تحت عنوان شهادة مهزوم، ثم الثالث بعنوان فرنسي يفحص ضميره، مع وصية المؤرخ التي كتبها بتاريخ 18مارس1943.(توفي مارك بلوخ يوم 16يونيو 1944).

هل يمكن اعتبار القرن الثاني عشر الميلادي بالمغرب، مرحلة جديدة في تشكّل مغرب آخر، ثقافيا وسياسيا واجتماعيا ؟
تمتلك هذه الفرضية مجموعة من العناصر التي تؤكدها، انطلاقا مما استجدّ من تطور وتحوّل ملموسين، وذلك بالخروج من حالة الممالك المتفرقة، ضمن نفس المجال المشترك تاريخيا، إلى نظام الدولة والمخزن وتوحيد المذهب، واستحداث عاصمة سياسية معلومة، ونشوء مدنية وحركة ثقافية في عدد من المدن المغربية، وترسيخ أهمية التبادل الثقافي بين المغرب والمشرق وعدد من الرباطات في كل مكان، بلغ صداها كل المغرب والمشرق، وكذلك صدور تأليفات في شتى العلوم جوهرها الأنا والمجتمع المغربي من داخله، عقلا وشعورا، بعدما عاش لحظات تحول ذاتي بطيء ومتقطع، عنيف في كثير من الأحيان ولكنه مُدهش، منذ مرور حانون القرطاجني على السواحل الأطلسية وبعده الرومان والوندال والبيزنطيين. تاريخ كان فيه المغرب، في الأعم، فاقدا لتلك المبادرة المستقلة والموحِّدة، وربّما لرؤية ناضجة، كما لم يستقل ثقافيا لتكون لديه ثقافة ومؤرخين وأدباء يحكون عنه باعتباره أرضا وشعبا وليس هامشا في وجود المحتل.

1
التحليل الاجتماعي للظواهر الثقافية يُساهم في بناء منطق جديد للتاريخ الخاص ( ذكريات الإنسان وأحلامه الساكنة في أعماقه السحيقة ) والتاريخِ العام ( أحوال المجتمع في الأزمنة المُختلفة ) . وكُلُّ تاريخ يُمثِّل بُنيةً اجتماعية مُتماسكة ، ووحدةً معرفية مُتجانسة ، وشخصيةً وجودية مُترابطة العناصر ، وهذه المُكوِّنات هي أُسُس الهَيكل الفكري للمجتمع، التي تَدفع باتِّجاه توليدِ مفاهيم رمزية قادرة على صِياغة التحولات الجذرية في الشعور الإنساني والسُّلوكِ الاجتماعي ، وإنشاءِ هُوِيَّة عقلانية جامعة تستطيع وضع أُطُر مِعيارية تُنظِّم عمليةَ انتقال المعنى الوجودي من شخصية الإنسان إلى شخصية المجتمع ، أي : انتقال الدَّلالة المعرفية من الجُزء إلى الكُل ، ومِن الخاص إلى العام، من أجل صِناعة منظومة أخلاقية تشتمل على فلسفة العلاقات الاجتماعية ، التي ترسم معالمَ المسار الإنساني للوصول إلى حقيقة المعنى ، وهذه المعالم الأساسية هي: البُنية الاجتماعية ، الظاهرة الثقافية ، الهُوِيَّة التاريخية .

شهد العالم خلال العقود الأخيرة، على إثر تفاقم مشاكل البيئة، نشاطًا مكثّفًا للداعين لاتّباع التقاليد الغذائية الصحيّة والعلاج الطبيعيّ، في ما يشبه ردّة فعل على ما شابَ السلوك البشري من إفراط وانتهاك لضوابط التعامل السليم مع المحيط. فقد بات التحذير من تنكّر الإنسان للمسلك السليم في العيش مدعاة للعديد من المبادرات، الباحثة عن تطوير أعراف جديدة في السلوك العام، تستند إلى ما هو طبيعي وتنأى عما هو مصطَنَع ومتَكلَّف. ومجال العناية بالصحّة هو من أكثر المجالات التي باتت تبحث عن هوية فاعلة في المجتمع، تستند إلى ما هو طبيعيّ وغير مصنَّع. فالاهتمام بالمنتوج الطبيعيّ، الرائج تحت مسمَّى البيولوجي، غير الملوَّث والصحّي، هو جيّدٌ للتناول ومفيد للتداوي أمام زحف ما بات يُعرَف بأمراض العصر.

1
فلسفةُ السلوك الإنساني هي التعبيرُ الوجودي عن حركةِ الفِعل الاجتماعي الظاهري ، والتفسيرُ المركزي للوعي الذهني المُستتر . وبما أن حركة الإنسان في تاريخه الشخصي وتاريخ المجتمع ، لا تتم بمعزل عن العلاقات الاجتماعية الخارجية والخصائصِ النَّفْسِيَّة الداخلية، فإنَّ هُويةً إنسانية جديدة ستنشأ بشكل مُستمر ، وتتولَّد مِن ذاتها لاكتشاف ذاتها. وهذه الهُوية تَجمع بين تاريخ الإنسان وإنسانية التاريخ ، من أجل فتحِ التاريخ الاجتماعي على أسئلة الوجود وتحدِّيات الواقع ، وأيضًا ، تَجمع بين الماهيَّة الاجتماعية والطبيعة النَّفْسية ، مِن أجل توحيدِ الزمان والمكان، وبذلك يتجسَّد الإنسانُ في التاريخ رُوحًا ومعنى ، ويتجسَّد التاريخُ في الإنسان نظامًا ومعرفةً . وهذه التبادليةُ تعني أن كُل صِفة إنسانية لها امتداد تاريخي عميق ، ولَيست وليدةَ اللحظة الآنِيَّة، وأن كُل عامل تاريخي له جُذور اجتماعية راسخة ، ولَيس مقطوعًا عن الوَعْي الإنساني بالزمن المفتوح ( حركة الماضي والحاضر والمستقبل معًا بلا فواصل في مكان يتشكَّل باستمرار ويُعاد صناعته مَعْنًى ومَبنى ) .

على سَـبـيـــــلِ التقدِيـــــــــم:
   ’’ يتّكِـلُـــونَ عَلى البَــاطِل، ويَتكلَّمُون بالكَذب. قَد حَبَلُوا بِـتَعبٍ، ووَلَدُوا إِثْماً. فَـقَسُــوا بَيْضَ أفْعَــى، ونَسَجُــوا خُيوطَ العنْكَبُــوت. الآكِــلُ من بَيْضِهم يَمُــوت، والتّي تُكسَرُ تَخْرُجُ أفعَــى. خُيُــوطُهم لا تَصِــيرُ ثَوباً، ولا يَكتسُون بأعمَالِهم. أعمَالُهم أعمالُ إِثْمٍ، وفِعلُ الظُّلْمِ في أيدِيهم. أرجلُهم إلى الشرِّ تَجرِي، وتُسرِعُ إلى سفكِ الدمِ الزكيّ. أفكارُهم أفكارُ إثمٍ. في طُرُقهم اغتِصَابٌ وسَحقٌ. طريقُ السَّلامِ لم يعرِفُوه، وليسَ في مَسالكِهم عدلٌ. جعلُوا لأَنفُسِهم سُبُلاً مُعوجّة. كُلُّ من يَسِيرُ فيها لا يَعرٍفُ سَلاَمــــــاً‘‘. هكذا يَردُ في الإصحاح التاسع والخمسين من سِفر إشَعيَاء، وهو ما لا نجدُ أبلغَ منه لوصف أولئك الذّين تحدّث عنهم وليام غاي كار في كتابه "أحجار على رُقعة الشطرنج"[1].  في هذا الكتــاب، الذي اعتمدنا عليه لكتابة هذا المقال، يكشف غاي كار (1895 – 1959) الستار عما أسماهُ بـ "المؤامرة الكونية" التي شرعَ في العمل عليها منذُ سنة 1911 ولم يستطع الوصول إلى حقيقتها إلا في سنة 1956! حيثُ بان واتضح له أن ما يعرفه العالم من حروبٍ وثوراتٍ وفوضى تعصفُ بحياة سكانه ليست سوى نتيجة "مُؤامرة شيطانية مستمرة"، ولا يشك غاي كار في أن هذه المؤامرة قد بدأت في ذلك العالم العلوي الذّي يُسمى بالفردوس حينما عصى الشيطانُ اللهَ وتمرّد على الحقّ الإلهي، حقِّ أن تكون كلمةُ الله هي العُليا. ويُشير غاي كار إلى أن هذه المؤامرة الكونية هي نفسُها التي جاء السيّد المسيح إلى الأرض من أجل التحذير منها.