كتاب من تأليف الباحث السعودي متروك الفالح، صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت في العام 2002، يقع في 212 صفحة موزعة على خمسة فصول أساسية. بالنسبة للإطار العام للدراسة، تناقش الأخيرة ظاهرة "تريف المدن" في المنطقة العربية من حيث واقعها وأسبابها وآفاقها متوسلة بالمنهج المقارن، بحيث أضاء المؤلف في مستهل بحثه على الإرهاصات الأولية لظهور المجتمع المدني الحديث في أوروبا بالتزامن مع نشوء الطبقة البرجوازية، مرورا بتأثير الثورة الصناعية التي أفضت إلى "تمدين الريف" بفعل انتقال الحياة الصناعية إلى الأرياف، وما أحدثه ذلك من تحول ثقافي (ثقافة الفردانية بدل الروابط التقليدية كالأسرة... إلخ) وسياسي (الديمقراطية الليبرالية، توسيع قاعدة المشاركة السياسية... إلخ). فكيف يمكن مقاربة إشكالية المجتمع المدني في السياق العربي – الإسلامي؟
أولا: ظاهرة تريف المدن في المنطقة العربية
إن ارتفاع وتيرة التمدن في المنطقة العربية خلال العقود الأخيرة من جراء هجرة سكان الأرياف إلى المدن لا يعني حكما استيعاب مفهوم المجتمع المدني الحديث (بأبعاده الثقافية والقيمية لا المادية - العمرانية فحسب) بالمنطقة العربية، وبدلا من ذلك فإننا نرزح تحت وطأة ظاهرة "تريف المدينة" (خلافا لتمدين الريف بأوروبا) وما يعنيه ذلك من استمرار ثقافة البداوة وعصبياتها بدل روابط المواطنة والتعددية والليبرالية التي تسم المجتمع المدني الحديث. وعليه فإن تأثير العولمة والحداثة يطال فقط الجانب المادي الاستهلاكي لا النسق القيمي للمجتمع.
ورغم وجود عدد وافر من الهيئات والمؤسسات التي تبدو حديثة في سطحها (أحزاب، نقابات... إلخ) إلا أنها في صلبها لا تجسم جوهر المجتمع المدني بسبب انتفاء شرط الاستقلالية عن الدولة، كما أن وفرة الأحزاب والنقابات والجمعيات لا يعني بالضرورة وجود تعددية حقيقية من حيث الأفكار والتصورات المطروحة، فضلا عن غياب الثقافة المدنية والديمقراطية الداخلية لدى تلك التنظيمات بفعل استمرار تأثير عادات وثقافة الريف وإنْ على نحو لاشعوري.
ثانيا: معيقات قيام المجتمع المدني الحديث
ثمة عامل موضوعي يعيق تكون المجتمع المدني الحديث يتمثل في الطابع السلطوي للنظم السياسية العربية، وسياساتها التنموية العقيمة المتجهة إلى تركيز الخدمات والتصنيع في المدن الكبرى، في مقابل إهمالها للأرياف والأحياء المهمشة ذات الامتدادات الريفية في المدن. لكن هناك أيضا عوامل بنيوية بالغة الأهمية تتعلق بطبيعة التجمعات السكانية المتواجدة بالمدن الحاملة لمنظومة ثقافية وقيمية ما زالت مشدودة إلى حياة البداوة والريف. وهكذا فإن تمسك معظم مكونات المجتمع العربي بمفهوم صلب وضيق بخصوص قضايا العقيدة والهوية يجعل من الصعب والمتعذر الانتقال من المجتمع الأهلي التقليدي إلى المجتمع المدني الحديث بمتطلباته القيمية (التعددية، الليبرالية، المساواة بين الجنسين... إلخ).
وعطفا على ما سبق، يشدد الباحث على أن ارتباط الطبقة الوسطى بالبرجوازية في الغرب وإسهامها الكبير في سيرورة التحديث لا يتسق مع واقع الطبقة الوسطى في مجتمعاتنا العربية من حيث هي طبقة محافظة بالأساس تعتمد على منظومة من الريع والامتيازات والتبعية للسلطة، وبالتالي فهي عاجزة عن المشاركة في إحداث التغيير المنشود. وإلى جانب هذه الشريحة من البرجوازية الصغيرة، تعرضت شرائح أخرى من الطبقة الوسطى (الموظفين، المثقفين... إلخ) للتآكل في حجمها نتيجة السياسات النيوليبرالية المتوحشة، مما انعكس سلبا على تأثيرها وفعاليتها.
ثالثا: المجتمع الأهلي كبديل للمجتمع المدني
يتبنى الباحث طرحا لافتا مفاده أن قوى الاجتماع الأهلي التقليدي (القبيلة، الطائفة، العشيرة، العائلة الممتدة... إلخ) لا تشكل عائقا بالضرورة أمام الديمقراطية، بل قد تشكل حافزا لها في ظل التنافس القائم بينها على امتلاك النفوذ والحفاظ على كينونتها، ورفضها الخضوع للسلطة المركزية الاستبدادية، وبالتالي فإن قيام مجتمع مدني خالص من مفاعيل القوى التقليدية ليس شرطا ضروريا لإرساء الديمقراطية بالمنطقة العربية في ظل استحالة تفكيك البنى الصلبة للمجتمع الأهلي التقليدي لارتباطها الوثيق بهوية وشخصية المجتمعات العربية.
وتأسيسا على ذلك، يدعو المؤلف إلى تبني مفهوم المجتمع الأهلي بدل مفهوم المجتمع المدني، الشيء الذي يستتبع المطالبة بإرساء الديمقراطية في بعدها السياسي الشكلاني (توسيع قاعدة المشاركة وصنع القرار السياسي عبر انتخابات حرة ونزيهة)، ومن ثم عدم اعتبار الأبعاد القيمية والفلسفية التي ترتكز عليها الديمقراطيات الليبرالية في الغرب، وهو ما يُعد في تقديري الشخصي اجتهادا غير موفق من لدن الكاتب لكونه يُفرغ مفهوم الديمقراطية من محتواه ويفضي إلى تبني حداثة معطوبة ذات ملامح مشوهة.