"ان الثورة هي الانتشال الاقليمي المطلق عندما تغدو دعوة الى أرض جديدة أو شعب جديد."[1]
استهلال:
ما نعترف به منذ الوهلة الأولى أن تجربة الثورة ليست مجرد فكرة طوباوية ولامن خطأ الفلاسفة بل اختصاصهم المميز وشغلهم الشاغل وحلمهم الدائم يزيدون في لهيبها كلما واتت الظروف ويسمحون لها بالانتقال من وضع منكمش الى آخر متفجر على الرغم من أنهم لا يقودونها بصفة ميدانية ولا يقفون وراء اندلاعها بشكل مباشروانما يكتفون فقط بالتنظير لها بشكل مسبق والمشاركة فيها بطريقة معينة وعلاوة على ذلك يعتبرون أحداثها ومجريات أمورها ومآلها المادة المفضلة للتفلسف واستخلاص العبر والدروس.
غير أن ما يثير للدهشة ويدعو الى الاستغراب هو أن القاموس السياسي التونسي تراجع عن مقولة الثورة وأسقطها من حساباته منذ انهيار المعسكر الاشتراكي وانتكاسة المشروع القومي وحالة التخويف من التيار الاسلامي وبعد القاء تراث الثورات الفرنسية والأمريكية في الأرشيف والمتحف وتم استبدالها بمفاهيم الاصلاح والتحديث والمقاومة والصمود والممانعة ، ولكن ما يلفت النظر مؤخرا هو تزايد التفاؤل لدى البعض من الناشطين والمثقفين المستقلين وتبني بعض التيارات شعارات راديكالية وأفكار قصووية ومطالبتهم بالتعددية ومناداتهم بالتغيير الجذري والعصيان المدني والتمرد السلمي والقطع مع الماضي.
اذا كان العنوان هو "فلسفة الثورة التونسية" فإن صياغته بهذه الكيفية تطرح العديد من المحاذير والصعوبات التي يجب على الفكر الحاذق الانتباه اليها واستنطاقها واستكشاف مسلماتها الضمنية، وأولها هو الحديث عن وجود ثقافة فلسفية للثورة التونسية غذتها ورافقتها وأفضت اليها واستناد رجال الانتفاضة على مخزون فكري ثوري ،أما الصعوبة الثانية فتبرز في الدعوى بإمكانية فهمها واستنباطها وتحديد مجموعة أفكارها والقبض على جملة المبادئ التي وجهتها، والصعوبة الثالثة هي الزعم بالاستفادة من هذه الفلسفة الثورية على الصعيد المجتمعي والحقوقي في احداث القطيعة التامة والعود على بدء.
يمكن هاهنا تذكر ما قاله نجيب محفوظ في روايته ثرثرة فوق النيل من كون الثورة يخطط لها الدهاة وينجزها الشجعان ويغنمها الجبناء، واذا كان العنصر الثاني من القولة ينطبق على الثورة التونسية وخاصة الشجاعة التي تحلى بها الثوار والارادة الصلبة التي تسلح بها الشعب في التعامل مع التطورات فإن العنصر الأول الخاص بالتخطيط والدهاء غير متأكد لأنها ثورة مفاجئة ولم يتوقع بها أحد وذلك لقوة القبضة الأمنية وضعف المعارضة وتشتتها، في حين أن القسم الثالث مازال محل أخذ ورد ومن أمور المستقبل ويقتضي الانتظار والتدخل والتدبير وتحقيق الوثبة الجدلية بين النظر والعمل.
عندئذ تطرح ثورة الأحرار الاشكاليات الآتية: كيف اندلعت الثورة في الرقعة الجغرافية المغاربية المسماة في الماضي بإفريقية؟ وأي سر أخفته عن الأنظار وحققت به المفاجأة؟ وماهي العوامل والظروف التي ساهمت في تفجر الثورة؟ ولماذا الآن وليس بالأمس أو غدا؟ وماهي القوى المساهمة والمؤثرة فيها؟ وهل توجد وسائل مميزة وآليات خاصة ساعدت على انجاحها؟ وماهي الاستتباعات التي سيجنيها الشعب والمجتمع منها؟ وكيف يجوز لنا الحديث عن تداعيات هذه الثورة على المنطقة المجاورة العربية والاسلامية؟ وهل يفترض أن تتعرض للالتفاف من الداخل عن طريق القوى المحافظة؟ وماهي التحديات التي تواجهها من الخارج؟ وهل يمكن التفاؤل بمستقبل لهذه الثورة وبوجه مختلف لتونس الخضراء؟
ما نراهن عليه هو تفادي الحكم المسبق والقراءة المسقطة والمقارنة الخاطئة لهذه الثورة مع غيرها من الثورات التي حدثت في الماضي وفي سياقات اجتماعية مختلفة وما نعمل على تحقيقه هو محاولة فهم ما حدث من هبة شعبية وانتفاضة اجتماعية وزلزال سياسي أحدث منعطفا في التاريخ سوف يؤرخ لما قبله وما بعده بالنسبة الى الفضاء الجيو- سياسي للمنطقة وما نحرص عليه هو التفكير في شروط مساهمتها في صناعة مستقبل أفضل للوطن والفكر .
1- دوافع الثورة:
"لا يكمن مفهوم الثورة ...في الطريقة التي تنجز بها...وانما في الحماس الذي تم فيه التفكير فيها على مسطح محايثة مطلق"[2]
من كان يتابع الأوضاع في الوطن خاصة وفي العالم العربي عامة ينتابه الغثيان ويشعر بالحسرة واستحالة نقلة شيء من مكان الى آخر واستبدال فكرة واحدة بغيرها ولم يكن يدري ما آلت اليه الأمور بسرعة ومباغتة شرارة الثورة للجميع، على الرغم من أن هذه الحقيقة التاريخية مثلت حلم أجيال عديدة منذ الاستقلال ومطلب السياسيين والمثقفين عند حدوث الأزمات الاجتماعية والاقتصادية بل أن هناك من الطبقة السياسية من غادر الدنيا دون أن يرى هذا الحلم يتحقق بعد ايمانه الشديد بأن ذلك ممكن في الديار التونسية وتشبثه بهذه القناعة وذلك لتوفر مناخ ملائم وبيئة ثورية وحراك كثيف.
ان عوامل الثورة وأسبابها كثيرة وتتراوح بين الخصوصي والكوني وبين الذاتي والموضوعي وبين الرمزي والمادي وبين المعرفي والايديولوجي وهي عوامل موجودة في كل الدول التي تعاني من نير الطغيان وغيابالمؤسسات حيث يتم اقصاء الناس من المشاركة الفعلية فيها ويحرمون من التدخل الايجابي في الشأن العام وتتفشي البروباغندا والدعاية المضللة والاشهار الممول للعائلة المالكة.
ان كل ثورة تتطلب الافتراض العقلي والحلم الفردي والتطلع الجماهيري والانتظار على مستوى الخيال والتوق اليها في الوجدان والقيادة السياسية الجاهزة والنخبة الثقافية الملتزمة والقاعدة الاجتماعية اللازمة ولكنها تقتضي الحماس والشجاعة والجسارة والهبة والممارسة والنشاط والدافعية والفاعلية والحركية والبراكسيس والضغط والاصرار واستثمار قوة المجموعة ووحدة الأفراد وعزمهم واجماعهم وتصميمهم على الانجاز وارادتهم العامة على التغيير حتى تتحول من عالم الممكن الى عالم التحقيق.
ليست الظروف الاقتصادية السيئة من فقر وبطالة وتضخم وعجز في الميزانية وارتفاع المديونية وتدهور المقدرة الشرائية وتراجع التغطية الصحية والحماية الاجتماعية واحتكار فئة قليلة للثروة في مقابل بقاء شرائح واسعة على حالة من الافلاس الدائم هي العوامل الوحيدة التي ساعدت على اندلاع الثورة في تونس على الرغم من أهميتها وانما هناك عوامل سياسية تتمثل في انغلاق الحياة السياسية واحتكار الحزب الحاكم للشأن العام وهيمنته على دواليب الدولة وسيطرة المجتمع السياسي على مؤسسات المجتمع المدني ومحاصرتها والنمط العائلي في الحكم واحتكار منظومة الاتصالات والمجال الاعلامي.
بيد أن العوامل الحاسمة ليست اقتصادية مادية ولا تتوقف على تحسين الظروف الحياتية من نوع توفير الشغل والغذاء والدواء والمسكن وتطوير البنية التحتية ولا على المعاناة من الأزمة الاقتصادية الخانقة نتيجة اتباع اقتصاد السوق وخوصصة القطاع العام وانما هي أيضا عوامل روحية أخلاقية وثقافية وتتعلق بقيم الكرامة والعزة والحرية والاعتراف والمساواة والعدالة التي تم تدنيسها واستبدالها بقيم معولمة تستمد من السوق وخاصة بعد انتشار الظلم والغطرسة والتفاوت والفوقية والاذلال الذي تعرضت له فئات شعبية.
كما أن المخيال الاجتماعي قد خضع الى عملية تعنيف وتعرضت الثقافة الوطنيةالى التخريب من طرف أجهزة الاعلام الرسمية التي نشرت ثقافة مبتذلة يغلب عليها التهريج والتفاهة والضبابية تقدس المتع الدنيوية ومفاهيم التسلية والاستهلاك ووقع الاعتداء على مخزونها الرمزي والتربوي وتم التخطيط لنوع من الميوعة والتسيب أفضت الى جنوح غريب نحو العنف ورد الفعل من شعب مسالم ومتحضر.
علاوة على ذلك تم افراغ النظام التعليمي بشكل تدريجي ومبرمج من مضمونه واجراء اصلاحات تعسفية ومسقطة ركزت على الجانب الشكلي وشوهت المكاسب الحضارية التي تحققت وأرست طرق غير بيداغوجية في العلاقة بين الباث والمتقبل وجنحت نحو سلعنة التربية وذلك بربط الاختصاصات الجامعية بحاجيات سوق الشغل مما ولد شعب وهمية غير ناجعة اقتصاديا والاعتداء على شعب كلاسيكية وتهميش العلوم الانسانية والآداب والحقوق.
زد على ذلك التعامل البراغماتي الذي انتهجته الدولة مع الدين والتشدد مع المتدينين واقصائهم من المناصب الحساسة والوظائف المهمة والربط بين الاعتزاز بالإسلام والارهاب وخلق حالة من التضييق على حرية المعتقد والاستيلاء على تصريف شؤون المقدس بشكل يخدم السائد وكذلك تم توظيف العامل الديني في المحافظة على نظام الحكم وخدمة السائد وذلك بالتشجيع على فهم مسالم وسلبي للدين.
لكن العامل الأبرز هو الاعتداء الصارخ على القيم التربوية وتغذية التناقض التام بين النسق المعياري الذي تروج له الدولة والمنظومة الأخلاقية المتجذرة في الشعب والمنقولة عبر الذاكرة الاجتماعية والمخيال الجمعي والشروع في ترويج نمط من الحياة خال من المعنى يشجع على النجاح الفردي والانتفاع بكل الوسائل والمصلحة الفردية والأنانية وذلك على حساب قيم الكرامة والعفة والقناعة والمصلحة المشتركة وحب الخير للغير والايثار.
على هذا النحو كان العامل الفكري والثقافي هو المحفز البارز والمنتج لهذه الثورة وذلك لأن "نمو الدماغ واعادة تنظيمه التي بدأت بالإنسان الفضولي وانتهت بالإنسان المفكر شاهدان على ثورة عقلية تؤثر في جميع أبعاد الثالوث ( الفرد- المجتمع- النوع) ولهما دور فيها."[3]
لكن ماهي الوسائل التي استخدمها الشعب من اجل اذكاء نار ثورته وتوسيع لهيبها؟
2- آليات الثورة:
" نطرح الثورة كحركة لا متناهية ، كتحليق مطلق، ونعتبر أن هذه الخصائص تترابط مع ماهو واقعي هنا والآن في الصراع ضد الرأسمالية، وتعطي الانطلاقة لصراعات جديدة كلما تمت خيانة الصراع السابق."[4]
ان الثورة تعرف بكونها حركة سياسية تسعى الى احداث تغيير جوهري يمس أعماق البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية لدولة معينة وتنجزها جماعة من الأفراد بالتمرد على السلطة السائدة. وكل ثورة تندلع وتتواصل لفترة طويلة هي في الحقيقة تشتعل على نار هادئة وتتهيأ لها من جملة من الظروف والوضعيات وتعتمد في ذلك على جملة من الآليات والوسائط وثورة تونس الخضراء التي كانت بلا قيادة مركزية ورأس مدبر ارتكزت بالأساس على العناصر التالية:
- حماس الشعب الشديد وبلوغ حالة الاحتقان والغضب لديه درجة قصوى من الغليان واستعداده الكبير للاتباع كل الوسائل المؤدية للتخلص من الحكم السائد بما في ذلك الوسائل غير المعقولة والانفعالية التي تتنافي مع المحظورات الاجتماعية والدينية.
- يأس الشعب من الزعامات وأخذه زمام المبادرة بنفسه وتمرد الشباب على القيادات الحزبية وتعويلهم على ذواتهم في قيادة الشارع وابتكارهم لأشكال نضالية سلمية راقية ومعايشتهم لحالة ابداعية عجيبة على مستوى الشعار والتنظيم والعطاء والمثابرة والمضي قدما في الاحتجاج.
- تبني ثقافة مستنيرة وتوظيف مخزون ثري من الروافد الفكرية ومواكبة شرائح كبيرة من السكان روح الحداثة والعصرنة عن طريق الاعلام والانخراط في العولمة من جهة الانتاج والتوزيع والاستهلاك.
- حدوث الطفرة الديمغرافية وتوفر الموارد البشرية الهائلة ونضج الطبقة الصاعدة وتشكل شريحة شبابية هائلة شكلت الدعامة الرئيسة والعصب الحيوي للانتفاضة.
- الانخراط في منظومة الاتصالات الحديثة واستعمال الوسائط الرقمية باقتدار وخاصة المنتديات الاجتماعية مثل الفايسبوكوالتويترواليوتوب والاحتجاج عن طريق أغاني الراب الملتزمة وتأثيث منظومة من الاتصال الجماعي والاعلام الشعبي الموازي.
- تزايد التطرق الى الشأن السياسي في الحياة اليومية من طرف شرائح عريضة من السكان وتشكل ايديولوجيا سياسية رافضة للمنظومة الحاكمة وارتقاء الوعي لدى الانسان العامي الى درجة عالية من اليقظة والحذر والاقدام.
- الدور التأطيري الكبير للنقابة الجامعية واستعداد الطلاب للتضحية والدور الطليعي للحركة الطلابية واستحضارها الميداني لذاكرتها النضالية وتوظيفها لجملة من الأدبيات السياسية المتوارثة في فعلها الميداني.
- تأثير الحركة النقابية العريضة وانتشارها في كامل الوطن والحالة الراديكالية التي كانت عليها الهياكل الوسطى والأساسية والحزام القاعدي.
- بروز خطاب جاد ورافع للسقف داخل المعارضة السياسية القانونية وهتك أرض المحظور السياسي في العديد من المرات وعدم قدرة القيادات على التعاطي مع الخطاب الجديد وعجزهم عن السيطرة التنظيمية على هذه الجرأة القاعدية.
- طهور نزعة الاستقلالية في الفضاء الثقافي والنقابي والحقوقي والسياسي وتكريس التعددية الفعلية في الشارع والفضاء الافتراضي وتكاثر الحراك الموازي للهيئات الرسمية ونشأة كيانات جديدة موازية للهيئات القديمة المتكلسة.
- تحالف عجيب بين المتناقضات وهي الحس الوطني والشعور القومي والانتماء الطبقي والالتزام الديني والمطالبة بالحريات الفردية والانعتاق الجماعي وقيم الانسانية التقدمية والحقوق التنموية الجهوية والمحلية.
- الدور الهام الذي مثله البعد الديني في تغذية روح الثورة لدى الناس وذلك بتشغيل رمزية بعض المفاهيم مثل الشهادة وفارس الايمان والعروة الوثقى والاعتصام والتكبير والجماعة والأخوة والتعاون على البر والانتصار للحق ومحاربة الباطل والخروج على الظالمين ومحاربة الفاسدين والتوكل على الله والانتصار للكائن الآدمي.
كل هذه العوامل هي العناصر التي ساهمت في اشعال نار الانتفاضة المباركة ومثلت وقود الثورة الشعبية التي جعلت من أهدافها القطع الجذري مع الماضي التعيس واعادة توزيع القوى المتنافسة على الساحة الاجتماعية وخلق قواعد لعبة سياسية جديدة قد لا يكون للنظام القديم مكانا له فيها وتتميز بحق الاختلاف واحترام التعددية الفعلية ومكنت الشبيبة من اطلاق ملكة التخيل والحلم واستعادة الأمل والعافية وأحدثت تحولا في الضمائر نحو الفضائل الحسنة والقيم الرفيعة وأقامت جسما اجتماعيا جديدا يتميز بالشباب والحيوية والتحفز والانطلاق وشرعت امكانية ايجاد المشروع المستقبلي الحي بتحطيم القوانين المتحجرة.
هكذا كانت المبادئ الفلسفية التي قامت عليها الثورة التونسية هي الحسم مع القرارات المرتجلة والخيارات المضطربة والتصدي للتضليل والخزعبلات الفارغة وفضح كل أشكال الاغتراب والاستغلال والتدرج في القدرة المطلبية من الاجتماعي التنموي الى الاقتصادي الحقوقي ولتصل الى السياسي الديمقراطي.
من هذا المنطلق هل يمكن أن تفيض الثورة التونسية بخيراتها على الشعوب المجاورة وتساهم في دخول العرب فعليا الى عصر التنوير والفضاء الديمقراطي التشاوري؟
3- تداعيات الثورة:
" المواطنون ،وهم أناس أحرار، مسؤولون عن مصير الحاضرة التي يتناقشون بشأنها في الساحة العامة من خلال حجج متعارضة، وتمنح الأغلبية سلطاتها الى المنتخبين".[5]
لقد كان الاعصار الشعبي الذي تفجر في جميع المدن والقرى التونسية نوعا من الحسم التاريخي مع التردد والارتباك وكانت تداعياته قد أفضت الى انهيار الأجهزة القمعية والنظام الأمني واحداث قطيعة مع الارث الاستبدادي وارجاع الحكم الى الناس والسيادة الى الشعب وتمتع الأفراد بنعمة الحرية وتمكينهم من حقوقهم المسلوبة وذلك بإلغاء كل أشكال الوصاية والارتفاع بهم عن حالة القصور والامساك بزمام المبادرة والتعبيرعن القدرة الفعلية على الفعل وتفجر المهارات والطاقات الابداعية عند الشباب واطلاق ملكة الحلم والتصور لدى الشعب لامكانيات رحبة من الوجود.
ان المسألة الحاسمة التي طرحت بجدية على طاولة التشريح في خضم الثورة هي محرار المعركة بين الجديد والقديم والطريقة التي سيتم فيها الانتقال من سطوة الاستبداد الى رحاب الديمقراطية والفرز الذي حصل كان مثيرا الى درجة انقلاب التحالفات وتحول الأحزاب من المعارضة الكلية للنظام البائد الى التحالف والدفاع المستميت عن بقاء بعض من وجوهه بغية تأمين الانتقال والمحافظة على مكاسب الثورة ولكن ارادة الشعب ظلت قوية وتصميم الشارع الذي يحتضن الثائرين ظل رافعا للسقف واختار الرحيل والكنس لكل المتواطئين.
لقد كانت للثورة التونسية أصداء مدوية في الجوار العربي ومثلت المحك الذي تقاس عليه حال الشعوب ومدى احترام الأنظمة الغربية لمنظومة حقوق الانسان واختيار الشعوب لمصيرها وتقريرها لمستقبلها بنفسها ولذلك نشب الخلاف بين هذه الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني مما أدى بالبعض الى التنصل من النظام التونسي السابق ورفض استقباله والحجز على ممتلكاته وأرصدته البنكية والشروع في تقديم مذكرة تحقيق من أجل محاكمته على جرائمه وتتبعه والانتصار لإرادة الجماهير والتفاعل الايجابي مع الثورة الشعبية.
تداعيات الثورة التونسية في المحيط العربي بدأت بتقليد الأيقونة محمدالبوعزيزي وشروع الشباب في عدة دول في حرق أنفسهم أمام مقرات السيادة احتجاجا على الأوضاع المزرية وعلى استمرار الاستبداد والانغلاق، ولتفادي ذلك سارعت العديد من الأنظمة بالقيام بجملة من الاجراءات الوقائية حتى لا تنتشر العدوى وخفضت من الأسعار ودعمت بعض القطاعات الحيوية التي تنتفع بها الشرائح الشعبية وبدأت بتخصيص ميزانيات معتبرة للحماية الاجتماعية ومساعدة العاطلين على ايجاد فرص شغل.
لكن كل هذه الترقيعات والاصلاحات العاجلة لم يمنع من الاستبشار والفرح من طرف الطيف السياسي العربي والتعبير عن المساندة وعن النية في تقوية جبهة المعارضة ضد الحكم المطلق والشروع في التظاهر السلمي والعصيان المدني والتصدي لكل مشاريع التطويق والاحتواء. المهم هو أن الثورة قد أدت الى تبني المجتمع لنوع من الديمقراطية الجذرية وسرعت في ارساء قواعد للمراقبة والمحاسبة وميلاد المواطن الحر وفصل السلط وأسست لسلطة نبض الشارع والاحتكام الى الاجماع ومطالب الرأي العام.
فهل يمكن أن تتحول ثورة الصبار بكل ما فيه من صبر وشوك جارح للباطل ومنفعة للصالح الى نموذج في المنطقة العربية؟ والى أي مدى تكون الشرارة التي اندلعت الآن وهنا قادرة على الاشتعال في كل مجتمع مظلوم والانتقال الى الهناك؟
4- تحديات الثورة:
"انتباه، افتحوا أعينكم، ينبغي أن تكون ثاقبة حتى ترى الأفق. وتلزم الأيادي لتقبض على طوق النجاة. علينا ادارة الظهر الى الليل، وألا ننتظر الظهيرة لنعتقد في وجود الشمس."[6]
ها قد تحققت الثورة اذن بفضل كبرياء الشعب وشجاعته وها قد تحول الخروج في المسيرات والمظاهرات من أجل الاحتجاج الغذاء الروحي والخبز اليومي للجماهير وكانت الولادة عسيرة وسقط رأس النظام وتزعزعت أركان الحزب الحاكم وبدأت تطوى صفحة مملكة القهر والنهب والجباية والضرائب المشطة وها قد تكاثرت الاستقالات والانسحابات وبدأ فك الارتباط بين العديد من الهيئات والمنظمات التي كانت مترابطة بشكل بنيوي وعضوي في العهد السابق ومؤلفة قلوبهم على الفساد والاستيلاء والافتكاك والباطل، وها قد أنجز الشعب نهوضه المنتظر وقام بقومته الشهيرة وها قد تفجرت الجماهير في الشوارع وعادت للمواطن هيبته وزال الخوف وأصبح للرأي العام كلمة عليا وتأثيرا مباشرا في صناعة القرار وأطلقت الحريات ووقع الاعتراف بجميع الأحزاب والهيئات الحقوقية ورفع الظلم والغبن عن كل المهمشين والمضطهدين وكف النظام الانتقالي التضييق على العديد من الجمعيات والنقابات والاتحادات.
ها نحن نرى أيام الانتفاضة تتحول الى أيام مقدسة وأعياد دائمة وهاهم الثوار يحولون الشوارع الرئيسية والساحات العامة الى فضاء للنقاش العمومي حول مستقبل الوطن والتحديات القادمة وهاهي صور الشهداء تتصدر الواجهات والقنوات الفضائية والمجلات والجرائد العالميةوتكتب أسمائهم في كل مكان من التاريخ الحي وتصبح عائلاتهم ومقرات سكناهم عناوين بارزة وقبلة كل منتفض وثائر، وها قد انتشر اسم تونس في أركان المعمورةوانتقلت البلاد من تونس الشهيدة زمن الاستعمار الى تونس السجينة زمن الاستقلال غير التام الى تونس الحرة بعد الثورة المباركة والانتصار على التبعية والاستبداد .
غير أن التاريخ البشري قد علمنا بأن الثورات تكتب بالدماء ولكنها كثيرا ما تسرق وتغدر من طرف أبنائها وتتعرض للخيانة والمحاصرة والتضييق للتقليل من اشعاعها واخماد لهيبها وكثيرا ما تأكل الثورة أبنائها وتصفي مناضليها وتستهلك ما تبقى من توهجها وتقضم ذيلها.
من هذا المنطلق تظل الشكوك تساورنا حتى بعد حدوث الثورة خاصة حول الخواتيم وذلك لأن "قولنا بأن الثورة هي بدورها طوباوية المحايثة ألا يعني تماما أنها حلم وأنها شيء ما لا يتحقق الا بخيانة ذاته."[7]
لعل التحديات التي تواجهها هذه الثورة الشعبية هو بروز عدة هواجس وارتدادات على سطح الأحداث وخاصة تلك التي تصدر من الداخل وتخطط لها بعض الشخصيات الانتهازية والقوى الرجعية والمجموعات المحافظة وتحاول عبثا ايقاف تدحرج وتفكك النسيج السابق ومنع النسيج الجديد من التشكل وتحول دون أن تنجب الثورة العديد من المكاسب الشرعية.
ان التخوفات تبرز من امكانية استئثار طرف سياسي أو اثني أو جهوي بثمار الثورة والقفز على المستجدات واحتكار التكلم باسم الشعب وتهميش شرائحه ومكوناته وحساسياته واعادة انتاج المنطق القديم في الاقصاء والاحتكار والتمركز وتسلل جوقة المناشدة والتطبيل للوجوه الصاعدة وركوب الانتهازيين على الأحداث والبحث عن احتلال المواقع.كما أن الخشية تبدو كبيرة من البقاء على حالة الانفعال والغضب والتمرد والفوضى وعدم الانتقال الى وضعية العقل والرشد والتصويب وما يترتب عن ذلك من ميل الى الانتقام والاجتثاث واهمال المكاسب الحقيقية للثورة وهي البناء والتعمير والنهوض من جديد.
أضف الى ذلك يبرز التوجس من أن تدفع الثورة مستبدين جدد على سطح الأحداث ويعود الاصطفاف الايديولوجي المغلق والتصادم بين المجموعاتوتظهر الحيطة منتدخل دول الجوار العربي ودوائر الرأسمال العاملي من أجل المحافظة على المصالح الأجنبية في المنطقة ومحاولة البحث عن وسائط من أجل بسط النفوذ وترتيب العلاقة مع عناصر الحكم الجديد وهو ما يفسد فرحة التونسيين بثورتهم ويعيد الأوضاع الى سالف حالها من المسايرة والرضوخ ويفرط عليهم تمتعهم بالحرية والمساواة والعدل والاعتزاز بالوطن والكرامة والاعتراف بضخامة التضحيات والوفاء للشهداء.
لقد بدأ عصر الثورات في حضارة اقرأ في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين بشكل فجائي وافريقية خطت الملحمة الأولى وفتحت بذلك الباب على مصراعيه للشعوب الأخرى كي تنجز ثوراتها ولا أحد بإمكانه ايقاف التيار الجارف ومعاندة مسار الاستئناف الحضاري ومغالبة حركة التاريخ. فكيف يحافظ أبناء تونس على مزايا ثورتهم ويتصدوا لكل المؤامرات؟ وكيف يعمل الشعب على أن يكون صمام أمان الثورة؟ وهل تحدث فلسفة الثورة تحولات عميقة في الايمان والاقتصاد والتربية والسياسة؟
خاتمة:
"ان التاريخ الانساني الحق يبدأ بتنمية تضامنية ولا يحقق وحدة امبريالية للعالم يطلق عليها اسم العولمة وانما وحدة سيمفونية يقدم فيها كل شعب مساهمة ثقافته الخاصة وتاريخه وعمله يستبدل اقتصاد السوق باقتصاد تبادلي."[8]
صفوة القول أن الثورة التونسية كانت مغايرة ومختلفة عن بقية الثورات وأكدت مقولة أنه توجد ثورات ولكن لا توجد نظرية واحدة في الثورة وانما هناك عدة امكانيات وكثيرا ما تأتي الثورة من بعيد وعلى حين غرة. ولذلك مثلت هذه الانتفاضة منطقة مضاءة في كهوف المسلمين الدامسة وبارقة الأمل في صحراء العرب القاحلة وسيشع بريقها على الأمم الأخرى في العاجل والآجل وتعمل على اعادة الثقافة العربية الى قلب الأحداث ونبض الزمن وحركة التاريخ وتعتمد التنوير الأصيل والديمقراطية الجذرية وتحقق الهوية السردية التي تجمع بين الوحدة والتعدد وتتبنى سياسة حيوية تعتني بتحسين حياة السكان من جهة التعليم والشغل والمسكن وتصون الأرض وتوفر منظومة صحية وغذائية متوازنة وبيئة نظيفة وتجري التنمية العادلة بين الأقاليم.
كما أن الدروس التي يمكن استخلاصها من هذا الحدث الجلل أن التدين ليس عائقا أمام الثورة بل محفزا له وعاملا مساعدا وأنه لا يوجد تناقض بين الاسلام والثورة خاصة اذا ما تغلبت العناصر العقلانية التقدمية على العناصر المحافظة والتقليدية طالما أن الشعب العظيم الذي أنجز ثورة الصبار هو شعب عربي ومسلم ولكنه متجذر في وطنيته وله ذاكرة نضالية عمالية مجيدة وحركة نقابية وسياسية مواكبة للحداثة والثقافة العصرية ومنفتحة على العالم.
من هذا المنطلق تمتلك الثورة جملة من العلامات والاشارات منها الابداع الخالص واختفاء تام للتقليد والاستنساخ وانجاز الاستقلال التام من كل تبعية والتحرر من الضغوطات الخارجية وامتلاك السيادة المطلقة في القرار واحداث عملية انقلاب وجودي ومنعطف معرفي مع الماضي.
في الواقع تحتاج الشعوب الى الثورات من أجل الاستمرار والتطور مثلما يحتاج الانسان الى الهواء والغذاء من أجل المحافظة على البقاء والنمو وذلك لأن الانكسارات والقطائع ليست عناصر لاحداث الفوضى في النظام بل كثيرا ما تحرك السواكن وتدفع المياه الآسنة نحو الحركة والتدفق وتسمح بجريان نهر الحياة في عروق الشعب وهبوب رياح الحرية وقدوم مياه صافية وجيدة تساعد على تحقيق الاستفاقة العقلية وصحوة الضمير لدي المواطنين.
هكذا ينتج عن الثورات تغييرا في تراتبية المجتمع ويقلل من الفوارق الطبقية والاختلالات بين الفئات ويخضع الشعب لنوع من التطهير الذاتي ويقلب سلم القيم رأسا على عقب وتختفي الأخلاق المغلقة التي تتميز بالانتظار والتواكل والخضوع وتهل الأخلاق المفتوحة التي تشجع على الخلق والابداع والفعل والمحبة والصداقة كنمط من العلاقة بين الناس.
ان الثورة تنادي الشعب بالمجيء الى الرقي والتقدم والمطلوب هو أن تعمر الثورة فوق مسطح المحايثة الخاص به وأن تحافظ على مكتسباتها وأن تنصت لروح العصر وتستثمر منجزاتها في تهيئة مناخا ملائم لاستقبال الزمن القادم بروح التفاؤل والأمل
ما تلبث الثورة أن تتناسل وتتوالد وتنتقل من الوحدة الصماء الى اغتناء الكثرة وتتحول الى ثورات ميكروفيزيائية عند المجتمع الذي يعيش الحالة الثورية وتمزق التنظيم الهرمي وتقيم نوع من التنظم الأفقي بين الأفراد والقوى وتحدث نوع من الفعل التواصلي بين المدارات.
ألم يتدبر الناس عندنا ويفعلوا على أحسن وجه هذه الآية الكريمة:" ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"[9]؟ وكيف يتم السماح للشعب بأن يشارك في بناءمؤسسات مدنية تمنع من سرقة ثمار الثورة؟ وماهي الآثار القريبة والبعيدة لهذه الثورة الميمونة؟ وهل يكتب التاريخ سردية الثورة التونسية بأمانة وشفافية وصدقية وينصف الثوار والمناضلين؟ وما الضامن من استيلاء المنتصرين على هذا التاريخ وتنضيد فصوله بما يخدم مصالحهم؟ ومتى نرى بالعيان الثورة العربية الكبرى التي توحد الأمة وتعيد الفعل الحضاري على نحو جديد؟ وهل يمكن أن نعتبر ثورة الأحرار في تونس هي حلقتها الأولى ومبادئها الفلسفية وأحد طرقها الممكنة؟ والى أي مدى عكست هذه الأفكار حقيقة فلسفة الثورة التونسية؟ وألا تمثل هذه الورقة مجرد محاولة تقتضي مناقشة معمقة؟
المراجع:
أدغارموران ، النهج، إنسانية البشرية، الهوية البشرية، ترجمة هناء صبحي، منشورات كلمة، أبو ظبي، الطبعة الأولى، 2009،
جيل دولوز- فليكس غتاري، ماهي الفلسفة، ترجمة مركز الانماء القومي، بيروت، الطبعة الأولى، 1997.
روجيه غارودي، كيف نصنع المستقبل؟، ترجمة منى طلبة وأنور مغيث، دار الشروق ، القاهرة، الطبعة الثالثة، 2002.
كاتب فلسفي
[1] جيل دولوز- فليكس غتاري، ماهي الفلسفة، ترجمة مركز الانماء القومي، بيروت، الطبعة الأولى، 1997. ص.113.
[2] جيل دولوز- فليكس غتاري، ماهي الفلسفة، ص.113.
[3]أدغارموران ، النهج، إنسانية البشرية، الهوية البشرية. ترجمة هناء صبحي، منشورات كلمة، أبو ظبي، الطبعة الأولى، 2009،.ص.49.
[4]جيل دولوز- فليكس غتاري، ماهي الفلسفة، ص.113.
[5]أدغارموران ، النهج، إنسانية البشرية، الهوية البشرية،ص.215
[6] روجيه غارودي، كيف نصنع المستقبل؟، ترجمة منى طلبة وأنور مغيث، دار الشروق ، القاهرة، الطبعة الثالثة، 2002، ص.14.
[7]جيل دولوز- فليكس غتاري، ماهي الفلسفة، ص.113.
[8] روجيه غارودي، كيف نصنع المستقبل؟، ص.50.
[9]سورة الرعد، الآية 11.