المواطنة بين انعدام وضيق واتساع!
المواطنة (Citizenship ) مفهوم قد يضيق وقد يتسع، قد يضيق ليقتصر على نخبة، وقد يتسع ليشمل عدة نخب، وقد يزداد اتساعا فيشمل كل المنتمين إلى دولة ما أو أمة، وفي أحيان قليلة -لا تتجاوز اليوتوبيات إلا نادرا- ربما يشمل مفهوم المواطنة كل الجنس البشري في إطار دولة عالمية قد يكون لها شكل الدولة الواحدة، وقد يكون لها شكل التكوين الفيدرالي الذي يجمع عدة دول في إطار حكومة عالمية أو عصبة أمم.
ومع أن هناك كتابات كثيرة تناولت مفهوم المواطنة، إلا أنه لا يزال مفهوماً إشكالياً تختلف حوله التحليلات الفلسفية، وتتعارض في شأنه النظريات الاجتماعية، ولم تنتهِ النظرية السياسية إلى رأي أخير يوضح ماهيته، وبالتالي لا تزال تتباين في تحديد معالمه ومضمونه الأنظمة السياسية عبر العالم، بل عبر أحزاب الدولة الواحدة. ثم إن أغلب البحوث تستغرق في التعريفات الإجرائية أو الاصطلاحية، رغم أنه مفهوم حي يتحرك في إطار سيرورة تاريخية غير منقطعة.
وفي هذا الدراسة لن يتم التوقف عند مجرد التعريف الاصطلاحي لمفهوم المواطنة، بل سوف يتم تحليل تطوره وسماته ككائن حي له ماضٍ وحاضر ومستقبل، ينشأ وينمو ويتطور، ويتراجع ويتقدم، ويقوى ويضعف، ويتداخل ويتخارج مع مفاهيم أخرى... إلخ، دون أي اقتطاع للمفهوم من وضعيته التاريخية، وجذوره، وما آل إليه حتى اللحظة الراهنة. فلا يمكن فهم واقع مرحلة بعينها دون معرفة ماضيها ومستقبلها.
وبقدر ما أصبح مفهوم المواطنة مفهوما حيًّا ومتحركًا في إطار سيرورة تاريخية مستمرة بقدر ما أثار صعوبة واضحة في إيجاد تعريف مانع وجامع. فما نعني بالمواطنة؟ وما هي أبرز أسسها؟
المفهوم -كما قلنا- كائن حي، ينشأ وينمو ويتطور، له ماضي وحاضر ومستقبل. وإذا كان من مهام هذا البحث تحليل المفهوم في تطوره، فإننا سوف نتوقف مرحلياً في هذه النقطة عند المعالجة الاصطلاحية. مع التنويه إلى أن المعالجة الإجرائية لا مجال لها هنا؛ لأنها أدخل في العلوم الاجتماعية الإمبريقية التي تتم فيها عملية تحويل مفهوم نظري مجرد إلى شيء ملموس، يمكن ملاحظته وقياسه في مشروع بحثي إمبريقي تكون فيه التعريفات الإجرائية ذات أهمية حاسمة لعملية القياس. ولذا فهي أكثر عناصر تصميم البحث إثارة للجدل والاختلاف.
غياب المواطنة من المعاجم العربية التقليدية
لا توجد في المعاجم العربية التقليدية كلها أي ذكر لكلمة (المواطنة)، لكن توجد كلمات: (وطن- توطن- واطن- الوطن-موطن...).
فالوَطَنُ في اللغة العربية: الـمَنْزِلُ تقـيم به، وهو مَوْطِنُ الإِنسان ومـحله, والـجمع أَوْطان. وَطَنَ بالـمكان وأَوْطَنَ أَقام. وأَوْطَنَهُ: اتـخذه وَطَناً. يقال: أَوْطَنَ فلانٌ أَرض كذا وكذا أَي اتـخذها مـحلاًّ ومَسْكَناً يقـيم فـيها. والـمَوْطِنُ: الـمشْهَدُ من مَشَاهد الـحرب. وفي التنزيل العزيز: ﴿لقد نَصَرَكُمُ الله فـي مَواطِن كثـيرة﴾. وأَوطَنْتُ الأَرض ووَطَّنْتُها تَوطِيناً واسْتَوْطَنْتُها: أَي اتـخذتها وَطناً، وكذلك الاتِّطانُ، وهو افْتِعال منه. أَما الـمَوَاطِنُ فكل مَقام قام به الإِنسان لأَمر فهو مَوْطِنٌ له، وواطَنَهُ علـى الأَمر: أَضمر فعله معه، فإِن أَراد معنى وافقه قال: واطأَه. تقول: واطنْتُ فلاناً علـى هذا الأَمر إِذا جعلتما فـي أَنفسكما أَن تفعلاه، وتَوْطِينُ النفس علـى الشيء: كالتمهيد وقـيل: وَطَّنَ نفسه علـى الشيء وله فتَوَطَّنَت حملها علـيه([1]).
فالمواطنة إذن كلمة لها أصل عربي مرتبط بموطن الإنسان ومستقره وانتمائه الجغرافي، لكنها هي نفسها كتركيب ومصطلح تم استحداثها لتعبر عن الوضعية السياسية والاجتماعية والمدنية والحقوقية للفرد في الدولة.
وربما يتساءل البعض: هل يعبر غياب مصطلح (مواطنة) من المعاجم العربية القديمة عن غياب المفهوم ذاته من الحياة السياسية العربية؟ أم أن الأمر ليس أكثر من مصادفة لغوية؟ أم أن هناك كلمات أخرى تعبر عن المضمون؟ أم أن تقنيات الاشتقاق اللغوي هي المسؤولة عن ذلك؟ ربما الإجابة على هذه الأسئلة موضعه بحث آخر حتى لا نخرج عن موضوع هذا البحث؛ فهو خاص بالمواطنة في الغرب وليس عند العرب.
المواطنة في المعاجم الغربية
في السياق الغربي نجد لمصطلح المواطنة حضور قوي في المعاجم اللغوية، وعلى سبيل المثال في اللغة الإنجليزية يشير المصطلح (Citizenship) إلى المساهمة في حكم دولة ما على نحو مباشر أو غير مباشر، كما يستخدم أحياناً للدلالة على العملية أو الحالة التي يعد الفرد بمقتضاها مواطناً لمجرد أنه يعيش في رحاب دولة معينة، أو ينتمي إليها ويخلص لها؛ ومن ثم يحظى بالحماية. وفي معجم هاراب مثلا: (المواطن هو (أ) ساكن المدينة. (ب) شخص له كل الحقوق كساكن في دولة...أما المواطنة فهي الاسم الذي يدل على حالة State وجود المواطن).
ويتجاوز مفهوم (المواطن Citizen) المعنى المعجمي ليدل على الفرد الذي يتمتع بالحقوق السياسية ويتحمل أيضا واجبات المشاركة، ويشير مفهوم المواطنة (Citizenship) إلى فعل المواطن وعملية المشاركة نفسها. فالمواطن هو عضو في المجتمع السياسي يتمتع بالحقوق ويقوم بواجبات العضوية.
هذا التعريف الواسع يمكن أن يرى مع اختلافات قليلة في أعمال مفكري القرن الثامن عشر، وأيضا في مادة مواطن في موسوعة (Encyclopédie) ديدرو (Diderot ) ودالمبير (1753D'alembert ). فالموسوعة تعرِّف المواطن على أنه عضو في مجتمع حر مكوَّن من عدة أُسر، التي تتشارك في حقوق هذا المجتمع وتتمتع بحصانته. وفي الموسوعة أيضا المواطن (وهو الذكر فقط) والأسرة، هم مجموعة من وحدات بناء المجتمع غير المتنازع عليها.
إن الاهتمام الرئيسي للموسوعة الذي يمكن أن يفهم بالنسبة لأشخاص يعيشون في ظل نظام ملكي (a Monarchy)، كان هو العلاقة بين مفهومي المواطن ( Citizen) والرعية ( Subject). لكن هل الاثنان يحملان المعنى نفسه كما يقرر هوبز (Hobbes)، أم أن بينهما تناقضا كما يُفهم من أرسطو (Aristotle)؟
يشير مفهوم الرعية أو الرعايا في الفكر الغربي(2) إلى أعضاء مملكة أو دولة ليس لهم ذات حقوقية مستقلة. فالذات الحقوقية المستقلة هي شخص الحاكم المتمتع بكل الامتيازات، فهو صاحب السلطان وحده، ولا يملك أحد أن يراجعه، فعلاقته بهم هي علاقة الراعي بقطيعه، وهو يستمد هذا السلطان بالغلبة، بفعل النسب أو العصبية أو القوة، أو ربما بالشرعية الإلهية. ومن ثم فمفهوم الرعية مخالف لمفهوم المواطن بوصفه ذات حقوقية مستقلة.
المواطنة وتوازن الحقوق والواجبات في الفلسفة السياسية المعاصرة
المواطنة في شكلها الأكثر اكتمالاً في الفلسفة السياسية المعاصرة هي الانتماء إلى الوطن.. انتماء يتمتع المواطن فيه بالعضوية كاملة الأهلية على نحو يتساوى فيه مع الآخرين الذين يعيشون في الوطن نفسه مساواة كاملة في الحقوق والواجبات، وأمام القانون، دون تمييز بينهم على أساس اللون أو العرق أو الدين أو الفكر أو الموقف المالي أو الانتماء السياسي. ويحترم كل مواطن المواطن الآخر، كما يتسامح الجميع تجاه بعضهم البعض رغم التنوع والاختلاف بينهم.
وثمة توازن بين الحقوق والواجبات، فالمواطنة ليست حقوقًا فقط، بل واجبات أيضاً. وإذا كانت المواطنة تعطي المواطن حقوق المواطنة: الحقوق المدنية، الحقوق السياسية، الحقوق الاجتماعية، الحقوق القانونية...إلخ، فإنها في المقابل تضع على عاتقه مجموعة من الواجبات القانونية، والالتزامات المعنوية، ومسؤوليات المواطنة، كما تفرض عليه الولاء التام للوطن. ويحمي القانون ويضمن للجميع الحقوق المدنية والسياسية بما فيها حق المشاركة وصنع القرارات، كما يضمن تحقيق الإنصاف الاجتماعي والاقتصادي، فضلاً عن حماية كرامة وحرية واستقلال كل مواطن.
ولذا تشير موسوعة الكتاب العالمي إلى أن (المواطنين لهم بعض الحقوق، كحق التصويت، وحق تولي الوظائف العامة. وعليهم أيضاً بعض الواجبات، كواجب دفع الضرائب وواجب الدفاع عن وطنهم).
وتسير في سياق المقابلة بين الحقوق والواجبات (دائرة المعارف البريطانية Encyclopedia Britannica)، حيث تؤكد أن المواطنة يحددها دستور الدولة، وهي تضيق وتتسع بحسب طبيعة العلاقة التي تنشأ بين الفرد والدولة وما تفرضه تلك العلاقة من واجبات على المواطن وما تعطيه له من حقوق. وتشير المواطنة إلى قدر من الحرية يتمتع به المواطن، بالإضافة إلى ما يلازم تلك الحرية من مسؤوليات تقع على عاتق المواطن تجاه الدولة. وتعطي المواطنة بشكل عام للمواطن حقوقاً سياسية من قبيل حق المشاركة في الانتخابات وحق الوصول إلى المناصب العامة.
وتشمل حقوق المواطنة عند توماس همفري مارشال (Thomas Humphrey Marshall) : الحقوق السياسية، والحقوق الاجتماعية، والحقوق المدنية. والحقوق السياسية هي التي تصنع المواطنة السياسية، وتتمثل في حق المشاركة بالتصويت أو الوصول إلى المناصب السياسية. وتتحقق المواطنة الاجتماعية من خلال الحقوق الاجتماعية وهي حق الحياة الكريمة وحق التعليم والرعاية الطبية وغيرها. أما الحقوق المدنية فتشمل الحقوق التي يتمتع بها الفرد باعتباره مواطنا، مثل الحقوق الشخصية وحق الملكية وحق الحياة والكرامة والحرية الفردية وتكافؤ الفرص، والمساواة بشكل عام، وغيرها من الحقوق الواردة في (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948م). وتلك الحقوق تتحدد بواسطة الحكومات وتضمنها الدساتير والقوانين، وتصونها الهيئة القضائية.
ويوجد توتر بين عناصر المواطنة الثلاثة وآليات عمل السوق الرأسمالي؛ من حيث إن هذه الأخيرة تؤدي إلى درجة ما من اللامساواة الاجتماعية، أما المواطنة فتعمل على إعادة توزيع الموارد وتأكيد تساوي الجميع في الحقوق. لكن ثمة نقاط ضعف في تصور مارشال، منها وجود عناصر أخرى للمواطنة غفلت عنها نظريته، مثل المواطنة الاقتصادية، كما لم تلتفت نظريته إلى العمليات الاجتماعية التي لها تأثير سلبي على المواطنة، كما غاب عنها التحليل المقارن، إذ لم تخرج عن حدود تحليل المواطنة في التجربة الإنجليزية.
وتصل المواطنة -وهكذا ينبغي أن تكون- إلى درجة العضوية الكاملة في دولة ما؛ لأنها تأتي كعقد وتضامن بين أناس أحرار على الدرجة نفسها من الحقوق والواجبات. وهي أساس التضامن القومي، كما نجد مثلاً عند تالكوت بارسونز-المتأثر بالنموذج الأمريكي- والذي قام تصوره للدولة القومية الحديثة على أساس المواطنة؛ فالمواطنة عنده هي أساس الولاء والانتماء إلى الأمة القومية. وهذا عكس التصورات الكلاسيكية التي كانت ترى أن القومية هي أساس المواطنة، بمعنى أن المواطنة كانت نتيجة للانتماء إلى القومية. أما مع بارسونز، فإن المواطنة هي أساس القومية، أي أن الانتماء القومي يأتي نتيجة المواطنة؛ المواطنة تكفي وحدها للانتماء إلى الأمة.
ويرى بارسونز أن تطور المواطنة يعد مقياسا لدرجة تحديث المجتمع؛ لأنها تعتمد على قيم العمومية (Universalism) والإنجاز (Achievement). وجدير بالذكر أن العمومية تشير إلى مستويات القيمة التي هي على درجة كبيرة من العمومية، في مقابل الخصوصية (Particularism) التي تشير إلى المستويات التي لها دلالة لفاعل معين في علاقات معينة مع أشخاص معينين. أما الإنجاز أو الأداء فيشير إلى التأكيد على تحقيق أهداف معينة، في مقابل النوعية (العزو أو النسبة) ( Ascription) التي تشير إلى خصائص الشخص الآخر، أي التأكيد على الحقيقة التي مؤداها أنه كذا وكذا، كأن يكون أب الفاعل طبيباً مثلاً وهكذا.
هذا عن التعريف الاصطلاحي لمفهوم المواطنة، أما تطوره وسماته ككائن حي له ماضٍ وحاضر ومستقبل، ينشأ وينمو ويتطور، ويتراجع ويتقدم، ويقوى ويضعف، ويتداخل ويتخارج مع مفاهيم أخرى...إلخ، يمكن أن نشير إليها هنا بإجمال.
التأسيس الحداثي للمواطنة
لقد سارت المواطنة تارة في اتجاه المواطنة على مستوى دولة - المدينة، أو مستوى الدولة الوطنية، أو مستوى الإمبراطورية أو الدولة القومية، وتارة أخرى على مستوى العالم كله، أي الدولة العالمية، وفي الوقت الذي انتشر فيه سواء مفهوم الدولة الوطنية أو القومية، نجد أن مفهوم الدولة العالمية، ومن ثم مفهوم المواطنة العالمية، يجابه مشاكل وعثرات كثيرة.
لقد كان التأسيس الحداثي بشقيه الابستمولوجي والعملي، هو الأرض الخصبة التي نما فيها مفهوم المواطنة في شكله الحداثي الأكثر تطورا. فجوهر الحداثة في تصور الإنسان، هو النظر إليه باعتباره نقطة البدء في المعرفة والعمل. إنه العقل الخالص، أو الذات المفكرة، أو الكوجيتو (الأنا أفكر إذن أنا موجود)، إنه صاحب الإرادة الحرة، والفاعلية في المجتمع والسياسة والاقتصاد، بل وفي التاريخ.
وهكذا ظهرت العقلانية كتعبير عن الذات وفاعليتها في المعرفة والسياسة. وهكذا صار كل شيء موضوعا أمام العقل لتمثله وفهمه، وإصدار الحكم عليه. وأصبحت السياسة استنباطا من العقل المشترك، ومن خلاله يتمكن الإنسان من سيطرته النظرية والعملية على العالم: الكون والدولة، الذي صار قابلاً للمعرفة على المستوى الإبستمولوجي، وقابلاً لإعادة التشكّل على المستوى السياسي.
ويتأكد لدينا الارتباط بين الحداثة والمواطنة، عندما نقف عند المنجزات الفكرية السياسية للحداثة: القانون الطبيعي، وحقوق الإنسان، والعقد الاجتماعي، والفصل بين السلطات، والنظام السياسي الدستوري، والمجتمع المدني، والديمقراطية. فلا مجتمع مدني بدون مواطنة، ولا مواطنة بدون ديمقراطية، ولا ديمقراطية حقيقية بدون مواطنين بمعنى الكلمة يمارسونها وينظمون على أساسها علاقاتهم مع بعضهم بعض من جهة، وعلاقاتهم مع الدولة من جهة أخرى.
وإذا كانت إيطاليا لعبت الدور الأهم في القرن السادس عشر بسبقها إلى عصر النهضة، وإنجلترا قد افتتحت عصر المواطنة الحديثة بثورتها المجيدة في نهاية القرن السابع عشر، فإن مركز الثقل في الفكر السياسي الليبرالي، قد انتقل، من إنجلترا إلى فرنسا مع بداية القرن الثامن عشر، التي شهدت حركة ازدهار مجموعة من الفلاسفة الليبراليين الكبار، مثل مونتسكيو، وفولتير، وروسو، وجماعة الإنسكلوبيديا، وغيرهم من أولئك الذين نظرّوا فلسفيا للحرية والحقوق الطبيعية للفرد والمجتمع، وعرّضوا بالاستبداد والملكية المطلقة ونظرية الحق الإلهي.
ومن ثم كان الدور المركزي في هذا القرن لفرنسا التي تزعمت في هذه المرحلة مسيرة الحداثة، وكان لها قصب السبق في نهاية عصر التنوير بنجاح الثورة الفرنسية التي تشكل المرجعية المركزية للأنظمة السياسية الحديثة. كما لعبت الولايات المتحدة دوراً على المستوى السياسي في الثورة الأمريكية، وليس على أساس التأسيس الفلسفي، فقد كانت عالة على أوروبا في المجال الأخير.
التطور الأفقي والرأسي للمواطنة
من ناحية أخرى، مرَّ مفهوم المواطنة في إطار الدولة الوطنية ذات السيادة، بتطور أفقي من ناحية وتطور رأسي من ناحية ثانية. فالمفهوم كائن حي، ينشأ وينمو ويتطور، له ماضٍ وحاضر ومستقبل. بل له أيضا سمات الكائن الحي من صحة ومرض، فطوال العصور الوسطى الأوروبية من سنة 300 إلى 1300م –رغم بعض الاستثناءات- ظل هزيلاً، حتى ظهرت (عريضة الحقوق) في إنجلترا (سنة 1689م)، ويؤرخ بها البعض لبداية التنوير الأوروبي.
فالتطوّر الأفقي سار في اتجاه توسيع قاعدة المواطنة من الأقلية الأرستقراطية إلى شمول طبقات أخرى تدريجياً وبمرور الزمن، لكن حتى الآن –رغم كل المواثيق وإعلانات حقوق الإنسان- لم تشمل المواطنة كلّ الأفراد من الناحية العملية.
أما من ناحية التطور الرأسي، فقد تطور المفهوم بشكل مواز لتطور المشاركة في صنع القرار السياسي وممارسة السلطة وتوسيع رقعتها، حيث التقدم تدريجيا نحو تحول سلطة اتخاذ القرار من يد شخص واحد عبر مستويات متوسطة إلى يد عامة المواطنين وفق الآليات الديمقراطية. وحسب دراسات عالم الاجتماع (هانس) (درس صناعة القرار في الجمعيات الصغيرة والبلديات والحكومات المحلية، واستنتج منها مبادئ عامّة حددها في المستويات الستة المذكورة أعلاه. انظر: منصف المرزوقي، (تسقط الوطنية، عاشت المواطنية)، مجلة العصر، 27-12-2004م)، أقول -حسب دراسات هذا العالم- إن أي ممارسة للسلطة لها ستّ مستويات كالآتي:
المستوى الأول: القرار الفردي لرأس السلطة.
المستوى الثاني : إعلام الجمهور بالقرار دون أخذ رأيهم.
المستوى الثالث: استشارة الجمهور دون الأخذ برأيهم.
المستوى الرابع : استشارتهم والأخذ برأيهم.
المستوى الخامس: إشراكهم في مواجهة القضايا وحلّ المشاكل.
المستوى السادس: وجود سلطة اتخاذ القرار في يد عامة المواطنين وفق الآليات الديمقراطية.
ولا يوجد في جميع الأحوال بالضرورة فصل كامل بين هذه المستويات الستّ؛ فأحيانا يتأرجح الديكتاتور بين أكثر من مستوى كعملية من عمليات الخداع والتضليل، مثلما يحدث في الديمقراطيات المزيفة بكل أساليبها المعروفة.
وأفضل مستوى تتحقق فيه المواطنة هو المستوى السادس حيث تتسّع قاعدة المواطنة بمفهومها الشامل؛ فكلّ الأفراد مواطنون لا يوجد بينهم أي تمييز في الحقوق والواجبات، وتحكمهم المساواة في كل التعاملات المجتمعية بغض النظر عن الدين، العرق، اللغة، الجنس، أو الأصل الاجتماعي.... إلخ. ويشاركون حسب الآليات الديمقراطية في صناعة القرار.
وفي عصر التنوير تطور أفقياً مفهوم المواطنة في أبعاده السياسية والاجتماعية والمدنية، كما تطور رأسياً حسب هذا السلم على الأقل من الناحية النظرية، لكنه لم يصل أبداً إلى المستوى الخامس أو السادس.
وبلغ مفهوم المواطنة ذروة تطوره المرحلي في القرن الثامن عشر مع الثورة الفرنسية والأمريكية. لكنه لم يصل إلى ذروة اكتمال المواطنة؛ حيث حرمت الثورتان قطاعاً من الناس من حق المواطنة؛ فدستور الثورة الأمريكية (لسنة 1787م) استبعد النساء والهنود الحمر والجنس الأسود من دائرة المواطنة. وظل هذا الوضع قائماً رغم إلغاء الرق (سنة 1800)، و لم تتحقق لهم المواطنة إلا (سنة 1965م).
ولم تضع الثورة الفرنسية حدا للعبودية إلا في (عام 1848م)، أي في منتصف القرن التاسع عشر. واستمرت المرأة على المستوى السياسي محرومة من ممارسة ومباشرة الحقوق السياسية، كما ظلت خارج دائرة المواطنة لفترة طويلة.
فلم تعترف فرنسا بحق النساء في التصويت إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وفي إنجلترا لم تحصل المرأة على المساواة السياسية وحق المواطنة بمعناه الشامل إلا في (سنة 1928م) بصدور قانون المساواة في الانتخابات بين الرجل والمرأة .
ولم يتبلور مفهوم المواطنة من الناحية النظرية إلا (سنة 1948م)، بصدور (الإعلان العالمي لحقوق - واجبات الإنسان). طبعا نظريا! أما الواقع الفعلي المتعين، فلا تزال تعترض فكرة المواطنة تحديات كبيرة في كثير من بلدان العالم بما فيها بلدان العالم الغربي!
************
الحواشي
1- بتصرف عن: ابن منظور، لسان العرب بيروت، دار صادر، الطبعة الأولى، بدون تاريخ, ج 13, ص451.
2- جدير بالتنويه هنا أننا نتحدث عن مفهوم الرعية في الفكر الغربي وليس في الفكر الإسلامي، ولا ينطبق تحليل مفهوم الرعية الغربي بالضرورة على مفهوم الرعية في الفكر السياسي الإسلامي.