من حظنا أن نعيش هذه اللحظة التاريخية الاستثنائية. لا أحد من أهل العلم، من علماء المستقبليات، أو من أهل الكشف والعرفان تصور أو خطر بباله أنه سيحدث ما حصل وبالكيفية التي حصل بها، ولا تخيل البعض شكل السيناريو الذي اتخذه ما حدث. شبهه البعض بزلزال إحدى عشر شتنبر ورأى فيه البعض الاخرمثالا للثورة الفرنسية واعتبره آخرون وجها بديلا للثورة الإسلامية الموعودة... وما الى ذلك. تعددت النعوت وتلونت التصنيفات وتضاربت التفسيرات. لكن كيف حصل ما حصل؟ ومن يجرؤ على فهم وتفسير ما حدث؟ من يدعي أنه يمتلك مفاتيح سرية ذلك الحدث ؟ أمن قدر العربي الشريد أن ينتظر لحظة رؤية الجسد المحترق وتزكم أنفه رائحة اللحم الآدمي المشوي حتى تستيقظ أدميته ويستنفر هممه للصراخ في وجه جلاده؟ ومصير جلاده ومطارده أن لا يكتفي بمص دمه ويستميت في إهانته بل يكشر عن أنيابه ويستنفر عتاده ليطارد ظله في السراديب ويقتفي آثره في فيافي التيه. قدر الضحية وأقنعتها، الضحية الذي استطاب عبوديته الطوعية واستكان لخدمة المحراب يقدم طقوس الولاء والطاعة ولو سولت له نفسه يوما التمرد فإن سدنة المعبد يتربصون حركاته وسكناته ويتفننون في سياسة ترويضه ورده إلى موطنه الأصلي ترغيبا وترهيبا و تأديبا. فهل من سبيل لفك رباط هذا العقد الأزلي؟ وهل في إمكان ما حدث أن يخلخل بنية ذلك العقد؟ يحتاج المرء أمام حدث من هذا القبيل إتقان فن الإصغاء والتروي للظفر بوميض يسمح باقتحام عالمه المجهول و باكتشاف خصوصيته.
بأي معنى يعتبر إقدام البوعزيزي على إحراق نفسه – وما تلاه من إنجازين تونسي ومصري – فعلا بمثابة حدث تاريخي؟ يعج تاريخنا القديم والحديث بشواهد وأمثلة حية من شخصيات مغمورة أو مشهورة اتسمت بمواقفها الجريئة وبجسارتها على فضح واقع الاستبداد والصراخ في وجه الظلام ورموزه ويمكن سرد قائمة طويلة في هذا الباب. إلا أن ما يلاحظ مقارنة بما وقع مع حدث البوعزيزي مدى محدودية صداها المباشر. يعتبر حدث البوعزيزي بمثابة شرارة ملتهبة ما إن اشتعلت حتى امتدت حرارتها إلى مختلف الأقطار ملهمة الملايين ومن مختلف الفئات والشرائح ومن مختلف التوجهات. ترى ما السر الكامن خلف كل ذلك؟ هل يعزى ذلك إلى هشاشة بنية الأنظمة العربية وشيخوختها وأنها ظلت تخادع شعوبها بما استجد من صيحات الموضة والعمليات التجميلية ؟ أم أن الأمر لا يعدو حالة عرضية طارئة تعرفها كل المجتمعات، خاصة فترة نزول الأزمات وسرعان ما تزول بزوال علاتها؟ أم أن ثمة أيادي خفية ومؤامرة تحاك في الخفاء؟ لكن من يتآمر على من؟ وضد من؟
هناك من يربط خصوصية الحدث بخصوصية مبدعيه ومنجزيه مثلما فعل نتشه مع العبقرية اليونانية لأنهم تمكنوا من خلق أعمال فنية وفكرية رائدة "عجبا لهؤلاء اليونان كم كانوا سطحيين من شدة عمقهم". فاليونان حسب نتشه "أتقنوا فن اخذ الرمح من النقطة التي تركته الشعوب الأخرى عندها والرمي به بعيدا". كذلك حال الثورة الفرنسية حيث يبرز الدور الحاسم لفلاسفة الأنوار (فولتير روسو...) ولثوار الباستيل. وفق ما سلف يمكن أن ننسب مهمة الانجاز الفعلي للحدث إلى الشعب التونسي والى أحفاد شاعر إرادة الحياة أبي القاسم الشابي. ويرجع ذلك لتواجد شروط موضوعية وذاتية متمثلة في واقع التازيم وفي وجود نخبة متعلمة ومثقفة تمتلك من مقومات الوعي ما يكفي لضبط الفعل وتوجيهه، وكذا توفر معطيات جغرافية في ضيق مساحة تونس، وديموغرافية في انحصار عدد سكانها وسوسيواتنوتقافية في التجانس اللغوي الثقافي. بالرغم من قيمة الفرضيات المقدمة لقراءة الحدث إلا أنها لا تصمد أمام الفحص والمساءلة. بالفعل تشكل نقط ارتكاز للباحث عن التعليل السببي للحدث لكنها لا تفي بالمطلوب، أي فهم وتفسير ما حدث، بقدر ما تطوق الحدث وتختزله في قوالب جاهزة. إن من يتأمل واقع التأزيم يدرك أنه واقع راسخ في بنية الشعوب العربية وليس حكرا على تونس أو مصر أو على شعب دون آخر بل يتجدر في شرايين المجتمعات العربية منذ النهضة وقبله بقرون. ولا يقصد به التأزيم الاقتصادي والاجتماعي فحسب بل تأزيم هوية وكيان وتأزيم مشروع مجتمعي وأفق تاريخي، كما نجد شعوبا أشد تأزيما من تونس إلا أنها لم تشهد نفس الحدث. أما معطى وجود نخبة مؤهلة للوعي بأهمية اللحظة وقادرة على النهوض بعبء التزاماتها وتتحين فقط الفرصة المواتية فواقع الحال يبطل ذلك. لم يأت الحدث نتيجة تخطيط مسبق أو وعي مقصود أو بناء على تكتيك استراتيجي بل لعل أهم ما طبع الحدث هو سمتا البغتية والفجائية، بكونه حدثا صادما لأشد المتفائلين به قبل المتشائمين منه أو حتى للمناضلين من اجله، إنه أشبه بحال صياد قضى اليوم كله أمام البحر ينتظر أن يجود عليه بكنوزه ولما أتعبه الإصرار والمعاندة وأضناه الانتظار، جمع أغراضه وهم بالمغادرة وإذا بشباكه تعلق بصيد ثمين لم تبصره عيناه ولم يسمع به ولا تصوره خياله يوما. لم يصدر الحدث الثوري عن منبر معين حزبي اونقابي اوتقافوي مما أضفى عليه صفتا الجدة والتميز .
يتبين أن الخصوصيات التي تميز الحدث والتي المحنا لبعضها سلفا تستحق التوقف عندها :
_ البغتية والفجائية :
بخلاف الثورات الاجتماعية والسياسية وكذا الطفرات المعرفية والعلمية التي تتولد نتيجة تضافر عوامل ومقتضيات وتحتاج إلى زمن حتى تنضج وتكتمل فإن الحدث الذي عرفته تونس ومصر فيما بعد قد يشكل استثناءا. وللحسم نحتاج إلى دراسات مقارنة بين مختلف الثورات ليس فقط في المجالين السياسي والاجتماعي بل العلمي والديني وأيضا الفني حتى تتضح الرؤية أكثر. وعموما فعفوية الحدث وفجائيته قد صدمتا القريب والبعيد الخاص والعام وخلخلت البدا هات والآراء والقناعات والمعتقدات... فكم فقيه ندد بفعل إحراق النفس كفعل انتحاري محرم شرعا تم تراجع ليعلنها شهادة حق وأن البوعزيزي شهيد العصر بامتياز. وكم من الحبر سال على صفحات الجرائد وفي الكتب وفي الندوات حول الشباب ونزعته الاستهتارية ولا مبالاته وهاهي الجرائد اليوم تحتفي بالشباب وتمتدح انجازاته ونضالا ته، وكم من وجوه لفها النسيان وها هي تطل اليوم... وخلاصة القول إن طابع المباغتة زلزل المجال التداولي العام وهز عرش أركان النظم القائمة محدثا شرخا في زمنية الحياة المعتادة.
_ الزّمانية الخاصة:
ككل حدث عظيم يخلق حدثيته ويشكل زمنيته الخاصة على حد تعبير حنا أرندت، انه يجسد نقطة التمفصل واللاعودة والاختلاف المبدئي بين ما هو معتاد ومألوف وبين الإمكانات والأفاق التي يفتحها، فلا يمكن تصور الكيفية التي تخلى فيها الشباب خاصة عن ممارسة نشاطاتهم الاعتيادية وهواياتهم ومشاهدة التلفاز... والانخراط كلية في هموم وقضايا مصيرية تقتضي تضحيات جسيمة، وهذا ماعبر عنه واحد من الشباب المصري بقوله: "بعدما كنت أشاهد التلفاز أصبح التلفاز يشاهدني"، إن عملية انتزاع الناس من زمن رتابة الحياة اليومية ومن نمطية نظام مهترئ والقذف بهم في عمق التاريخ وفي صميم القضايا الإنسانية تعد عملا ثوريا وتحتاج إلى حدث خارق ولا تحصل إلا نادرا في التاريخ. يبين روجي كايوا في كتابه "الإنسان والمقدس" أهمية العيد والحرب بكونهما يحدثان شرخا وتصدعا في منطق الحياة اليومية ونمط المعيش وفي السلوك ومعايير الحكم. لا غرابة إن لاحظنا في الشارع التونسي وفي ميدان التحرير تعبئة كلية لمختلف شرائح المجتمع بتعدد أطيافهم وتنوع توجهاتهم. تؤثث الفضاء العام وتبتدع طقوسا وأخلاقا ترقى إلى مستوى الحدث وأصالته وتميزه.
_الأصالة والتميز:
تكمن أصالة الحدث وفرادته في عدم قابليته للمماثلة أو النّمذجة ولا يمكن قياسه بمثال سابق اللهم إذا كان بغرض تأصيل هذه الخصوصية وترسيخها. و ما يحجب إدراك أصالة الحدث يمكن حصره في عاملين، يتمثل الأول في كون المنجزين للحدث وصناعه الأفذاذ لا يزالون مستغرقين في بنائه، ويمكن تشبيهه بعلاقة فنان بلوحته بحيث ما تفتأ ريشته تضع اللمسات تلوى الأخرى، والفنان يراوح مكانه بين نزول وصعود، إقدام وتراجع في انتظار اكتمال خلقه. لذا فالاستغراق في صنع الحدث وإبداعه يمكن أن يحجب عن صاحبه حقيقة وقيمة ما هو مقدم على صنعه وانجازه. ويتمثل الثاني في كون المتابعين للحدث يختلفون في توجهاتهم ويتضاربون في مقاصدهم وغاياتهم لذلك تجدهم يتخبطون في حسم قراراتهم وتحديد مواقعهم إذ تجدهم يترنحون ويتقلبون بين أحوال، تارة حال الانفعال والاندفاع، وتارة حال التنديد والإنكار، وأخرى حال المديح والتقريظ... وقد يعزى ذلك إلى هول صدمة الحدث من جهة وإلى لعبة المواقع من جهة ثانية الأمر الذي يفوت فرصة الإسهام الفعلي للدفع بالحدث إلى أفاق إمكانه المأمولة .
والحال أنه يمكن تلمس أصالة الحدث في مستويين أو مظهرين:
- مظهر تأصيلي:
كأي حدث جديد يدشن ولادة جديدة يستلزم أيضا انبثاق إنسان جديد وذلك ماتردد صداه ضمن شعارات وتصريحات الحراك الشعبي الذي يعيشه الربيع العربي سواء من قبل أبناء الحدث وصناعه أو عند باقي الشعوب العربية ، من قبيل "لم نشعر بإنسانيتنا إلا عند هذه اللحظة التاريخية"، "الشعب التونسي الحر"، "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر"... مما أدى إلى نحث مفهوم جديد للذات وللهوية مثلما يحدث أثناء اللحظات التاريخية الاستثنائية. أنجبت اللحظة اليونانية إنسانا جديدا، ابن المدينة وحارسها، ونتاج السجال الفكري والممارسة الخطابية في الساحة العمومية حيث يخضع كل شئ للتداول العلني وللنقاش العقلي الحرالامر الذي أدى لا إلى تكريس أسس وضوابط تدبير الشأن العام وأمور المدينة بل والأهم من ذلك بناء مفهوم إنسان جديد قادر على إدراك قواه وإمكاناته وعلى التحكم في انفعالاته وعلى تطهير ذاته من كل مكامن الضعف والخوف ومن كل ما من شأنه أن يحجب عنه سبل إدراك الحقيقة وكذا القدرة على الجهر بها، ولذلك أنيطت بالفلسفة مهمة النهوض بهذا العبء ومهمة حمايته وصيانته ويمكن فهم مضمون العبارتين المتداولتين "الفلسفة بنت المدينة" و"الفيلسوف حارس المدينة" ضمن السياق السالف ذكره. ويمكن استحضار بعض اللحظات المفصلية والاستثنائية التي يعرفها التاريخ (كاللحظة المسيحية أو الإسلامية أو الأنوارية) لا من أجل المقايسة أو المماثلة وإنما للتأشير على بعض الأفاق والتي من الممكن أن تشكل مجالات للحركة والفعل وللتأسيس النظري. إن الذات التي تم تفعيلها عبر مسار الحدث ليست ذاتا نظرية متعالية تنهض على متكأ ميتافيزيقي أو ديني طائفي أو فلسفي نظري وإنما ذات عملية تستمد مصداقيتها من القدرة على الفعل والانجاز ومدى المساهمة في صنع الحدث. لذات السبب تم إغلاق الباب أمام كل من لم تكن له يد في صنع الحدث من مثقفين وسياسيين ونقابيين وتم سحب البساط من تحتهم باستثناء نزر يسير يعدون على رؤوس الأصابع، ويعد هذا مؤشرا خطيرا يقتضي إعادة النظر في مغزاه ومآلاته. إلى جانب عناصر الفاعلية والإنجاز والإسهام التي تسم تلك الذات ثمة خصيصة ثانية لا تقل أهمية تتمثل بكونها ذاتا غيرية تنبني علي الانفتاح على الأخر الشبيه أو المختلف والاعتراف بحقه في الاختلاف وحقه في إبداء الرأي مهما كان مستواه وتوجهه وكذا التضحية في سبيل الأخر ونكران الذات، ولعل صورة ميدان التحرير تقدم مثالا نموذجيا لمفهوم الفضاء العام وللمجال التداولي، فالكل لاحظ الكيفية والسرعة اللتان تم بهما تأثيث ذلك الفضاء لا من حيث المستلزمات المادية ولا من حيث فلسفة المجال وأخلاقياته وطقوسه وآدابه مشَكِّلا بذلك نقدا جذريا لمختلف أشكال المؤسسات القائمة من برلمانات وجامعات ومساجد وأندية من حيث الانفتاح مقابل الانغلاق والفاعلية والحركية مقابل الخمول والجمود والتنظيم والعطاء مقابل العشوائية والجفاء والمسؤولية والالتزام مقابل اللامبالاة والاستهتار...
ما يميز تلك الذات التي أنتجها الحدث وأنتجته أنها ذات مريدة وأن إرادتها ليست إرادة فردية بل إرادة جماعية وشعبية وأنها تحرص وتلح على تحقيق ذاتها ولا ترضى عن ذلك بديلا، وتجسدت الإرادة في مقولة "الشعب يريد..." لم تجهر وتصرخ بها الحناجر فقط بل وشمت على الأجساد ونقشت على الصخر والاسمنت وكتبت بدماء الثوار والشهداء. رب معترض أو متحجج يورد أن ما نراه من حراك لا يرقى إلى مستوى "الحدث/ الثورة" أقل ما يقال عنه ضرب من الاحتجاج والتمرد أو شكلا من أشكال الطيش وعرض عصابي ألفناه مع غزو العراق ومع الرسوم الكاريكاتيرية ونراه يوميا في ملاعب كرة القدم. أليس العرب مجرد ظاهرة صوتية! ويمكن للمعترض حشد بنية حجاجية لتاييد زعمه كالحفر القاموسي عن اصطلاحات لمتوالية الألفاظ، التمرد، الاحتجاج، العصيان، الفتنة الانتفاضة، الصحوة... أو الارتكاز على مرجعية نظرية كالادبيات الماركسية لاختزال أهمية الحدث وأصالته. ويتجلى تهافت مثل هذه الادعاءات كونها تتأسس على أحكام مسبقة وتراهن على مصادرات داع صيتها ورسخها الإعلام حتى تحولت إلى يقينيات وقوالب جاهزة للتفكير والمحاكمة. ألا تعبر تلك المظاهر والظواهر عن واقع أعظم مثل جبل الجليد الطافي على سطح المحيط وما خفي منه أعظم، أو مثل الشجرة التي تخفي الغابة تعبر عن واقع مأزوم وعن قرون من القمع والقهر وعن طاقات وإمكانات محبوسة ومحاصرة لاتجد افق ومكان تصريفها وبالتالي قد تتماهى مع أبسط إشارة بريق أمل تلوح في الأفق. أضف لذلك لما لا نقرأها باعتبارها من علامات صحة الجسد الاجتماعي الذي ينفعل بالأحداث ويتفاعل معها ويفعل فيها. وآخِرًا تناسل القراءات والروايات حول الحدث تعبير عن عمق الحدث ولا ينقص من قيمته في شئ بل يزيده حضورا وتألقا.
- مظهر تأسيسي:
يتوخى تقديم بديل اجتماعي وسياسي من خلال العمل على تقويض وهدم بنية النظام الاستبدادي القائم وزعزعة عرشه والإطاحة برموزه وتجريده من كل مقوماته المادية والرمزية والتأسيس لمفهوم جديد للسلطة السياسية يستمد مشروعيته من الإرادة العامة للشعب وسيادته ويقوم علي التداول والتعاقد وعلى المشاركة الفعلية في كل ما يتعلق بتدبير الشأن العام، إذ لم يعد يرضى الإنسان العادي بالحجر والوصاية أو الانتظارية في انتظار المخلص أو المهدي المنتظر بل أدرك عين اليقين أن مصيره رهين بخياراته وبقناعاته وبمدى قدرته على تفعيلها بمعية الآخرين ولأجلهم . ولن يتسنى تحقيق هذا الانجاز بدون المزاوجة بين تفكيك بنية السلطة وبنية الخوف في الداخل والخارج على اعتبار أنهما متلازمتان ووجهان لعملة واحدة ويمثلان أدرع اخطبوط النظام القائم. والشواهد لاتعد ولاتحصى من التجربتين التونسية أو المصرية... حيث تحفل الصور بمشاهد من الشجاعة والبطولة وتحدي الخوف أمام جهاز قمعي مدجج بأحدث العتاد اللوجيستيكي والحربي لم يشهد التاريخ العربي له نظيرا حتى في حرب النكسة ضد إسرائيل، ضد أبرياء عزل سلاحهم الوحيد إرادة الحياة والتغيير وإرادة الحرية والكرامة. قيمة الحدث ورمزيته فاقتا حدودية الزمان والمكان وحدودية صناعه الذين كتبوه بدمائهم على صفحات تاريخ الخريف العربي وأضحى حدثا كونيا.
- النسبية والكونية:
حسب مضمون إلتماعة نتشه "كل ما يبدأ عظيما ينتهي عظيما" فإن حدث الربيع العربي انبثق عظيما ولا يزال يستمر في تشكيل عظمته. والمتتبع لانعطافات الحدث وصداه يدرك مدى اتساع رمزيته وتجاوزه رقعة الشعوب العربية المتعطشة للحرية والكرامة ليصبح موضع اهتمام المجتمعات الغربية موطن الديمقراطية (حركات الاحتجاج كاسبانيا والبرتغال واليونان...) أو بعض شعوب آسيا. يؤكد المفكر الفرنسي آلان باديو في مقال له بجريدة "لوموند" أن الحدث يمثل لحظة تاريخية مفصلية في تاريخ الإنسانية وتحديا لقيم النظام الرأسمالي ومنطق العصر الاستهلاكي. ويضيف متوجها للغرب خاصة مثقفيه يجب أن نكون تلامذة لهم بدل لعب دور أساتذتهم الأغبياء، لأنهم منحونا الحياة بفضل عبقرية إبداعاتهم الخاصة على مستوى القيم السياسية والتي طالما بحثنا عنها طويلا، مضيفا على لسان "مارا" (Marat) "لما يتعلق الأمر بقيم الحرية والمساواة والمبادرة ينبغي الإنصات لنبض الشعب وللحركات الشعبية".
*أستاذ الفلسفة.
البلد: المغرب