"اثنان من الناس اذا صلحا صلح الناس واذا فسدا فسد الناس، العلماء والأمراء"[1]
استهلال:
من شروط الاستئناف الحضاري حسب مالك بن نبي هو مطابقة التاريخ للمبدأ القرآني والعمل على جعل الرسالة المحمدية تجربة معاشة الآن وهنا وقيادة الثقافة العربية الاسلامية نحو حقيقتها المحتومة وحسن استثمار الانسان والأرض والزمان والكلام وتجهيز العدة الدائمة من العلم والوعي والقدرة وتوجيه الشعوب بالمزج بين المنظومة الأخلاقية والذوق الجماعي وذلك بالتحكم الصناعي والمنطق العملي.
لقد روي عن النبي محمد أنه قال:" بدئ الاسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدئ فطوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون عند فساد الناس". والمستصلح هو الفقيه الذي يحي ما أمات الناس بالعادة من العبادة وهو السياسي الذي جعل من أمور النزوع الى الابتداع شيئا عجابا.
في هذا السياق لا يمكن الحديث عن السياسة في الاسلام دون التطرق الى الفقه وباب سد الذرائع وتدبير الأحكام، فالفقه هو السياسة الشرعية والسياسة هي فقه المعاملات. واذا كان الفقه في اللغة هو عبارة عن فهم غرض المتكلم من كلامه وذلك بإصابة المعنى الخفي الذي يتعلق به الحكم والوقوف عليه فإنه في الاصطلاح هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية ويستنبط بالرأي والاجتهاد والنظر والتأمل.
لقد اختلف العلماء حول الرسالة المحمدية نبوة خاتمة أم مدينة انسية جامعة وحول طبيعة الدولة في الاسلام رئاسة أم خلافة ونمط الحكم ولاية أم امامة وبحثوا عمن يخول له اختيار الحكام هل أهل الحل والعقد أم عموم الشعب والسواد الأعظم ولكنه اتفقوا حول ضرورة الاجتماع البشري وواجب الامام.
'ان الله جلت قدرته ندب للأمة زعيما خلف به النبوة وحاط به الملة. وفوض اليه السياسة ليصدر التدبير عن دين مشروع ، وتجتمع الكلمة عن رأي متبوع. فكانت الامامة أصلا عليه استقرت قواعد الملة ومنه ما يصلح لسياسة الدنيا وانتظمت به مصالح الأمة حتى استثبتت بها الأمور العامة وصدرت عنها الولايات الخاصة."[2] زد على ذلك يعاني الناشطون السياسيون الذي يجعلون من الاسلام مرجعية نظرية من ارتجال في العمل وضبابية في الرؤية وتذبذب في الأداء وازدواجية في الخطاب واعوجاج في الأهداف وسوء تقدير في الوسائل واهدار للفرص والطاقات في التجارب وتعثر في النتائج والمردودية.
ما العمل اليوم في دنيا السياسة زمن الثورة العربية؟ وهل يحث الاسلام على العمل السياسي؟ وماهي المبادئ التي يرتكز عليها هذا العمل؟ وهل يجوز التمييز بين عمل تقليدي وعمل ثوري في الاسلام؟ ومتى يصبح الفقه مرجعية للعمل الثوري؟ والى أي مدى يمثل الاسلام مرجعية عمل ناجعة في عالم السياسة؟
1- الفقه وأصول الفقه:
"الفقه معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين بالوجوب والحذر والندب والكراهة والاباحة، وهي متلقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة، فّاذا استخرجت الأحكام من تلك الأدلة قيل لها: فقه"[3].
يشتغل هذا العلم على وضع الحدود واستقراء الكليات ومتابعة الوقائع المتجددة واختراع الطرائق ويتعامل مع ما رسمه الشارع ووضعه من مقاصد في النصوص ويستنبط ثلاثة أنواع من الأحكام تتعلق بأفعال العباد وهي: المطلوب فعله ويقتضيه معنى الأمر واجبا كان أو مندوبا، والمطلوب تركه ويقتضيه معنى النهي تحريما كان أو مكروها، والمأذون في فعله أو تركه ويقتضيه معنى التخيير ويظل مجال الاباحة.
اختلف الفقهاء الى رأيين: أهل الرأي والقياس واعمال العقل واشتهر منهم أبي حنيفة من أهل العراق، أما أهل الحجاز فقد كانوا أهل الحديث والنقل والظاهر واشتهر منهم مالك ابن أنس ،" وجعلوا المدارك كلها منحصرة في النصوص والاجماع وردوا القياس الجلي والعلة المنصوصة الى النص لأن النص على العلة نص على الحكم في جميع محالها."[4]
هكذا يبحث علم الفقه في الفرائض التكليفية والأحكام الشرعية من جهة المطلق أو المفصل وفي استفادة هذه الأحكام من أدلتها الخاصة من تراكيب كلام. لكن ماهو علم أصول الفقه؟
" وأصول الفقه انما معناه استقراء كليات الأدلة حتى تكون عند المجتهد نصب عين وعند الطالب سهلة الملتمس."[5] بعبارة أخرى " هو النظر في الأدلة الشرعية من حيث تؤخذ منها الأحكام والتآليف. وأصول الأدلة الشرعية هي الكتاب الذي هو القرآن، ثم السنة المبينة له."[6] وقد انضاف اليهما بعد ذلك الاجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة والعرف وشرع من قبلنا.
روي عن النبي أنه قال لمعاذ حين بعثه الى اليمن واليا: كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟، قال: بما في كتاب الله. قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسوله. قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي." على هذا النحو يكون التفقه في الدين هو الاجتهاد العقلي واعمال الرأي وتدبير المصلحة.
ان العودة الى علم أصول الفقه تبدو ضرورية لكي يتم تنظير المسائل في الالحاق وتفريقها عند الاشتباه في الأدلة الشرعية وغياب الاجماع وعدم الاتفاق على الأمر الديني ولكي لا يكون الاتباع بالمشاهدة.
ما الفرق بين علم الفقه وعلم أصوول الفقه؟
اذا كان الفقه في اللغة هو العلم بالشيء والفهم له والفطنة فيه واذا كان علم الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المستمدة من أدلتها التفصيلية وذلك بالبحث عن الحكم الشرعي لكل عمل بشري فإن علم أصول الفقه هو العلم بالقواعد التي وضعت للوصول الى استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها الصحيحة.
هكذا يتمثل الفرق بينهما في أن أصول الفقه يهتم بالأدلة التفصيلية من حيث دلالتها على الأحكام الشرعية في حين ان الفقه يهتم بالأدلة التفصيلية من أجل استنباط الأحكام العملية منها. ألم يقل الله عز وجل في قرآنه الكريم:" ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون"[7]؟
ان العقل الفقهي ليس بنية ثابتة لا تتغير وانما هو جملة من المسارات الاجتهادية التي تنهل من الواقع التاريخي وتخضع لمنطق الهدم والبناء. "لقد رأى أبو حنيفة أن الدين واحد –هو التوحيد- والشرائع مختلفة، فإن اتفق آخرون مع المسلمين في الصل فإن اختلافات الشرائع جزئية وعلى الفقيه أن يفهم هذا المعنى الوحدوي للسلام المستوعب الذي يريد جمع الناس، وتوحيد المجتمع في الداخل من مبدأ الاعتراف باختلاف الشرائع أي امكان وجود شريعة اجتماعية أخرى غير الشريعة الاسلامية لفئات اجتماعية تعيش مع المسلمين في مجتمع واحد."[8]
لكن ألا يجب العقل الفقهي أن يتعرض الى عملية ثورة معرفية كبرى؟
" ان علم اصول الفقه يظل علما انسانيا خالصا . لا يتحدث عن الموحي الا باعتباره الشارع أي الذي وضع الشريعة ولا يصف الوحي الا بعد تحققه في التاريخ... على نحو أفقي... لا يهتم بطريق الوحي من الموحي الى الموحي اليه بل بمسار الوحي من الموحى اليه الى المتلقين منه، الكلمة في التاريخ، الوحي أساس لنظام اجتماعي. الوحي قصد من الله الى الانسان يتوجه اليه بالخطاب. ويتحول الى تجربة مثالية في أقوال النبي وتجربة جماعية في اجماع الأمة وتجربة فردية في اجتهاد الشخص. ثم يتم فهمه باللغة الانسانية التي من خلالها يفهم الكلام ثم يتم تحقيقه كمقاصد انسانية. الحياة (النفس)، والعقل، والمبدأ العام (الدين)، والكرامة الانسانية (العرض)، والثروة الوطنية والمال العام ( المال). ويتم ذلك بالفعل الانساني كواجب ضروري أو اختياري ايجابا (الوجوب والمندوب) أو سلبا ( المحرم والمكروه) أو كطبيعة تلقائية تعبر عن الفطرة والبراءة الأصلية (المباح)".[9]
لكن هل يمكن الاستفادة من الفقه في السياسة؟ وهل الحكم الفقهي مناسب لاستعماله في الحكم السياسي؟ وألا يؤدي تثوير العقل الفقهي الى ازالة التناقض بين مجال القانون السياسي ومجال العلة الفقهية؟
2- من الفقه الى السياسة:
" ان قواعد الملك مستقرة على أمرين، سياسة ، وتأسيس"[10]
يحتاج الانسان الى أن يتكاثر ويتعاون مع بني جنسه وأن يتواجد مع غيره في جماعة بشرية ولكن هذا الاجتماع البشري يحتاج بدوره الى حاكم يدبر حياته ومعاشه والى سياسة ينتظم بها أمره، ثم ان هذه السياسة المدنية لا تتم الا بدعوة دينية أو أثر عظيم من الدين على الجملة وان الرئاسة على هذه الدولة لا تكون الا في قوة عصبية وأهل شوكة ولا نحصل على حكم راشد الا بتحقيق العدل والتلاحم والازدهار.
والحق أن الحياة الاجتماعية والسياسية لا تصلح ولا تنتظم أحوالها وتستقيم أمورها الا باتباع دين يصرف النفوس عن الشهوات ويحث على العمل الصالح وبإقامة حكم راشد والاضطرار الى وازع قاهر لكل معاند ومتبعا العدل والرعاية وفارضا الحدود على مستحقيها وحافظا الدين وحارسا الأمة ومعمرا البلدان باعتماد مصالحها وتوفير الأمن والطمأنينة وباعثا الأمل والأماني في العقول ومحررا الارادات والأفعال.
" واعلم لأن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم، وهو ما ينشا عنه من فساد العمران وخرابه. وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري وهي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة من: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال."[11]
لا يتم تثبيت الملك على قواعد وترسى مبانيه على أوائل الا بالارتكاز على ثلاثة أسس هي القوة والثروة والدين. ان تأسيس الملك عن طريق القوة الغاية منه اكتساب القدرة بعد ضعف والتعويل على الجيوش واكثار الأعداد من الجنود والعتاد واظهار الشجاعة والطمع في التوسع والاستيلاء والتغلب والتقويم بالشدة والسطوة بغية الاقلاع عن الفساد الى السداد.
على أساس ذلك" وجب التفويض الى امرة سلطان مسترعى ينقاد الناس لطاعته ويتدبرون بسياسته ليكون بالطاعة قاهرا وبالسياسة مدبرا وكان أولى الناس بالعناية بما سيست به الممالك ودبرت به الرعايا والمصالح، لأنه زمام يقود الى الحق، ويستقيم به أود الخلق."[12]
أما تأسيس الملك على الثروة فالغاية منه اكثار المال وجمع الكنوز من الذهب والجواهر النفيسة وصرفها في الملذات والمتع الدنيوية والبحث عن اقتناص مباهج الحياة. غير أن الدعوة الدينية هي الأساس الصلب الذي يمكن اقامة المجتمع السياسي عليه وذلك لأن "تأسيس الدين فهو أثبتها قاعدة وأدومها مدة وأخلصها طاعة."[13]
ان الدولة التي تبنى على المال والقوة قد تستهين بالدين وتهمل أحكامه وتدخل فيه شناعات وتأويلات زائغة وتصاب بالضعف والوهن وتكثر فيها المظالم والمفاسد ولا مخرج منها بتأسيس الملك على الدين.
"لا خير في ملك لا يتناصف أهله...فليوقظ عزمه تصفح المظالم وانصاف المظلوم من الظالم ليكون آمرا بالعدل كما كان به مأمورا وزاجرا عن الظلم كما كان عنه مزجورا. فإن مراعاة المظالم من قواعد السياسة في انتظام الملك ومصالح الرعايا"[14].
السياسة تتأسس أيضا على اللغة والبيان والخطابة والكلام ويمتلك السلطة من يمتلك ناصية اللغة ويحسن القول ويتبع أحسنه ، والسياسة الراشدة تقوم على الكلمة الطيبة التي يكون أصلها ثابت في الأرض وفروعها مرتفعة الى السماء بينما السياسة الفاسدة تقوم على الكلمة الخبيثة وما يرافقها من زيف وكذب.
"ان الكلمة لمن الروح القدس، انها تسهم الى حد بعيد في خلق الظاهرة الاجتماعية، فهي ذات وقع في ضمير الفرد شديد، اذ تدخل الى سويداء قلبه فتستقر معانيها فيه لتحوله الى انسان ذي مبدأ ورسالة. فالكلمة – يطلقها انسان- تستطيع أن تكون عاملا من العوامل الاجتماعية حين تثير عواصف في النفوس تغير الأوضاع العالمية."[15]
من نافل القول أن "نهض الى طلب الملك من يقوم بنصرة ويدفع تبديل المبتدعين ويجري فيهم على السنن المستقيم...فملك القلوب والأجساد واستخلص الأعوان والأجناد...وتوطد له من أس الملك ما لا يقاوم سلطانه ولا تفل أعوانه."[16]
غني عن البيان أن المرور من الفقه الى السياسة أمر ممكن ومطلوب وذلك لحل العديد من الاشكاليات الحياتية العالقة ولتفهم التداخل بين المقدس والدنيوي وحاجة الاجتماعي الى تدخل الديني من أجل تحقيق التماسك والاستمرارية وصيانة هوية الجماعة البشرية من كل تفكك أو اندثار.
"وجب العقل أن يمنع كل واحد نفسه من العقلاء عن التظالم والتقاطع ويأخذ بمقتضى العدل في التناصف والتواصل، فيتدبر بعقله لا بعقل غيره، ولكن جاء الشرع بتفويض الأمور الى وليه في الدين."[17]
من هذا المنطق يشرع الفقهاء الى ضرورة نصب الامام بالنسبة الى الأمة لكون "الامامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا"[18] ولكنهم اختلفوا في صفاته وشروط هذا النصب عن طريق البيعة أو العهد، زد على ذلك يعتبر وجوب الامامة فرض كفاية ويشترط في الامام أن يكون عادلا وعالما مجتهدا في النوازل والأحكام وسليم الحواس والأعضاء وصاحب رأي مفضي الى سياسة الرعية وتدبير المصالح وينبغي أن يكون شجاعا مجاهدا وله حسب ونسب.
"و الامامة تنعقد من وجهين: أحدهما باختيار اهل الحل والعقد، والثاني بعهد الامام من قبل...فإذا اجتمع أهل الحل والعقد للاختيار تصفحوا أحوال أهل الامامة الموجودة فيهم شروطها فقدموا البيعة منهم أكثرهم فضلا وأكملهم شروطا ومن يسرع الناس الى طاعته."[19]
لكن هل مازال للقول بأن" العرب أبعد الناس عن الصنائع"[20] و"أبعد الأمم عن سياسة الملك" [21]معنى؟ ماهي القواعد التي يستند اليها السياسي في الاسلام؟
3- شروط انتظام الملك:
" الملك يساس بثلاثة أمور. أحدها بالقوة في حراسته وحفاظه، والثاني بالرأي في تدبيره وانتظامه، والثالث بالمكيدة في فل أعدائه."[22]
تتغير مبادئ العمل السياسي وتدبير الملك بتغير الظروف والأحوال التي يمر بها الاجتماع البشري. فإذا شهد الاجتماع البشري السلامة والسكون فان المقصد هو الموادعة والملاطفة والترغيب وذلك بالرأي والمحافظة على القواعد المستقرة والتدبير بالسياسة العادلة. أما اذا شهد الاجتماع البشري الاضطراب والفساد وتفجر المنازعة والمحاربة فإن المقصد هو القوة في الحراسة والذب عن القواعد واستعمال المكيدة والحيلة. عندئذ " تكون القوة مختصة بالعقل والرأي مختصا بالتدبير...وأما المكيدة فمختصة بفل الأعداء فإن من ضعف كيده قوي عدوه."[23]
يفسد الملك بتغير الأعوان وبمرور الأزمان والأنسب في هذه الحالة هو قلة الاسترسال الى الدنيا والاتكال على القدر وحسن الظن واعداد العدة وبذل الجهد وملازمة الحذر ودرء المفاسد من عوارض أفعال العباد.
هكذا يجمع العمل السياسي بين الرأي والقوة والحيلة ويؤلف بين أخلاق الذات وأفعال الارادة وبين غرائز الفطرة وفضائل مكتسبة عن طريق التربية والتنشئة وبين السياسة الشرعية الفاضلة والسياسة الواقعية النافعة. على هذا النحو" العمل هو فعل بفكر... وهو الأثر الباقي بعد انقضاء حركة الفاعل"[24]
من هذا المنطلق يجب التمييز في صناعة العمل مثل سياسة الناس بين العمل البيهيمي والعمل الصناعي الذي يحتاج الى معطاة في تعلمه ومعاناة في تصوره والى كد وجد وآلة مهنة ويلزم الانطلاق من الصناعات المشتركة بين الفكر والعمل وبين السيف والقلم وبين صناعة يكون الفكر أغلب والعمل تبعا وصناعة أخرى يكون العمل أغلب والفكر تبعا وبين القلب والذكاء وبين الشرع والعقل.
يحسن برجل الحكم أن يفعل المعروف والبر قبل أن يأمر به وأن يترك المنكر ويستقبحه قبل أن ينهى به غيره وأن يعمل على اصلاح نفسه من أجل اصلاح غيره وألا يأنف من الزام نفسه بالحق واقامة الحجة ويجدر بمن يتقلد أمور الحكم الحذر والاشفاق والاجتهاد ويعد نفسه واحدا من العامة ويستميل قلوبهم بالإنصاف لهم " ويتعهد حال الفقير منهم بالبر والصدقة ويراعي خلة الكريم منهم بالرفد والصلة"[25].
هكذا تبنى السياسة الشرعية العادلة على الرغبة والرهبة والانصاف والانتصاف، وعلى الولاية والتقليد والاكرام والتقريب والاحتراس والتيقظ ، وعلى الحذر من الحاكم ومن الناس واعطاء حقوق الطرفين.
تدعو الرغبة الى التآلف وتبعث على الاشفاق، وتمنع الرهبة الخلاف وتحسم الميل الى الافساد، أما الانصاف فيفصل بين الحق والباطل ويسعف المظلوم ويعاقب الظالم ، في حين يستوفي الانتصاف الحقوق الواجبة ويستخرجها بالأيادي العادلة ن ويعين الحذر على التدبير والاجتهاد في النصح ودفع البلاء.
ان التدبير السياسي هو أهم فعل يقوم به العقل البشري بشرط أن يتم على أصول موضوعة ومع مراعاة لقواعد معلومة وهي العدل والحذر والرعاية وتتبع الراي السديد والقول النافذ والحكمة العملية.
"ان الملك تطول مدته اذا كان فيه أربع خصال: أحداها أن يرضى لرعيته ما يرضاه لنفسه، والثانية أن لا يسرف عملا يخاف عاقبته، والثالثة أن يجعل ولي عهده من ترضاه رعاياه لا من تهواه نفسه، والرابعة أن يفحص عن رعيته فحص المرضعة عن منام رضيعها."[26]
بيد أن" ما يصعب من هذه السياسة الا معرفة الأسباب، فإذا عرفها وقف على الصواب، وان أشكلت عليه التبس عليه الصواب فتاه عن قصده وذهل عن رشده"[27] ، فهل السياسة علم بالضروري أم فن الممكن؟ وما السبيل الى تأسيس المجال السياسي على العلم والمعرفة ويعرف الحكام فضله ويجل أهله؟
خاتمة:
" الدولة رسول القضاء المبرم واذا استبد الملك برأيه عميت عليه المراشد"[28]
غاية المراد أن رجل الحكم في حضارة اقرأ يحتاج الى التحلي بالفضائل المحمودة والابتعاد عن الرذائل المذمومة والى تطلع روحه الى الرفعة والسمو وجسده الى الفعل والبروز والى الابتداء بالعقل والانتهاء بالعدل وجعل الطبع هو الختم والتطبع هو الخلق والاقتراب من التمييز والعفة والمودة والابتعاد عن الحمق والجهل. خلاصة القول أن العمل السياسي في الاسلام يتراوح بين النسبي والمطلق وبين الواقعية والمثالية ويحرص على احترام مقتضيات التدرج والمرحلية والمرونة ولكنه يتمسك بالمبدئية والاخلاص والنزاهة والقسط.
" الامارة والامامة لما كانت تالية لحالها وجب أن تكون مشاكلة لخصالها. فلزم أن ينتدب لها من أنهضته الفضائل حتى تهذب واستقل بحقوقها حتى تدرب ليسوس الرعايا بآلته ويباشر التدبير بصناعته."[29]
كما يجب أن تكون من شيم الحاكم وسجاياه الكرم والمروءة وعلو الهمة والفضل والتواضع عن رفعة والحكمة والشجاعة والحياء والوقار والسكينة والحلم والظرف والنزاهة واعتماد الصدق واجتناب الكذب والايثار على النفس والزهد عند القدرة والانصاف عند القوة والالتزام بالعقود والوفاء بالوعود.
'تجد الثقافة الجديدة في مبدأ التوحيد أساسا لوحدة العالم كله. والاسلام بوصفه دستورا سياسيا ليس الا أداة عملية لجعل هذا المبدأ عاملا حيا في حياة البشر العقلية والوجدانية. فهو يتطلب الطاعة والاخلاص لله، لا للعروش والتيجان,"[30]
غني عن البيان أن الساسة يجب أن تكتمل فيهم محاسن الأفعال ومكارم الأخلاق وأن يدعوا الى الحق ويقوموا الجهل وأن يحدثوا الصلاح في الخلق وأن يحرصوا على تأديب غرائزهم وتهذيب ذواتهم حتى لا تغالبهم أهواء أنفسهم ويستصعب عليم قيادها. وقد جاء في المأثور: "من بدأ بسياسة نفسه أدرك سياسة الناس" ، وكأن المطلوب من الحاكم قبل سياسة الناس هو العناية بالذات بحيازة أفضل الأخلاق واتيان اجمل الأفعال والقيام برياضة الذات وبلوغ الاستقامة في السلوك. عندئذ " ينبغي للملك أن يبتدئ بتقويم نفسه ...فإذا بدأ بسياسة نفسه كان على سياسة غيره أقدر، واذا أهمل مراعاة نفسه كان بإهمال غيره اجدر. فبعيد أن يحدث الصلاح عمن ليس فيه صلاح لأن ضرورة نفسه أمس وهو بتهذيبها أخص."[31]
ان فرط الصرامة وشدة الهيبة والتخويف بالتغاضب وخشية السطوة ليست بالضرورة هي قاعدة الملك وأساس الحكم وانما هي مساءلة المتعدي ورد المظالم ودرء المفاسد وتصفح الذنوب والوقوف على التجاوزات واشكال الطيش وتحديد المسؤوليات وانزال العقوبات والصفح عند المؤاخذة والعدل عند الاستحقاق والمحافظة على الأمانة وكتمان الأسرار والعفة عن المال والسلامة من الخيانة. فتى يعزم الأشرار على تقويم العوج بطول الرهبة وينقاد الأخيار الى صلاح المهج بحسن الرغبة؟
ان الاكتفاء بالمنظومة الفقهية التقليدية والتعامل معها على جهة التقليد والاقتصار على الشرح والتفسير واتباع اسلوب الوعظ والارشاد لا يكفي لإسناد العمل السياسي الذي له مرجعية اسلامية والارتقاء به على مستوى الأفراد والجماعات الى درجة الكفاءة والاتقان والتواصل مع الديمقراطية والحداثة والمدنية.
ان تثوير المنظومة الفقهية والتعويل على فقه المصالح والأوليات والواقع وربط الدين بالحياة والانطلاق من مصالح الناس وحقوقهم هو الكفيل بجعل العمل السياسي الاسلامي يستند على قواعد للعمل راسخة ومتينة وهو السبيل الأنجع نحو النهل من المسارات المستنيرة والدروب الاجتهادية التي يتضمها هذا الدين القيم. لكن كيف يحمل ابن خلدون علوم الفقه مسؤولية اخفاق العلماء في السياسة وابتعادهم عن مذاهبها بقوله: "يطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات. وأيضا يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهي"[32] فهل يدعو الى تخليص السياسة من الفقه حتى تمتلك هذه الصناعة درجة العلمية؟
المراجع:
الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، مطبعة البابلي الحلبي بمصر، الطبعة الثالثة، 1973،
الماوردي، تسهيل النظر وتعجيل الظفر، ذكره عزيز العظمة في الماوردي، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، الطبعة الأولى،2000.
الكندي، رسالة الحدود والرسوم، المصطلح الفلسفي عند العرب، الدار التونسية للنشر، 1991.
الشاطبي، كتاب الاعتصام، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 2003،
عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، تحقيق سعيد محمود عقيل، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 2005.
حسن حنفي، من النص الى الواقع، محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه، مركز الكتاب للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 2004.
مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين، دار الفكر، دمشق، الطبعة الرابعة، 1987،
محمد اقبال، تجديد التفكير الديني في الاسلام، تعريب عباس محمود، دار الجنوب للنشر، تونس، 2006.
كاتب فلسفي
[1] حديث شريف
[2] الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، مطبعة البابلي الحلبي بمصر، الطبعة الثالثة، 1973،ص.3.
[3] عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، تحقيق سعيد محمود عقيل، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 2005. ص.381
[4] عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، ص.382.
[5] الشاطبي، كتاب الاعتصام، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 2003، ص.22.
[6] عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، ص.387.
[7] القرآن الكريم، سورة التوبة، الآية 122.
[8] رضوان السيد، مفاهيم الجماعات في الاسلام، دار المنتخب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1993.ص.106.
[9] حسن حنفي، من النص الى الواقع، محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه، مركز الكتاب للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 2004. ص.22.
[10] الماوردي، تسهيل النظر وتعجيل الظفر، ذكره عزيز العظمة في الماوردي، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، الطبعة الأولى،2000. ص.197.
[11] عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، ص.254.