"لا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع و السياسة كلها، و أن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له و استكانوا إليه، و أن يبنوا قواعد ملكهم و نظام حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية و أمتن ما دلت على أنه خير أصول الحكم" - علي عبد الرازق-
لم يكن الأساس الإبستمولوجي الذي نهض على أكتافه الفكر السياسي في الغرب ينطلق بالفعل في التنظير للسياسة من تحليل الواقع التاريخي كما هو مجسد، و إنما تجاوزه فاسحا المجال و مطلقا العنان للخيال الخصب للتحليق بعيدا حيث البدايات الأولى للتكتلات البشرية، لكن في إطار التفاعل مع الواقع و بحثا عن ضمادات لجرحها النرجسي الذي خلقته النقلة الأنطولوجية من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس سعيا إلى تدارك هذه "النكسة" بتحقيق الحلم بالتمركز حول الذات الغربية، لقد افترضت نظريات في الفكر السياسي الغربي، ستنسلخ فيما بعد عن أفقها القومي الضيق لتحمل دلالات أعمق ذات أبعاد كونية و تستحيل بالتالي إرثا للإنسانية ككل، أن الإنسان في غابر الأزمان عرف ما سمي بحالة الطبيعة أو الحالة الأصلية بتعبير بعض المعاصرين، حيث كان الإنسان يعيش في غياب أي قانون أو التزام على الفطرة بكل ما تحملها من نزوعات و ميولات شريرة كالإفراط في الذاتية و حب السيطرة على الآخر و الاستبداد بالقوة و التسلط، يصف ذلك توماس هوبز في "اللافيتان" أو "التنين العظيم" بقوله : " في هذه الظروف ليس هناك مكان للصناعة لأن الإنتاج غير مضمون، و تبعا لذلك لا استصلاح للأرض، و لا ملاح، و لا بضاعة للتصدير عن طريق البحر، و لا مباني مريحة، و لا معدات للنقل، و لا معرفة لوجه الأرض، و لا اعتبار للوقت، و لا فنون، و لا أدب، و لا مجتمع، و الأسوأ من ذلك كله الخوف المستمر و خطر الموت، و أن الإنسان يعيش العزلة و الفقر و الحاجة و الهمجية"، لم تسر الإنسان هذه الحياة، و سيرنو إلى الترقي نحو الأفضل، و بالفعل مع تطور وعي الإنسان بكينونته و ذاته عبر تاريخ طويل من القطائع مع عادات و ثقافات الماضي و سياساته البدائية استحال هذا الأخير "كائنا سياسيا" نادى بالعقد الاجتماعي و تأسيس كيانات سياسية غايتها حفظ التوازن في المجتمعات الإنسانية، توازن طبقي بالأساس، و القطع مع قانون الغاب حيث الغلبة للأقوى.
و بغض النظر عن الاختلافات بين منظري التعاقد الاجتماعي حول رؤيتهم لتفاصيل هذا العقد، الاختلافات التي ترتبط أساسا بخلفيات التحليل السيكولوجي الذي يقدمه كل مفكر لحالة الإنسان، فإنهم اتفقوا جميعا على ضرورة تخلي الإنسان عن قسط من حريته و تقديمها لممثله الأعلى أي خادم الدولة الذي ليس سوى ممثلا للإرادة الجماعية الحافظ للحريات و القانون، لكن لا من مستند طبيعي فطري و إنما من منطلق اجتماعي مدني، و هذه بالضبط الارهاصات الأولى و الأسس الفلسفية التي ستقوم عليها المجتمعات المدنية و الدول الجمهورية الديموقراطية بتنظير من المفكرين الأوروبيين البارزين كجون لوك و روسو، و الفيلسوف الناقد كانط إيمانويل واحد من ألمع فلاسفة العصر الحديث أو "عتبة الحداثة" كما يصفه البعض، الذي مازلنا نقرأ إلى الآن بصمات و آثار فلسفته في كثير من الجوانب السياسية و العلاقات الدولية يرى أن النظام الجمهوري أرقى الأنظمة السياسية التي توصل إليها الإنسان عبر سيرورته التاريخية نحو تحقيق المطلق بمفهومه الهيغلي المتجلي في التاريخ بتوسط من الإنسان، نظرا لأجواء الحرية التي يفسحها هذا النظام الذي لا شيء يعلو فيه عن مصلحة الشعب، و لاعتبار آخر متمثل في كون الغاية القصوى التي يصبو إليها أيما إنسان من تنظيم الحياة السياسية هي تحقيق السلام الداخلي بين أفراد الشعب الواحد و السلم الخارجي المتعلق بإقامة علاقات مع الأمم قائمة على أسس ودية سلمية، و إذ ذاك فإن تقرير الشعوب لمصيرها و تحديدها للمسار الذي تريد أن تخطه يكون أقرب إلى تحقيق هذه الغاية، و هذا ما لا يمكن أن يكون إلا تحت يافطة الدولة الجمهورية، إن الشعب ينظردائما إلى الصالح العام المشترك بعد طول تفكير و عمق تأمل و أبدا لن يزج بنفسه في معارك ستنهكه نفسيا و اجتماعيا و اقتصاديا، أما في الأنظمة الشمولية، فالديكتاتور على أهبة دائما كما أنه بصدد سكب شربة ماء في فيه أو التخطيط لرحلو لهو للتضحية بشعبه من أجل حفظ عرشه، أو على الأقل للوقوف حجر عثرة نحو انعتاق الشعب منه و معانقته للحرية، و لا يدخر جهدا لقمع شعبه و إخماد ثوراته و شل تحركاته بكل ما أوتي من عتاد و قوة، يقول إيمانويل كانط بكتابه "مشروع السلام الدائم" في وصف أسمى قانون في الدولة الجمهورية، أقصد دستوره : "إن الدستور الجمهوري، فضلا عن صفاء مصدره، من حيث أنه مستمد من المنبع الخالص الذي تنبع منه فكرة الحق، يمتاز بأنه يرينا في الأفق البعيد، النتيجة التي ترنو إليها أبصارنا، أعني السلام الدائم. و إليك تعليل ذلك : إذا كان القرار بأن تقع الحرب و ألا تقع لا يمكن اتخاذه إلا برضاء المواطنين – و هو أمر لا مناص منه في دستور جمهوري- فمن الطبيعي جدا أنه مادام المطلوب منهم أم يحكموا على أنفسهم بمعاناة شرور الحرب و كوارثها، فهم مضطرون إلى أن يترددوا في الأمر و إلى أن يطيلوا التفكير فيه، قبل أن يقدموا على خطوة خطيرة كهذه (…) في حين أن الدستور الذي لا يكون الفرد فيه مواطنا، و بالتالي الدستور الغير الجمهوري، إنما تقرر الحرب فيه بأقل قسط من التدبر و التفكير : لأن ولي الأمر ليس بعضو في الدولة، بل هو مالكها، و لأنه لا يخشى إن وقعت الحرب أن تؤثر في مائدته أو في دور لهوه، أو في حفلات بلاطه الخ، فهو إذن يستطيع أن يقرر الحرب لأوهى الأسباب، كما لو كان يقرر رحلة للهو، و لا يبالي أن يترك مهمة تبريرها للدبلوماسيين من رجاله، و هم دائما على استعداد لذلك" من هنا فالأنظمة الشمولية هي من جهة ملكها امتداد لما يسميه الفلاسفة بـ"الحالة الطبيعية" بكل تمظهراتها الوحشية و الهمجية اللاإنسانية، حيث يظهر بجلاء التفاوت الطبقي و ميل مؤسسة الدولة لطبقة على حساب أخرى في إطار تبادل المصالح و حفظ الامتيازات التي تبقي على الوضع كما هو، و الذي يتأتى لها بسحق قوى التنوير المناضلة و تجميد سيرورة التاريخ و نشر الخرافات التي "ينعم" فيها العقل بإجازة مفتوحة.
كيف نقطع مع سياسة الماضي و نبني الأساس الفكري للتمدن السياسي؟
إننا كعرب نعيش في مجتمعات بدأت تعانق الحرية أو بالأحرى بدأت في تشييد جسر نحو معانقتها و تنسم نسيمها العطر المنعش، و نعرف فراغا في المشاريع السياسية مهولا عطل معه مهمة تسريع وتيرة الإصلاح، نحتاج لاختصار المسافات نحو بناء هياكل سياسية ديموقراطية تتمركز حول مصلحة الشعب إلى الوعي العميق بجذور الاستبداد في منظومتنا السياسية، و هذا ما لا يتم إلا بالانتظام في التراث و الاشتغال به تنقيبا و تمحيصا و نقدا و سبرا، لأنه يشكل المَعلم المرجعي الذي نفكر به و من خلاله، إننا في حاجة إلى استعادة الفكر السياسي الديني الذي يشكل المرجعية و الدعامة للأنظمة التوتاليتارية في العالم الإسلامي لدحضها و استبعادها، بتكثيف الجهود الفكرية التي تنصب في خلخلة ما هو قابع في لاشعورنا السياسي و مخيلتنا و التي تشكل معالم مرجعية في تفكيرنا تحتكم إليها و "تهتدي" بها، بحيث نجتث جذور الاستبداد التي يمارس من خلالها الطاغية العربية هذا الفعل و نزرع بذور الدولة المدنية، دولة الحرية و الدستور الجمهوري و المؤسسات الديموقراطية، و نسقيها بمياه ليست غريبة تماما عما اعتاده الإنسان المسلم، أقصد أننا في حاجة إلى تجديد لنسقنا الفكري السياسي من الداخل، إن المفهوم الذي يؤدي المعنى الذي نقصده هنا بالتجديد من الداخل هو "التأصيل"، تأصيل الديموقراطية بالبحث عن أصل لها داخل تراثنا، و لن يتأتى لنا هذا إلا بردم الفكر القديم الذي عملت الأنظمة الاستبدادية على ترويجه و إبرازه و تقديمه على أنه الفكر الوحيد الأوحد الذي لا بديل لنا عنه، و هذا لا يتم في اعتقادي إلا بتسفيه الآراء التي يستقي منها الاستبداد السياسي أسس الشرعية، و هو إجراء رهين بالانخراط في مشروع تجديد العقل العربي السياسي و إعطاء شحنة جديدة و نفس جديد للمشروع النهضوي بسد الفجوات التي تترك مداخل لانسلات الفكر الرجعي التقليدي ثم الدفع بالنظريات السياسية التي قمعت و أجهضت بمجرد أن رأت النور بقوة السلطان لا البرهان.
إن استحضار محددات الفعل السياسي العربي و تدعيمها بشواهد من التاريخ لخطوة مهمة نحو فهم حقيقة التأخر السياسي الذي يعرفه العالم العربي. فعلا، قد يستنكر البعض خاصة من الحداثيين خطوة عودة القهقري و التنقيب في ذاكرتنا بما يشبه مرضنا بـ"العصاب الجماعي"، بدل الانخراط في المشروع الحداثوي و الدخول في سكته، المشروع الذي يتطلب عدم الالتفات أبدا إلى الوراء بل و لا يرى في الحاضر إلا لحظة منفلتة و متسارعة و ضاغطة يستشرف من خلالها دائما مستقبله، إن التنقيب في التراث حسب هؤلاء ضربة قاصمة للحداثة و نحن في خضم قيامنا بهذا العمل لا نختلف في شيء عن القوى الرجعية الجامدة الموميائية المجترة لما في الكتب الصفراء المتآكلة، غير أن هذا الاعتراض يبدو لي غير وجيه، فالحداثة كثمرة لمخاض تاريخي لم تبنِ قصورها في هواء و خواء، و إنما هي تتويج لعصري النهضة و الأنوار، و الميزة الأساسية لعصر النهضة الأوروبية هي إحياء التراث و المراجعة الشاملة له، ما يعني في آخر المطاف استحضاره، و هي الخطوة التي ستكون بمثابة القوة الدافعة و الباعثة لينابيع التجديد في شرايين المجتمع الأوروبي، من جهة أخرى فإن إعادة قراءة التراث العربي، و الموروث السياسي منه خاصة، تمس قضية الحداثة بالأساس، فاستعادة التراث هي من أجل الحداثة و لخدمتها، و ليس لأجل احتضانه في مشهد رومانسي يطغى فيه الحس العاطفي و تطفو عليه النبرة الوجدانية على حساب العقل و التاريخ، إن تعاملنا مع التراث منصب على مساءلته و استنطاق نصوصه، أي في إقامة جسر للحوار لا في مجرد القيام بعملية اجترار. و جدير بالذكر و نحن هنا نناقش دعاوي الانخارط في الحداثة بشروطها و إملاءاتها هي دون رعاية الخصوصية أو وصاية التراث أن نعي جيدا بأن استبعاد شيء يستوجب كإجراء أولي استحضاره إذ الغائب لا يمكن استبعاده، إننا نستعيد لنستبعد، و التراث حتى إن غُيِِّب و سقطت قيمته المعيارية لفترة ما فإنه مع ذلك يظل مكبوتا، ما يعني إمكانية عودته إن وجد فجوة ليتسرب منها. و من جهة أخرى فإن التراث جزء من ذاكرتنا، و معلوم أن هذه الأخيرة لا يمكن أبدا محوها أو طمسها، إن الذاكرة هي مرآة الذات عبر التاريخ، و طمسها يعني بالضرورة مسخ الذات، و هو إجراء غير ممكن إلا في الحالات المرضية، من هنا فحضور التراث في الحاضر و المستقبل حقيقة حتمية لا مفر منها، و هذه الحقيقة تفرض علينا أن نتعامل مع التراث بانتهازية قصوى و انتقائية ذكية، فلا مناص من التمييز المدقق بيين ما هو حي و محيي و ما هو مي مميت، لا بد من طرد الروح الخوفاشية في تراثنا و الاحتفاظ بما هو "بروميثوسي"، إننا في آخر المطاف في حاجة إلى إحياء نظريات تراثية تنويرية همشت على حساب نظريات أخرى أدت وظائف إيديولوجية تسكينية و تخديرية في المجتمعات الإسلامية التي ظلت رازحة على طول تاريخها تحت أنظمة شمولية ديكتاتورية حكمت و ساست الناس بسياسة العصا و الجزرة.
التجديد من الداخل، استعادة ما هو حي في تراثنا، و استبعاد ما هو مميت محنط بهالة من القداسة، تلك الإشكالية المحورية التي ينبغي أن ينصب عليها اهتمام المفكر الذي يشغله واقع العالم العربي الذي يعرف غليانا و حراكا سياسيا لا مثيل له عبر السيرورة التاريخية العربية، و من وثائق التنوير التي جاءت في مرحلة حرجة من تاريخنا العربي نص الشيخ المفكر علي عبد الرازق "الإسلام و أصول الحكم".
"الإسلام و أصول الحكم".. نموذج للتنوير العربي
من مفارقات التاريخ، أن نكون وراء يقظة العقل الغربي سواء بعد استيلائنا على القسطنطينية التي شكلت لحظة انطلاقة عصر النهضة الغربية، أو بانتقال العلوم العربية إلى الغرب حيث سيطلعون من خلالها على تراثهم اليوناني، سيحدث الشيء نفسه بعد ثلاثة قرون و بالضبط أثناء الحملة الفرنسية على مصر، فقطار الحداثة سيداهمنا في عقر دارنا و يخترق حدودنا و نحن في سبات عميق، ما جعل التمايز و الفارق واضحا بيننا، غرب متقدم ينعم بالديموقراطية و دولة المؤسسات و التطور العلمي و التقني، بينما أنظمة شمولية ديكتاتورية في العالم العربي شعوبها مخنوقة مهضومة الحقوق و تأخر تاريخي على المستوى الفكري و العلمي و التقني، لقد كانت صدمة قوية ألهبت الجرح النرجسي العربي، و هنا سيطفو السؤال الذي يختزل هموم المفكرين العرب، سؤال النهضة بامتياز "لم تقدموا و تأخرنا؟" الذي جاء على لسان شكيب أرسلان، و سيروج خطاب آخر هو خطاب عصر النهضة العربية المعايش لصدمة الحداثة و الواقف على حجم التردي و الانحدار العربي ، صدمة حفزت النخبة المتنورة للحق بالركب و تدارك التأخر التاريخي، لذلك اتسم الخطاب النهضوي بنبرة عقلانية و حس متمدن عال جدا مثلته قوى الإحياء و التجديد في العالم العربي، و ظهر ذلك جليا في خطابات الطهطاوي و الكواكبي و محمد عبده و خير الدين التونسي و علي عبد الرازق و غيرهم. من هنا سيتناول صاحب "الإسلام و أصول الحكم" الموضوع في إطار الإشكالات السياسية التي يعيشها العالم العربي و الإسلامي، هكذا نفهم نزعته النهضوية التنويرية التي ترنو لتشكيل وعي سياسي عربي جديد و يقضة شاملة لا مجرد صحوة عابرة للانتقال إلى المرحلة الموالية المتمثلة في بناء الصرح الديموقراطي في العالم العربي و تأسيس الدولة المدنية.
لقد جاءت الوثيقة التنويرية لعلي عبد الرازق كردة فعل قوية و اعتراض صارم على طموحات بعض الملوك في الدول العربية لإعادة تأسيس نظام الخلافة الإسلامية، و على رأسهم الملك فؤاد الذي كان يصبو لتنصيب نفسه خليفة للمسلمين، لقد استعاد علي عبد الرازق في وعيه التاريخ البائس للخلافة الذي ليس سوى نظاما توتاليتاريا بمقياس إسلامي و طراز عربي، حيث تستجمع جميع السلطات في يد السلطان الحاكم دون أن تقرن المسؤولية بالمحاسبة، فأصدر رائعته "الإسلام و أصول الحكم" كتأسيس نظري فكري لرفض القول بإسلامية الخلافة أو ما يتصل بها من أنظمة شمولية تستلهم نظام الخلافة. قد يبدو من خلال تصفح كتاب علي عبد الرازق أن البحث يتناول موضوع الخلافة بموضوعية و بمنأى عن الإملاءات السياسية و الخلفيات الإيديولوجية التي تؤطر عادة نظرة المفكر، لكن هل يسمح الموضوع المثار بإصدار هذا الحكم الساذج المتسرع؟ بل و لا بأس أن نذهب إلى أبعد من ذلك و نتساءل عن إمكانية وجود فكر مثالي فعلا متعال عن واقعه أو لا يستلهمه على الأقل في تمثلاته المثالية، لعل الأبحاث التاريخانية المعاصرة التي انصبت حول الفكر الإسلامي قد حسمت في هذا السؤال. و أعتقد كذلك أن كتاب "الإسلام و أصول الحكم" الذي أثار أكبر الجدل في مصر جاء تتميما للنقاشات التي دارت بين التيارين السلفي و الليبرالي (محمد عبده و فرح أنطون) في محاولة لجبر ما قد يعتري المقالتين من خلل و نقص، إنها موجهة بخلفيات إيديولوجية مشبعة بالهم النهضوي تروم إضفاء مسحة ليبرالية تحررية على على الفكر السياسي الإسلامي و شرعنة الفكر الليبرالي و بناء أرضية تجعل مفاهيمه و أنساقه الفكرية و أنماطه التفكيرية مقبولة داخل التربة الإسلامية، و قد نكشف عن هذه المطمورات الدفينة التي أطرت فكر علي عبد الرازق في طبيعة اللغة الموظفة التي تتراوح بين الخطاب الفقهي الشرعي الذي يحتكم إلى أصول الاستدلال الإسلامي، و الخطاب الفلسفي الليبرالي حيث نجد في المتن حضور شخصيات من الفكر الغربي الليبرالي كـ"جون لوك" و الانفتاح على الدراسات الاستشراقية التي تدرس "الأنا" من خلال علاقتها بـ "الآخر" (إحالته مثلا على كتابات توماس أرنولد).
الكتاب إذا سينتقد المنظومة السياسية و مرجعياتها و بنيتها المغلقة التي تقف حصنا منيعا يحول دون تطوير الفعل السياسي و تحسين أدائه، و سيورد حشدا من الأدلة الدينية و التاريخية و الاجتماعية للتنصيص على تاريخانية و دنيوية ذلك النظام الشمولي الوحيد الذي عرفه المسلمون، ما يعني بالتالي إمكانية التجديد و هدم الأنظمة السالفة و بناء أخرى جديدة في إطار التفاعل الإيجابي مع مستجدات و تحديات كل عصر، إنها صرخة مدوية لكسر أوثان السياسة بإبعاد الدين و تبرئته من نظام الخلافة الشمولي، فالخلافة و القضاء و غيرها من وظائف الحكم "خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها و لم ينكرها، و لا أمر بها و لا نهى عنها، و إنما تركها لنا لنرجع فيه إلى أحكام العقل و تجارب الأمم و قواعد السياسة" كما يقول، يظهر إذا أن علي عبد الرازق بصدد إحداث "قطيعة إبستمولوجية" مع نسق التفكير و التنظير السياسي السائدة في الماضي، إنه انتقال من محورية النص و التمركز حول صدر التاريخ الإسلامي باعتباره تجربة مثالية لاستمداد أنماط الحكم إلى "العقل" و "تجارب الأمم" باستلهام قواعدهم السياسية، على اعتبار السياسة فعل دنيوي لا يُقَيَّم بالدين و إنما بالعقل، و لعل محاولة علي عبد الرزاق هي الأولى التي تصدر من فقيه أزهري لبناء قاعدة جديدة للحكم تستبعد ذلك الأساس المغلق الضيق الأفق الذي كان يستحضره الفقهاء و تؤسس للدولة المدنية المستندة إلى العقل و التجربة، ما يعني في آخر المطاف القطع مع حق الملوك الإلهي أو ادعاء الأحقية في الحكم بالنظر إلى النسب الشريف أو شيء من هذا القبيل.
لكن السؤال : ما هي الدعامة التي وقف عليها علي عبد الرازق في إصداره لهذا الحكم الجريء؟
جدير بنا و حري أن نشير و لو باقتضاب أن طبيعة خطاب علي عبد الرازق تتسم بموضوعية فائقة تطفح من أسلوبه و أمانة علمية عالية، و من السهل على الباحث أن يستشف هذه الميزة للكاتب، فاقتباساته و إيراده و عرضه لمذهب المخالف بتجرد مطلق دون أي تصرف أو إقحام للذات التي قد تتسبب في العبث بالنصوص و تقويلها ما لم jقل واضحة جدا في المتن، فضلا عن عدم تشويشه على مذهب المخالف، فهو يسلم بمقدماته و يغض الطرف و يتجاوز عن كثير من مقولاته التي تبدو في نظر علي عبد الرازق غير صحيحة و لا مسلم بها، نورد من الأمثلة على ذلك قوله : "لا نريد أن نناقشهم في صحة الأحاديث التي يسوقونها في هذا الباب[ = باب الخلافة]، و قد كان لنا في مناقشتهم في ذلك مجال فسيح،و لكننا نتنازل جدلا إلى افتراض صحتها كلها، ثم لا نناقشهم في المعنى الذي يريده الشارع من كلمات إمامة و بيعة و جماعة.. إلخ" ثم يردف "نتجاوز لهم عن تلك الأبواب من الجدل، نقول إن الأحاديث صحيحة، نقول إن الأئمة و أولي الأمر و نحوهما إذا وردت في لسان الشرع فالمراد به أهل الخلافة و أصحاب الإمامة العظمى و أن البيعة معناها بيعة الخليفة و أن جماعة المسلمين معناها حكومة الخلافة الإسلامية..إلخ"، إن هذا الأسلوب الموضوعي لمما يزيد من مصداقية هذه الوثيقة الإسلامية التنويرية، و هو مغر فعلا بإعارتها الاهتمام الذي تستحق بل و بمواصلة التفكير في الصياغة الفكرية لتسهيل الانتقال الديموقراطي ، بصيغة أخرى لابد من متابعة ما بدأه علي عبد الرازق. لنمض الآن إلى النظر في الفكرة المحورية التي نافح عنها علي عبد الرازق من خلال استنطاق النص.
من أين للخليفة/الملك بكل هذه السلطات؟
يعرض علي عبد الرازق لآراء مناصري الحكم المطلق في الخلافة، فيورد تعريفهم بأنها : "رياسة عامة في أمور الدين و الدنيا نيابة عن النبي (ص)" و هي كما قال ابن خلدون "خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين و سياسة الدنيا به"، إن في هذه التعريفات إشارات قوية إلى جينيالوجيا الاستبداد في الواقع العربي الإسلامي، فالاعتقاد في قداسة الخليفة/الملك نابعة من اعتباره خلفا للنبي (ص) في أمته، و هكذا فكل الثقل الذي تتمتع به شخصية النبي ينتقل إلى من يخلفه، و السلطتان المدنية و الدينية اللتان كانتا للنبي (ص) ستصير في يد الخليفة، لذلك كان له عليهم الولاية التامة، و السلطان الشامل، و واجب شرعي مختوم بخاتم فقهاء البلاط أن يحبوه بالطاعة المطلقة، يأتمروا بأوامره و يتناهوا عما نهى عنه، و مشروعية الملوك لا تستمد من خلافة النبي فقط بل كذلك في اعتباره هبة سماوية لسكان الأرض، إنه ظل الله في أرضه يسوس الناس بسلطانه و يحكمهم بتفويض عن الإله الذي ألقى إليه بمفاتيح الأرض و خزائنه التي إن شاء جعلها قفلا، و إن شاء آتى من يشاء من رحمته و جوده و فضله، و هكذا فرواسب الأنظمة الثيوقراطية كانت حاضرة بقوة في الخطاب السياسي الإسلاموي، و يكفي أن نتأمل في خطب الخلفاء الأمويين و العباسيين بل و حتى العثمانيين كذلك لنستشف هذه المسألة، و خطبة المنصور مشهور في هذا الصدد، يقول علي عبد الرازق في تشخيصه التشريحي لأصول الاستبداد : "و جملة القول إن السلطان خليفة رسول الله (ص) و هو أيضا حمى الله في بلاده، فولايته عامة و مطلقة، كولاية الله تعالى و ولاية رسوله الكريم، و لا غرو حينئذ أن يكون له حق التصرف في رقاب الناس و أموالهم و أبضاعهم"، و هؤلاء المناصرون للحكم المطلق ينطلقون في إصدار أحكامهم هذه و في تفكيرهم و تنظيرهم للسياسة من مرجعية دينية إسلامية، أي من الشرع، و من هنا تسميتهم للمبحث الذي يعنى بفقه السياسة بـ "السياسة الشرعية"، و يجب أن نلاحظ أن المفهوم الوحيد الذي اقترن بالشرعية هو السياسة، دون غيرها من المباحث، و في هذا مجال فسيح للمقال، إذ لاشك أن هذه التسمية تندرج في إطار تسييج السياسة بسياج من القداسة و تحصينها من انخراط العقل في النظر فيها كغيرها من المباحث الدنيوية التي تحتكم إلى العقل و تقيم من خلال مآلاتها و خواتيمها، فسياستهم و خططهم هي الوحيدة التي تتمتع بصفة الشرعية و مادونها باطل و غير مشروع، لكن مادام الأمر كذلك فمن أين استمدت هذه الشرعية السياسة المطلقة شرعيتها؟ هل الدين الذي يحتكمون إليه يوفر لهم هذه الشرعية و هذه الحصانة من خطر العقل؟
يتساء علي عبد الرازق : " قد كان واجبا عليهم إذ أفاضوا على الخليفة بكل تلك القوة و رفعوه إلى ذلك المقام، و حفوه بكل هذا السلطان أن يذكروا لنا مصدر تلك السلطة التي زعموها للخليفة، أنى جاءته؟ و من الذي حباه بها و أفاضها عليه"؟
لن يجد أنصار الحكم المطلق من دليل لا من القرآن و لا من السنة، بل سيلجأون إلى الأصل الثالث من أصول الاستدلال الإسلامي ألا و هو الإجماع، في محاولة لإذابة الاختلافات و قمع الآراء المناهضة للحكم المطلق و اغتيال الحياة السياسية القائمة على أسس النقد و ربط المسؤولية بالمحاسبة، و الغاية كما هو واضح لكل ذي عينين لم تغشهما سحابة هذا الفكر هي ممارسة إرهاب نفسي على المختلف و إظهاره في صورة الشاذ الخارج على جماعة المسلمين كأنه شيطان مارد، بالاضافة إلى قصدهم تكريس ثقافة الرأي الواحد التي لا تؤمن بالحرية المؤدية بداهة إلى التنوع و التعددية، إن الإجماع في السياسة يشير إلى رفض المعارضة السياسية التي تساهم بشكل قوي في تطعيم الحياة السياسية و تغذيتها بأوكسجينها و ضخ دماء في شرايينها التي تتصلب في حالة خلو الحياة السياسة من معارضة قوية واعية بدورها في المجتمع، إن هذا بالفعل سيكون العامل الأساسي في عدم تطوير الفعل السياسي في العالم العربي الإسلامي و انبثاق نظام ديموقراطي، فالفكر السياسي حافظ على البنية الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و عمل على تثبيتها، و لم يكن ثوريا مناهضا يسعى إلى التغيير و الإصلاح، من هنا نفهم قولة البعض : "و من غلبهم بالسيف حتى صار خليفة و سمي أمير المؤمنين لا يحل لأحد يؤمن بالله و اليوم الآخر أن يبيت و لا يراه إماما عليه، برا كان أو فاجرا" و قول آخر ينهل من نفس الأدبيات "الإمامة تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها" و بكل وضوح يقول أحدهم "من اشتدت وطأته وجبت طاعته"، إنه الاستسلام و الرضوخ للأمر الواقع، فالفكر السياسي عمل على شرعنة الواقع و لن نبالغ إذا قلنا أنه نسخة طبق الأصل لكن بنفحة شرعية لطبيعة النظام السياسي السائد. أما التجاؤهم للأقيسة المنطقية و العقل في محاولة لتبرير إضفاء كل تلك القداسة على شخصية الخليفة/الملك فتبدو غير منطقية البتة، إذ دليلهم "العقلي" المتمثل في ضرورة تنصيب خليفة يبدو بعيدا كل البعد عن استشكالاتنا المنصبة حول مصدر سلطات الملك، فنحن لا نعارضهم في ضرورة تنصيب رئيس لكن شرط أن لا يترك دون قيود، لا بد أن يعرف حقوقه و واجباته، بل و يعلم قبل ذلك أنه ممثل الإرادة الجماعية و خادم شعبه و وجوده على العرش رهين بخدمته للصالح العام، أما أن نحبوه بكل تلك الطاعة و لا نعترض لشيء من سياساته فهذا ما لم يتمتع به النبي (ص) نفسه، فهذا الأخير كان يقبل في إطار التطبيق العملي لقيمة الشورى الانتقادات الموجهة إليه و تراجع عن كثير من آرائه في مجال السياسة، إن محاولتهم لتطويع العقل حتى يستقيم مع آرائهم تبدو فاشلة و بائسة، بل إن سحرهم سينقلب عليهم و سينتفض العقل ضد آرائهم الاستبدادية، إننا هنا نتساءل عن قوة و مصدر قوة الملك و لسنا بصدد الحديث عن ضرورة وجود شخص ينوب عن شعبه اختير من قبلهم في إطار الأعراف الديموقراطية المتعارف عليها كونيا، و إذ ذاك فلا شأن لنا و لا دليل لهم بقولة ابن خلدون : "فقد شذ بعض الناس فقال بعدم وجوب هذا النصب رأسا لا بالعقل و لا بالشرع منهم الأصم من المعتزلة و بعض الخوارج و غيرهم"، إنه قياس عقلي مغالط لذر الرماد في العيون و مواصلة احتكار الرأي السياسي و تصفية المعارضة التي تضفي بعض التوازن على الحياة السياسية، فلا يمكن القبول أبدا بالاستبداد و القمع و الديكتاتورية تحت لافتة ضرورة تنصيب إمام، و العقل كمُحَسِّن و مُقَبِّح للأشياء أبدا لن يقرهم على هذا. و هكذا يخلص علي عبد الرازق إلى النتيجة التالية : "إنه لعجب عجيب أن تأخذ بيديك كتاب الله الكريم، و تراجع النظر فيهما بين فاتحته و سورة الناس فترى فيه تصريف كل مثل "ما فرطنا في الكتاب من شيء" ثم لا تجد فيه ذكر تلك الإمامة العامة".
يبقى أن ننظر في الأحاديث الواردة في هذا الباب، صحيح أن ظاهرة الوضع في الحديث تضخمت بشدة خاصة ما يتعلق بالجانب السياسي، فالطرف المستحوذ على السلطة السياسية المستولي على دواليبها حشد كل قواه الفكرية و طاقاته العلمية لتحصين أهدافه و مصالحه في إطار خطة و استراتيجية إيديولوجية ممنهجة عمل على ترسيخها، لكن مع ذلك فالنظر الدقيق و التحليل العميق لهذه الأحاديث قد ينزع عنها طابع الديمومة و الثبات و يثبت تاريخيتها باعتبارها جاءت كحل لوسط ذي خصوصيات معينة، و بالتالي فهي غير متعالية عن واقعها، بل إنما قيلت في إطار جدل مع واقع سيتغير لا محالة، ما يعني تغير الاستراتيجيات السياسية المنهوجة. إن القول بثبات الفعل السياسي يعكس بعمق مطامح الساسة الذين سيطروا على الحركة العلمية في ثبات النمط السياسي السائد و جمود مؤسساته التي لا تحظى بأدنى شرعية شعبية جماهيرية، بل إنما هي مجرد كراكيز خاضغة للمؤسسة الملكية تعمل من خلالها على خنق التفاعل و الديناميكية المميزة للحياة السياسية، يقول علي عبد الرزاق في وصف الحياة السياسية بالأنظمة الشمولية : "ليس للخليفة شريك في ولايته و لا لغيره ولاية على المسلمين، إلا ولاية مستمدة من مقام الخلافة، و بطريق الوكالة على الخليفة، فعمال الدولة الإسلامية و كل من يلي شيئا من أمر المسلمين في دينهم أو دنياهم من وزير أو قاض أو وال أو محتسب أو غيرهم كل أولئك وكلاء للسلطان و نواب عنه، و هو وحده صاحب الرأي في اختيارهم و عزلهم و في إفاضة الولاية عليهم و إعطائهم من السلطة بالقدر الذي يرى و في الحد الذي يختار" ، أي أنه لا وجود لنفحة المعارضة على طول الهرم السياسي الإسلامي، بل إن جميع المؤسسات الشكلية الصورية من وزارة و قضاء و حسبة و غيرهم تنتمي إلى "حزب الملك" إن صح التعبير، و هنا تتدخل مسألة الولاءات كمعيار وحيد في المفاضلة بين الأشخاص و التمييز بينهم، فالقيام على منصب معين رهين بمقدار الولاء الذي تكنه للمؤسسة الملكية.
لنغض الطرف عن هذا و نعود إلى الأحاديث التي تشهرها القوى الظلامية الناكصة في وجه القوى الحية التقدمية، فعلا من الصعب الوقوف على جل تلك الأحاديث نظرا لكثرتها، لكن ثمة مجموعة من المفاهيم ذات المسحة الإسلامية تروج في هذه الأحاديث مثل "الخلافة" و "البيعة" و "طاعة الأمراء" و "الخروج على الحاكم" و غيرها.. إن هذه الأحكام التي تحيط بهذه المفاهيم و تؤطر معناها ليست مطلوبة لذاتها و لا هو لازم تطبيقها، و لا شيء يدل على أنها من شرع الله بالضبط كما أن "عيسى تكلم عن حكومة القياصرة و أمر بأن يعطى ما لقيصر لقيصر، فما كان هذا اعترافا من عيسى بأن الحكومة القيصرية من شرع الله"، بعد ذلك يتطرق علي عبد الرازق إلى مسألة غاية في الأهمية تنم عن عبقريته و قوة بصيرته و عمق استنباطاته، ألا وهي أن طاعة البغاة لا تعني بالضرورة وجوب تفريخ أنظمة باغية استبدادية في العالم الإسلامي حتى نحيطها بأحكامها التي جاءت في نصوص الحديث، و ذلك قياسا على أن احترام و إكرام السائلين ليست دعوة لإيجاد من يمتهن التسول، و لا أن تحرير الأرقاء دليل على رغبة الشرع في إيجاد طبقة مقهورة من الرقيق و العبيد، إنها حاجة اجتماعية أملتها ليس إلا، و هنا تطفو تاريخية نصوص الحديث في السياسة كمجموعة حلول عالجت مجتمعا له معالمه و سماته الخاصة، و هنا نود أن نلفت النظر إلى مسألة مهمة تثبت أن الفهم السلفي التقليدي للنصوص الواردة في مجال السياسة تحتاج إلى إعادة نظر و رؤية أعمق حتى تتجاوز تلك التناقضات و المطبات التي تقع فيها، يتعلق الأمر بخروج الحسين عليه السلام سيد أهل الجنة على يزيد بن معاوية الذي عرف بفسقه، هل الحسين مات ميتة جاهلية و هو المبشر بالجنة بل و المكلل جبينه بشرف سيادة شباب أهل الجنة؟ سؤال كان و لايزال غصة مؤرقة لأنصار الحكم المطلق، بالطبع لم و لن يجدوا له جوابا شافيا سوى ممارسة التزييف التاريخي..
و لأن التظير السياسي في فكرنا العربي لم يكن له أساسا متينا كما تبين من هذه القراءة السريعة، ونموذج السلطة الذي لا تحظى بأي شرعية جماهيرية حقيقية معرض دائما لأن يتهاوى صرحه و تسقط أركانه، فقد مارست الحكومات تضييقا خانقا على الحركة العلمية التي انبثقت في العالم العربي، إن علي عبد الرازق يرى أن حظ العرب من العلوم السياسية و مبادئ الحكم كان أسوأ حظ بالمقارنة مع العلوم الأخرى الدينية و الفلسفية، فعلا لقد قامت حركة واسعة للترجمة، ترجمة كتب اليونان و السريان و مع ذلك فإننا نصطدم بهزالة المباحث السياسية، لقد كان العرب مولعين بأرسطو حتى سموه بالمعلم الأول و مع ذلك فإننا نجد كتابه "السياسة" غائبا من الساحة الفكرية العربية، و كذلك كتاب الجمهورية لأفلاطون، بل يذهب علي عبد الرازق إلى أبعد من ذلك فينفي أن يكون العرب ترجموا كتابا سياسيا أو مارسوا التنظير السياسي خارج البلاط، و علي عبد الرازق و هو المحلل المدقق لا يقف مكتوف الأيدي حيال هذه الظاهرة الغربية و إنما قدم تحليلا سوسيولوجيا واعيا و مهما لعدم اهتمام المسلمين بالعلوم السياسية، أساس هذا التحليل يكمن في قيام الخلافة على أساس القوة الرهيبة، إذ أن ذلك التاج لا يستمد بريقه إلا تحت ظلال السيوف و على أسنة الرماح، و السلطان إن كانت له قوة فمن القوة التي ينتزعها من رعيته، و إن كانت له كرامة و عظمة فهي بحجم العظمة و الكرامة التي تنتزع من الشعب، فضلا عن كون كل الملاذ البدنية و المتع النفسانية و الخيرات الدنيوية موجودة في منصب الملك، فلذلك فهو أعز ما يطلب و أشرف ما تصبو إليه النفس البشرية " ومن هنا نشأ الضغط الملوكي على حرية العلم، و استبداد الملوك بمعاهد التعليم، كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا" كما يقول علي عبد الرازق، فالعلوم السياسية أخطر علم قد يزلزل عرش الملك، لأنه يشرح أصول الحكم و يوعي الشعوب بحقوقهم اتجاه الحكام، و يعرفهم بمساواتهم الطبيعية التي ستؤدي في آخر المطاف إلى ضرورة التناوب الديموقراطي على كراسي الحكم، إذ الطبيعة لم تهب حقوقا لأحد على حساب آخر.
علي سبيل الختام :
كان مخاضا عسيرا ذاك الذي تطلبه ترجمة ما في كتاب "الإسلام و أصول الحكم" للمجدد علي عبد الرازق على أرض الواقع، أو حتى الاقتناع به على المستوى النظري الفكري، إن الكتاب عملت جميع قوى الظلام و الجمود و الحكم المطلق على محاصرته لإجهاض مشروعه التنويري الداعي لتأسيس كيان سياسي يقوم على أسس مدنية عقلية، بعيدا عن هلوسات مفكري البلاط السياسي الذي تعج به كتب الفقه السلطاني، إن الكتاب وثيقة من وثائق التنوير في فكرنا العربي المعاصر، و معلوم أن انبلاج نور الصباح يسبقه عادة ظلام دامس كثيف، و الحامل لشمعة الإصلاح و التنوير لا بد و أن يحترق بشيء من وهج ذلك النور، من هنا فإن علي عبد الرازق سيلقى الكثير من المضايقات في حياته، سيطرد من منصبه و وظيفته بمؤامرة من الملك فؤاد و العلماء المقربين منه و ستسحب شهادته العالمية، و ستوظف الأقلام المأجورة للتشويش على الكتاب بعبارات سفسطائية للحد من الأنوار التي تشع منه، كتابات كحبات الظباب التي تقف ستارا دون رؤية ما تخفيه وراءها، و لا تستند إلا على الشرعية الدينية الزائفة، حيث يرى هؤلاء "المنتقدون" أنهم أولى و أحق لوحدهم للتحدث باسم الله و إصدار أحكام قيمة بعيدة كل البعد عن الموضوعية و العقلانية، لكن أنواره ظلت صامدة متشبعة بروح التحدي إلى أن وجدت ساحات التحرير العربية التي احتضنتها، و هي تهتف بضرورة الحرية و الديموقراطية، بضرورة الدولة المدنية و رمي الأنظمة السابقة المتهالكة في سلة المهملات.
إن الأنظمة الشمولية علامة ناصعة على النفي الذاتي للشعوب، تؤدي إلى ضمور الذات المبدعة و المنتجة، إن تردي الأوضاع السياسية تنعكس آثاره على الوضع الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي و الفكري، حيث تظل هذه المجالات هي الأخرى جامدة و هامدة، لذا فالبحث عن جينيولوجيا الاستبداد الممارس حاجة ملحة تستدعي نشاطا فكريا يمتد وهجه إلى الجماهير الشعبية حتى تكون على وعي بما يمارس عليها من استبداد و ما يحاك ضدها من مؤامرات، و لاشك أن "الدين الرسمي" كما يسميه المجدد الكواكبي يغذي جذور الاستبداد، من هنا ضرورة إعادة النظر في السياسة الدينية الرسمية بروح اجتهادية تستحضر المسؤولية أما الله و الشعب.
مدونة الكاتب:
www.adiltahiri.maktoobblog.com