ألم تر كيف فعل الشباب المصري الواعد برئيسه المخلوع ؟ ألم يجعل كيده في تضليل و جعله ، أمام العالم بأسره ، كعصف مأكول ، رهينة قفص حديدي هو و ابناه و ثلة من أعوانه ؟ رئيس استحق كل هذا الذي جرى له ، لأنه باع البلد و خان الأمانة و تحالف مع العدو و حاصر غزة الأبية وأهلها الشرفاء الطيبين . نعم ، لقد شاهدنا ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر : رئيس دولة عربي من العيار الثقيل في قفص الاتهام إ و عشنا ، بالفعل ، مع الحدث غير المسبوق في تاريخنا السياسي العربي و الإسلامي ، عرسا حقيقيا .
لقد أحدث , بفعل ذلك فينا ، هذا الشعب الشجاع ، هزة نفسية و في عقولنا ، عصفا ذهنيا خلخل كل ثوابتنا و أزاحها عن مركزها ، و تركنا نعيد النظر في مرجعياتنا و أسسنا المعرفية و السياسية . إنه شيء لا يصدق هذا الذي فعله هذا الشعب برئيسه السابق .. فما كان بالأمس القريب مستحيلا أصبح الآن ، شيئا ممكن الحدوث . لكن .. هذه هي الحقيقة و هذا هو الواقع ، و هذه هي قوانين التاريخ التي حاول هذا الرئيس المخلوع و باقي الحكام العرب إلغاءنا بقوة الحديد و النار.
و الآن ، و بعد أن هدأت النفوس و لم تنم على الجنب الذي يريحها بعد ، خوفا على مصير ثورتها ، و حتى لا نتمثل نحن ، هذه المحاكمة التاريخية و كأنها مسلسل عربي مشوق ، و تستبد بوجداننا الأشجان ، و تسيطر علينا تلك النشوة العابرة و تلك النزوة الرخيصة التي تخلقها فينا ، عادة ، فضائياتنا السمعية البصرية عند نهاية كل حلقة من حلقاته ، و في انتظار استكمال أطوار هذه المحاكمة و ما ستخفيه من مفاجئات ، يحق لنا أن نطرح على أنفسنا الأسئلة التالية ، نعتقد أن أجوبتها ستكون ، و لا شك ، مفيدة نستخلص منها العبر و الدروس و هي كالتالي :
أسئلة مهمة ، نعتقد أن أجوبتها ستكون ، و لا شك ، مفيدة نستخلص منها الدروس و العبر .. و مفاد هذه الأجوبة أن هذه الدهشة و هذا الاستغراب و هذا الحقد ، هي كلها تعبير عن غبن سياسي و تاريخي دفينين أحست بهما شعوبنا العربية . غبن سياسي ، لأنه كان يجتم على الناس و يكتم أنفاسها و يطمس العقول النيرة و يزيف الحقائق و يحجب نور الحرية و الانعتاق من ربقة الطغيان و الاستبداد و الظلم و الفساد . وغبن تاريخي ، لأنه كان موروثا ، تناقلته أجيالها ، أبا عن جد .. غبن وضح بالملموس ، أن العرب ، قبل اندلاع هذه الثورات ، قد بنوا، مع كامل الأسف الشديد ، نهضة مزيفة بكل المقاييس .
فالدارس للتاريخ العربي المعاصر سيرى و سيكتشف أن فعاليات التغيير الحقيقية ، التي تقود الشعوب نحو الرقي و التقدم ، كانت لدى العرب جد مغيبة : فالحكام العرب ، و لأسباب أمنية مرتبطة بالحفاظ على مصالحهم الذاتية بدل الحفاظ على المصالح العليا للوطن ، كانوا يحاربون بشتى الطرق كل ما من شأنه أن يساهم في تثبيت نهضة شاملة لشعوبهم . فقد كانوا يدعون أبناء الشعب فريسة الجهل و الأمية ليجعلونهم دائما تحت وصايتهم لتسهيل عملية التحكم فيهم .
و هكذا رأينا كيف قضوا سنين عديدة ينتجون خطابات جوفاء حول التنمية و حول الديمقراطية و حول الإصلاح الاقتصادي و الاجتماعي الشامل و ينشئون و يبنون مجتمعات ليس لها من العصرنة و لا من التحديث إلا الاسم فقط . ألم تكذب البنيات الواقعية للتكوين الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي و الثقافي خطاباتهم تلك ؟ وهل صاغ الإنسان العربي ، في عهودهم البائدة ، العلاقة بين الحداثة و التقليد صياغة عقلانية ولد من خلالها حرارة التفاعل بين هذين الطرفين المتباعدين ليصيرا مندمجين و متكاملين ؟ و هل أرسى إرساء فعليا ، نظام إنتاج لأشكال التحضر يستجيب , بشكل طبيعي ، لمجالاته النفسية و العاطفية و الفكرية و الوجدانية , كما فعل الغرب قبل قرون ؟ إن الإنسان العربي لم يعرف أي شيء من هذا كله في عهد هؤلاء الحكام ، لأن عصرنتهم التي وعدوا بها شعوبهم ، بعيد حركات التحرر الوطني من الاستعمار ، لم تكن سوى عصرنة جوفاء . و حداثتهم سوى حداثة عمياء . فها هو عمران مدنهم ، إذن ، التي شيدوها ، يناطح السحاب و تهيئة مجالها الحضري يضاهي مثيلاتها في الغرب ، و لكنها لا تعدو أن تكون مجرد مظاهر عمرانية خداعة ، لأنها لم تبعث في كينونة الإنسان العربي الحيوية وروح العصر الذي يعيش فيه إ
فالحقائق على أرض الواقع تفضح السياسات التي كان ينهجها الحكام العرب : فلا إصلاح ، في عهدهم ، كان حقيقيا شمل التربية و التعليم , و لا مؤسسات سياسية و اقتصادية و لا بنيات ثقافية حقيقية جعلت همها الأساسي هو بناء الإنسان العربي , و لا استراتيجيات توخت اتخاذ النظرة الشمولية في التعامل مع قضايا و اشكاليات حضارية مصيرية كالتبعية و التخلف و التنمية مثلا و لا حكامات رشيدة أعادت هيكلة البنيات الأساسية للمجتمع , و لا رؤى استشرافية للمستقبل تفادت الأزمات الاقتصادية و الاجتماعية و القيمية و النكسات و النكبات التي تعاني من تبعاتها الآن كل الدول العربية .
حكام ساديون كتبوا بدم شعوبهم سيناريوهات مسرحية مغرقة بدراما رهيبة ، و بنوا مجدهم السياسي على حساب أمجاد شعوبهم ، إذ جعلوا الناس يعتقدون ، لسنين طويلة ، أن الأمية و الفقر و الجهل و انتشار المحسوبية و العلاقات الزبونية ،هي أقدار ربانية لا قدرة لأحد من البشر على تغيير مسارها ، أو حتميات ميتافيزيقية لا مفر منها . فقد كانوا يقومون بذلك تيسيرا لاستقرار أنظمة حكمهم و نهبا لثروات البلاد و مدخراتها و تضخيما لأرصدتهم في البنوك . حكام يرون في الطغيان و الاستبداد عنصرا ثبات لعروشهم . و قد جندوا ، من أجل ذلك مجرمين و قتلة من أصحاب السوابق و سماسرة و تجار مخدرات . و جندوا كذلك حتى المثقفين و الفنانين ليحاربوا كل فكر سليم و كل رأي سديد . و حولوا الكل إلى " بلطجية " ليعيتوا في الأرض فسادا , و ينشروا في صفوف الشباب الأضاليل و الأكاذيب و يقذفوا في شرايينه السموم .فلا غرابة إذا رأينا هذا الشعب العربي الواحد قد انتفض و ثار على حكامه ، فقد كان يحس بغربة وجودية عن هذا الإنتاج الحضاري الذي أنتجه .
لكن ، و بفضل هذه النخبة المتعلمة من الشباب ، التي لم ترضخ لأباطيل الحكام و لم تستسلم لديماغوجيباتهم ، استطاع هذا الشعب أن يسترد حريته و أن يسترجع ، بالتالي ، روح ذاك ا الإنتاج الحضاري المسلوب منه . شباب عولت و راهنت عليه الشعوب العربية في كسب رهان التحدي و مواجهة الاستبداد بسلاح العلم و المعرفة ، فكان في مستوى التطلعات . شباب واعد قد استجاب لنداء القدر و كسر جدار الخوف و استرجع ثقته بنفسه ، و تيقن ، أخيرا ، أن بمقدوره ، دائما و أبدا ، أن يهزم الظلم و أن يدوس بقدم العزم الطغيان ، و أن يتحكم في مصيره الذي كان تحت رحمة حكامه ، يغير في مجراه كيف يشاء و وقت ما يشاء . و تيقن أيضا أن بمقدوره أن يمارس السيادة المطلقة على واقعه بالشكل الذي يرضيه ، بعدما كانت الغيبيات تحجبه عنه , فلا يرى الأمور كيف تمشي على حقيقتها.
و بفضل الثورات العربية ، رأينا كيف استوعبت الشعوب العربية : التونسي و المصري و الليبي و اليمني و السوري و البقية آتية ، هذا الدرس التاريخي الذي يقول أن لا شيء يعلو على التاريخ و قوانينه . فقد كانت , بالأمس القريب هذه الشعوب مسكينة مغلوبة على أمرها ، و الآن أصبحت في شكل جديد ، إذ لم تعد تشكل الظواهر السياسية أو الاقتصادية أو التاريخية، بالنسبة لها ، سيفا مسلطا على رقبتها أو قدرا حتميا يكرس طبيعة الأمور التي كانت قد وسمت شخصيتها ، منذ قرون خلت ، بسمة الخنوع و الذل و طبعت ذهنيتها بطابع الخمول والكسل و التواكل و الاتكال على قوى خفية في تغيير أوضاعها الحياتية .
فّإذا كان بن علي و حسني مبارك و القذافي و علي عبد الله صالح و الأسد ( و البقية تأتي ) ، إذا كانوا طغاة متجبرين ، فإن سيف القدر المسلول كان لهم بالمرصاد ، فلما حانت ساعتهم و دق القدر ناقوس الخطر مرات و مرات , أجهز عليهم و قطع دابرهم و أفناهم عن آخرهم