المواطنة مفهوم غربي المنشأ، تعكس جذوره التطور التاريخي والاجتماعي الغربي. وقد اكتسب هذا المفهوم معان مختلفة نظرا لارتباطه بتطور الجماعة السياسية في الغرب والتشكيلات الاجتماعية داخلها، بدءا من مجتمع " المدينة " اليونانية. ولهذا يعتبر الفكر الليبرالي الغربي من أكثر الاتجاهات إسهاما وإثراء في دراسة مفهوم المواطنة ( 1).
ينظر إلى المواطنة على أنها نسق من الحقوق المضمونة دستوريا، بمعنى أنها علاقة قانونية بين الفرد والدولة تقوم على مجموعة من الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي ينبغي للدولة أن تضمنها للمواطنين جميعا على قدم المساواة، يقابل هذه الالتزامات واجبات يجب على المواطنين الوفاء بها.
هكذا، كما تعني المواطنة ضمان الحقوق، فهي تعني أيضا الالتزام بالواجبات تجاه الوطن. فالمواطنة هي أساس عملية الاندماج الوطني، وتمثل حجر الزاوية في الدولة الوطنية الحديثة التي تشكل الإطار القانوني والسياسي الذي تمارس فيه حقوق المواطنة وواجباتها.
التحديد الدستوري للمواطنة :
يلعب الدستور في الدولة الحديثة دورا أساسيا في تحقيق مجتمع المواطنة، بقدر ما يتعرض لحقوق المواطنين وواجباتهم.بحيث يمكن القول بأن كل دساتير العالم تقريبا تنص على هذه الحقوق والواجبات . غير أن مجرد إدراج مصطلح " المواطن " في الدستور، لا يعني تبني الدولة لفلسفة المواطنة بكل أبعادها ومضامينها ومتطلباتها، إذا في كثير من الحالات لا يتعدى التنصيص الدستوري على المواطنية مستوى التمويه. (2) .
المواطنة والديمقراطية :
لا يمكن ممارسة الديمقراطية دون تأصيل وغرس قيم المواطنة. " فالمواطنة هي السبيل لممارسة سيادة القانون والمساواة أمامه لممارسة حد أدنى من الحقوق " ومن هنا فإن المواطنة هي القاعدة التي ينطلق منها للمطالبة بالديمقراطية. فلا مواطنة حقيقية بدون الديمقراطية التي هي بمثابة مرتكز للمواطنة، حيث المساواة والحرية والعدالة دون تمييز، مع ضمان حق المشاركة السياسية للجميع دون إقصاء (3).
التوظيف السياسوي للمواطنة :
إن التوظيف السياسوي للمواطنة يفرغها من محتواها، بحيث نجد مثلا أن معظم دول العالم الثالث تتظاهر وتدعي بكونها تكفل حقوق مواطنيها، علما أنها لا تحترم أبسط حقوق الإنسان، رغم أنها تنص على هذه الحقوق ضمن وثائقها الدستورية، وذلك فقط من أجل نيل رضى متخذي القرار على الصعيد الدولي (4)
المواطنة بين الخطاب والواقع المعاش:
إن ممارسة مبدأ المواطنة على أرض الواقع يستوجب توفير حد أدنى من الحقوق الأساسية للمواطن، حتى يصبح للمواطنة معنى. إذ لا معنى لوجود حقوق اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية على الورق، لا يتوفر الحد الأدنى من ضمانات ممارستها على أرض الواقع. ( 5)
فالمشكل لا يتمثل في غياب نصوص دستورية أو قانونية تضمن حقوق الإنسان، بل المشكل يتجلى في عدم تطبيق هذه النصوص في الواقع، بحيث تبقى هذه النصوص جامدة، بل تفقد معناها، إذ لم تطبق وتتحول إلى قاعدة يستند إليها الأفراد في حياتهم العملية (6 ).
أية مواطنة في ظل الأوضاع المزرية ؟
لا شك أن الفقر يعد من كوابح المواطنة، لأن من لا يجد قوت يومه، يصعب عليه أن يطالب بحرية التعبير وبقية حقوقه السياسية، باعتبار أن تفكيره واهتمامه ينصرفان بالدرجة الأولى إلى توفير لقمة العيش (7).
إن الفقر وإكراهات الحياة المعيشية يمثلان عائقا من عوائق الديمقراطية بشكل عام، ومن عوائق المواطنة بشكل خاص، ذلك أن الفقير ينشغل بتوفير الخبز له ولأهله، قبل أن يمارس حق الانتخاب أو الاقتراع أو يشارك في تظاهرة أو ينضم إلى حزب سياسي أو ينشط داخل جمعية....إلخ. وبالتالي فإن الفقر قد يدفع الأفراد إلى التنازل عن حقوقهم كمواطنين (8).
فالإفقار والتهميش وعدم إشباع الحاجات الأساسية للأفراد، يرسخ لديهم الإحساس باللاعدالة واللامساواة، الشيء الذي يؤثر بشكل أو بآخر، على مدى إحساسهم بالانتماء للوطن، ويضعف لديهم الشعور بالمواطنة بما لها من حقوق وما عليها من واجبات.
التربية على المواطنة :
تجد التربية على المواطنة مبررها في كون المؤسسات التعليمية، تبقى الوسيلة الأكثر نجاعة للحفاظ على قيم المجتمع وتلاحمه (9).
فالمؤسسات التعليمية تأتي في مقدمة الوسائط التربوية – لاسيما في مراحل التنشئة الأولى – من خلال المقررات الدراسية والأنشطة المدرسية...الخ، التي يمكن من خلالها إكساب الأفراد قيم المواطنة ( قيم الحوار، التسامح، العقلانية، الحقوق، الواجبات....) .
لقد وقع تحول في وظيفة المدرسة، إذ لم نعد تهتم فقط بنقل المهارات والمعارف من جيل لآخر، بل تهتم إضافة إلى وظيفتها التقليدية ( أي نقل المعارف ) بتكوين مواطنين مسؤولين، يطالبون بحقوقهم ويؤدون واجباتهم، ويشاركون في تنمية مجتمعهم ويدافعون عن المصلحة العامة لمجتمعهم (10).
ومن هنا يجب على المناهج التعليمية أن تهتم منذ مراحل التنشئة الأولى التعريف بالمواطنة، أي ماهي الحقوق والواجبات التي على المواطن الالتزام بها تجاه وطنه.
ولا يمكن حصر التربية على المواطنة في شكل مادة دراسية فحسب، بل هي أكثر من ذلك، فهي نهج ينبغي تطبيقه على صعيد كل المواد الدراسية، وذلك من خلال تعليم الناشئة القدرة على التعليل والمناقشة والحوار واحترام الآخر، وتمكينها من معرفة المبادئ الأساسية للقانون، ومعرفة ثقافة المجتمع ونظامه ومؤسساته، وكذا تدريبها على التفكير في حل مشاكل المجتمع والبحث عن السبل الناجعة لتنميته وتطويره عبر المشاركة في مختلف أبعادها الاجتماعية والسياسية. لهذا ينبغي للمؤسسات التربوية إشراك التلاميذ في تدبير الشؤون اليومية للمدرسة والممارسة الفعلية لحقوقهم وواجباتهم، في إطار احترام القانون، حتى يتدربوا على قيم المشاركة منذ نعومة أظافرهم (11).
أي دور للمؤسسات التربوية في الحد من العلل الاجتماعية ؟
لا شك أن الحياة السياسية في المغرب تعاني من بعض الظواهر والعلل الاجتماعية التي تحول دون التحديث السياسي الحقيقي ( الرشوة، المحسوبية، الزبونية ، نهب المال العام ، الارتزاق السياسي ، الفساد السياسي بمختلف أشكاله ، تزوير الانتخابات ....الخ ) ولتجاوز هذه الظواهر والعلل الاجتماعية يمكن التعويل على المؤسسات التربوية وخاصة المدرسة، لأنها تبقى الوسيلة الأنجع لترسيخ قيم المواطنة الإيجابية والمسؤولة (12)
إن رهانات المدرسة المغربية اليوم، هي السعي – ولو على المدى البعيد – إلى تخليق الحياة السياسية، بتكوين مواطنين يبتعدون كل البعد عن كل أشكال التقصير تجاه الوطن، بحيث يهتمون بالمصلحة العامة لوطنهم، ويشاركون بفعالية في تسيير الشأن العام لبلدهم. ولإدراك مجتمع المواطنة هذا، ينبغي التخلي – كما سبقت الإشارة – عن الطرق التي تختزل دور المدرسة في جعل التلميذ يحفظ موادا دراسية بغية اجتياز الامتحان (13 )
فليس هناك أشد خطرا على المجتمع، من أن يظل أفراده متفرجين أو على الأقل في حالة انتظارية، أمام المشاكل والتحديات التي تواجهه، ولا سبيل لتجاوز هذه الإشكالات إلا بتغذية روح المواطنة الإيجابية والمسؤولة، وتشريب قيمها للناشئة منذ الصغر. هكذا يمكن للمدرسة أن تلعب دورا رائدا في تصحيح الاختلالات التي يعاني منها المجتمع.(14 ).
ضرورة تظافر الجهود لإدراك مجتمع المواطنة :
فالتربية على المواطنة لا ينبغي حصرها في البيئات المدرسية فحسب، بل ينبغي تظافر كافة المؤسسات التي لها صلة بالموضوع، فالبيئة العائلية والمحيط الاجتماعي والمحيط المهني ومختلف وسائل الإعلام، كلها وسائط تلعب دورا كبيرا في التربية على المواطنة، سواء قبل المدرسة أو موازاة معها أو بعدها. ولا ريب أن الدولة بوسائلها الخاصة يمكنها النفاذ إلى هذه الوسائط والتأثير فيها - خاصة وسائل الإعلام المرئية والمسموعة – لتعزيز التربية على قيم المواطنة. (15).
إن التعاون والتواصل والتنسيق بين أداء وأدوار المؤسسات التربوية سواء كانت تعليمية أو إعلامية أو وثائقية، ضرورة لا مناص منها لإدراك مجتمع المواطنة. فتلقين قيم المواطنة يجب أن يكون مسؤولية مختلف المؤسسات التي يمر بها الفرد، بدءا بالأسرة ومرورا بالروض والمدرسة والجمعية والحزب والنقابة والإدارة والمصنع ....الخ .
إن إكساب وتدعيم قيم المواطنة، لا يتحقق بجهد مؤسسة اجتماعية أو تربوية واحدة، بل لا بد من تظافر جهود مختلف المؤسسات المعنية بالتربية، تبعا لأهداف محددة وواضحة، ووفق توزيع منظم للأدوار والخطوات والمراحل والإجراءات التي ترسخ وتكرس هذه القيم.(16) .
هل هناك نموذج جاهز للتربية على المواطنة ؟
تشكل التربية على المواطنة إشكالا دائما، يتعين على كل دولة أن تعالجها حسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتاريخية التي تعيشها، فالدولة التي نجحت في تغليب الانتماء الوطني لدى أفرادها وترسيخ الولاء لها في نفوسهم، لا تواجه نفس الصعوبة في معالجة مشكلة التربية على المواطنة، مقارنة بالدولة الضعيفة والممزقة نتيجة تعدد الانتماءات والولاءات وتناقضها بين أفرادها (17) .
التربية الوطنية والتربية على المواطنة:
فالتربية الوطنية – كما يرى أحد الباحثين – تعني بتنمية الشعور الوطني وحب الوطن والاعتزاز به، وبتغذية الولاء الوطني في نفوس الأفراد بغض النظر عن تمتعهم بحقوقهم، في حين تهدف التربية على المواطنة إلى تنشئة الأفراد من حيث هم أعضاء في دولة وطنية، على نسق من الحقوق والواجبات (18).
التربية المدنية والتربية على المواطنة :
إذا كانت التربية المدنية تهتم بالشروط والقواعد التي تنظم وتحكم التعامل الحر فيما بين المواطنين أنفسهم، فإن التربية على المواطنة تسعى إلى تنظيم العلاقة المتبادلة بين المواطنين والدولة. فالحياة المدنية بشكل عام، هي الحياة التي تقوم على العفوية بدون نظام سلطة محدد بين أفراد المجتمع، كما يرى الباحث ناصيف نصار.
التربية على المواطنة والتربية السياسية:
هناك من يعتبر أن التربية على المواطنة أكثر ارتباطا بالسياسة من غيرها، لأنها من بدايتها إلى نهايتها سياسية، وحجتهم في ذلك أن الدولة عندما تطرح مادة التربية على المواطنة في نظامها التربوي – سواء المدرسي أو غير المدرسي – فهي ترسم صورة لنفسها ( نظامها السياسي، مؤسساتها الدستورية...الخ ) وتصورا لما تعنيه بالعلاقة بينها وبين أعضائها (19).
صعوبات التربية على المواطنة :
إن التربية على المواطنة عملية صعبة ومتواصلة – كما يرى الباحث ناصيف نصار – بحيث ينبغي السعي باستمرار إلى تكوين المواطن وتنمية وعيه بنظام حقوقه وواجباته وتطوير مستوى مشاركته في حياة الجماعة التي ينتمي إليها(20).
كما أن وضع منهاج خاص للتربية على المواطنة ليس بالأمر الهين، إذ يتطلب اختيارا دقيقا وترتيبا ملائما للعناصر التي ينبغي أن تدخل فيه. فما هي المفاهيم التي ينبغي طرحها في المرحلة الابتدائية ؟ وفي المرحلة المتوسطة ؟ وفي المرحلة الثانوية ؟ كيف يتطور الوعي السياسي لدى التلميذ ؟ متى يصبح مؤهلا لإدراك مفهوم الدولة أو مفهوم النظام السياسي والمؤسسات الدستورية ، أو مفهوم الحق ومفهوم الواجب ؟
غير أن المنهاج التربوي مهما كان جيدا، لا يكفي لبلوغ الغاية المتوخاة منه، إذ بقدر ما يهم التربية أن يكون المنهج جيدا، ينبغي أن يكون المربي أيضا جيدا، والمقرر الدراسي جيدا والبيئة المدرسية جيدة. فهذه العناصر جميعها مهمة لأن أهداف التربية على المواطنة قد لا تحقق نتيجة الخلل الذي قد يصيب أي من العناصر المشار إليها سالفا (21).
خاتمة :
" من لا يهتم بالشأن السياسي ليس مواطنا صالحا وإنما هو مواطن عديم الجدوى " كان هذا قول القائد الأثيني بيركليس الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، إذ لم يكن كافيا الانتماء إلى أتينا ليصبح الفرد مواطنا صالحا، بل لا بد من المشاركة في صنع القرار الذي يهم دولة المدينة. فالاهتمام بالشأن السياسي، لم يكن المقصود به الصراع على السلطة، بل المشاركة في الشأن العام بدل الانطواء على الذات والاهتمام بالشأن الخاص (22).
الهوامش:
1- لطيفة ابراهيم خضر، الديمقراطية بين الحقيقة والوهم، عام الكتب، القاهرة، الطبعة الأولى 2006، ص 168.
2 - ناصيف نصار، في التربية والسياسة: متى يصير الفرد في الدول العربية مواطنا ؟ ، دار الطليعة، لبنان، بيروت، الطبعة الثانية، ماي 2005 ص 68 – 69
3 - لطيفة ابراهيم خضر ، مرجع سابق ص 171 -172
4 - مصطفى محسن ،إشكالية التربية على المواطنة وحقوق الإنسان بين الفضاء المؤسسي والمحيط الاجتماعي ، مجلة عالم التربية – عدد 15/ 2004 ، مطبعة النجاح الجديدة ، الدار البيضاء 2004 ، ص 248
5 - علي خليفة الكواري ، المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية ، مركز دراسات الوحدة العربية ، الطبعة الأولى ، بيروت ،دجنبر 2001 ص : 39
6 - نفس المرجع، ص 233
7 - نفس المرجع ص 241
8 - نفس المرجع ص 252
9 - بحث لمجموعة من الطلبة تحت إشراف مصطفى محسن، مجلة عالم التربية، مرجع سابق ص 412
10 - لحسن بوتكلاي ، مجلة عالم التربية، مرجع سابق ص 323
11 - مجلة عالم التربية، مرجع سابق ص:414
12 - لحسن توبي، أية كفاية لمواطنة مدرسية ؟ مجلة عالم التربية، مرجع سابق ص: 322.
13 - نفس المرجع، نفس الصفحة.
14 – محمد زين الين ، مجتمع المواطنة ، مجلة فكر ونقد، السنة الثامنة – العدد 77 مارس 2006 ص:11
15 - ناصيف نصار، في التربية والسياسة: متى يصير الفرد في الدول العربية مواطنا ؟ مرجع سابق ص 65.
16 - عبد الله المجيدل ، التربية المدنية : مدخل للارتقاء ببنية العلاقة بين الأسرة والمدرسة ، المجلة التربوية عدد 59 المجلد 15 ربيع 2001 ، منشورات مجلس النشر العلمي ، جامعة الكويت ص : 51 .
17 - ناصيف نصار، في التربية والسياسة: متى يصير الفرد في الدول العربية مواطنا ؟ مرجع سابق ص 58 .
18 – نفس المرجع ص17
19 – نفس المرجع ص 67
20 – نفس المرجع ص 21.
21 - نفس المرجع، ص 63 – 64
22 - منصف المرزوقي، هل نحن أهل للديمقراطية ؟ ، الأهالي للنشر