"ليس المهم ما نؤمن به ، وانما هو الكيفية التي نؤمن بها " (كيركجارد)
الداعشية هي فكر قبل ان تكون ولاء لتنظيم معين والمحاربة ضمن جنده . فالذهنية هي رحم السلوكات والتصرفات ، والافكار والمعتقدات هي ما يشكل تمثلات الافراد للاشياء والحياة و التي تتحول بدورها الى محركات لإنتاج القيم والمواقف . الانسان هو منتوج للثقافة المسيطرة ،سواء عن وعي او عن غير وعي، خاصة ان كانت هذه الثقافة تفتقد الى آليات التفكير النقدي و تساهم في بناء العوائق الابستمولوجية لتملك الفرد لحرية الفكر والابداع .الثقافة المسيطرة في الخطاب الديني في اغلب البلدان الاسلامية ، تساهم بشكل محوري في انتاج الذهنية الداعشية . فلو قارنا الخطاب الديني المهيمن في الثقافة الاسلامية مع ما يروج له تنظيم داعش وما يمارسه ، سوف نجد العديد من النقط المشتركة الاساسية :
1- الحاكمية : النموذج الذي يسوقه الخطاب الديني السائد هو الحكم بالشريعة الاسلامية اي الاعتماد على الشرعية الدينية في الحكم و آلياتها بدل اليات الحكم الحديثة الوضعية من ديمقراطية و حقوق وواجبات وهذا ما تجتهد في تطبيقه داعش في "الامارات " التي سيطرت عليها؛
2- مفهوم الجهاد : يعتبر الاعتقاد بوجوب محاربة الكفار والجهاد ضدهم وفتح البلدان لتطبيق الشريعة الاسلامية ، هو النواة الاساسية لمفهوم الجهاد في الخطاب الديني و هو بالضبط ما تمارسه داعش . الاختلاف فقط يكون ، ان وجد ، في الدرجة وليس النوع ، اي إضافة شرط ان الامر يكون من طرف اولي الامر ( داعش لديها ايضا ولي امرها و بويع من طرف رعاياها ) او الاتيان يأيات جهاد الدفاع وليس الطلب ( حتى في هذا، تجد داعش تبريرا له بانها تدافع عن اراضيها و الهاجمين عليها من دول كافرة ) ؛
3- العلاقة مع الآخر المختلف دينيا : يعلمنا الخطاب الديني السائد ان علاقتنا "بالكافر" اما ان يسلم او يدفع الجزية او يقتل ، وهذا المشهد ليس غريبا عن ممارسات داعش التي تتحفنا يوميا بصور بشعة لتطبيقات هذه العلاقة ؛
4- اعراف الحروب : تخبرنا كتب التراث عن ممارسات المسلمين في الحروب التي خاضوها والتي تتمثل في ارهاب العدو والوحشية في ذلك و سبي نسائه واستعبادهن واعتبارهن جزء من الغنائم المتحصل عليها في الحرب، وهذا مايؤكده ايضا الخطاب الديني السائد وممارسات داعش البربرية؛
5- الموقف من المرأة : اعتبار المرأة ناقصة عقل ودين و عورة ومصدر للفتنة وآلة لانتاج النسل هو تصور مركزي يطغى على الخطاب الديني السائد و أدبياته .وبالتالي يجب تغطيتها لتفادي هذه الفتنة ( بعض النقاش يكون حول كمية الثوب التي تغطى به )واعتبارها قاصر يجب الوصاية عليها وعدم تمتعها بحقوقها كاملة نتيجة هذا القصور ؛
6- تطبيق الحدود في بلاد الاسلام : يرى الخطاب الديني المسيطر في الحدود تطبيقا للشريعة الاسلامية ،الا انه ممكن يطرح في بعض الاحيان الشرط الزمني للتطبيق لكنه يتفق مع المبدأ في حد ذاته. تقوم داعش في المناطق المسيطرعليها بتطبيق الحدود و الرجم و مختلف العقوبات الموجودة في هذا الخطاب .
هذه مجرد امثلة توضيحية وممكن الاتيان بغيرها ، والتي تبين بالملموس اننا امام خطاب ديني سائد يساهم في انتاج " دواعش " مع وقف التنفيذ ، دواعش فكرية ربما لاتملك الجراة فقط للتطبيق ، او في احسن الاحوال انسان يعيش وجودا سكيزوفرينيا بين خطاب ديني سائد داعشي ينتمي للماضي و واقع حديث معقد ومتطور . فالمسلم الخاضع للخطاب الديني المهيمن يعيش قلقا وجوديا و مازقا معرفيا بين خطاب عتيق ينتمي الى العصور الوسطى من جهة ، وواقعا بمستجداته و تعقداته تجاوز هذا الخطاب من جهة اخرى. حيث اصبح لزاما لتملك هذا الواقع معرفيا و القدرة على التكيف معه ، ابداع خطابا جديدا يتصالح مع التطورات التي عرفتها الانسانية في جميع الابعاد علميا و سياسيا واقتصاديا وقيميا....عبر ثورة فكرية بمثابة انقلاب ثقافي على مختلف المعابد الذهنية السائدة من مناهج فكرية و اجهزة مفاهيمية والبنيات العلائقية مع الذات و الآخر المختلف و عالم الاشياء.
إن هذه الثورة ليست بالشيء الهين ، فهي ستمس مجموعة من التصورات التي اصبحت مع الوقت متجذرة في الثقافة الدينية السائدة لدرجة انها تحولت كجزء من العقيدة وليست مجرد اجتهادات ممكن ان تصيب او تخطا كأي تجربة بشرية .هذا الانتماء الغير الشرعي حولها من منطق المعرفة البشرية النسبي الى منطق العقيدة الايماني الثابت . وهنا تكمن الخطورة ، لان منطقي الاعتقاد والمعرفة مختلفين "الاول حدسي لاواعي تولده بعض الاسباب المستقلة عن ارادتنا ،و الثاني يمثل تحصيلا واعيا تبنيه طرائق علمية مثل التجربة والملاحظة "(غوستاف لوبون ، الاراء والمعتقدات: نشوؤها وتطورها). فتتحول الاجتهادات البشرية السائد ة في الخطاب الديني الى اصنام مقدسة تصيب كل من يمس بها باللعنة و التكفير والشيطنة . هذه اللعنة هي التي اصابت جل المنادين بالاصلاح الديني القدماء والحديثين و تم اقصائهم من المساهمة في تاريخ الخطاب الديني و حوصر الفكر التنويري و اصبح قربانا يذبح بشكل بشع من طرف الدعاة و تجار الدين و التخلف .
الثورة الفكرية المنشودة هي اعادة تاسيس لخطاب ديني عقلاني متصالح مع عصره و متكيف مع الشرط الزمكاني للمؤمن ويساعده على القدرة على تسهيل حياته و الاندماج الحضاري الانساني . وامامها تحديات رئيسية لعل اهما مايلي :
1- العلاقة مع الله : يمكن الاستفادة من التجارب الصوفية في هذا المجال ، لتصبح علاقة المؤمن بالهه هي علاقة يغلب عليها " الحب " كما قال ابن العربي :
" لقد كنت قبل اليوم انكر صاحبي ان لم يكن ديني الى دينه داني
وقد صار قلبي قابلا كل ملة فمرعى لغزلان و دين لرهبان
ومعبد اوثان و كعبة طائف و الواح ثوراة و مصحف قرآن
ادين بدين الحب انى توهت ركائبه فالحب ديني و ايماني ..... "
ينتفي في هذه العلاقة طابع الوساطة بين الفرد وربه والذي يستغلها الحكام وتجار الدين و الخلايا الارهابية لتحقيق اهدافهم . انتفاء هذه الوساطة هو المبدأ الاساسي الذي يحطم مفهوم الكهنوت في الاسلام وليس الترديد الببغاوي انه " ليس في الاسلام كهنوت "؛
2- الاعتقاد مسالة شخصية : حيث يتحول الاعتقاد الى مسالة شخصية ، فهي علاقة الفرد بربه و تنتمي الى مجاله الخاص. وانتفاء الوساطة كما تطرقنا اليها سابقا يجعل من الاعتقاد والايمان مسالة فردية للمؤمن لا يحق للدولة او المجتمع ان يتدخل فيها ؛
3- عدم مطابقة الحقيقة الفردية بالحقيقة الموضوعية : اعتبار الاعتقاد هو اجتهاد فردي للدين وهو نسبي قابل للتطور و لايجب اسقاطه على الآخر المختلف و لا على المحيط باعتباره الحقيقة المطلقة ؛
4- التعامل التاريخي مع التراث : مقاربة التراث باستحضار الشروط التاريخية والاجتماعية المنتجة له ونسبيتها و خضوعها للعلاقات الانسانية السائدة في تلك الفترة . والاستفادة من العلوم الحديثة لتفكيكه وتملكه المعرفي من تاريخ وعلم الاجتماع و علم الاثار والانتروبولوجيا وعلم الاديان .....؛
5- عدم تقديس الاجتهادات البشرية في مجال الدين : التعامل العقلاني مع التاويلات و الاجتهادات التي قام بها السلف او المحدثين للدين ،و اخضاعها لامتحان المنطق والعقلانية و ازالة طابع القداسة عليها و القيام " بحداد " معرفي حقيقي يقر بالتجاوز التاريخي لمجموعة من الافكار المطروحة في هذا المجال وخرافيتها؛
6-تقوية غريزة الحياة بدل غريزة الموت : انتاج خطاب ديني يشجع على الحياة وابتغاء السعادة و يتصالح مع كل ما يعطي معنى و حب للحياة خاصة الفنون بمختلف اصنافها و تشجيع الابداع و مختلف القيم الجمالية ؛
7-الموقف من الحريات الفردية : اعادة تاسيس علاقة الدين بالحريات الفردية ، عبر الانطلاق من ان الفرد ليس قاصرا و ان حرياته و حقوقه الفردية مضمونة من طرف الدولة والمجتمع ؛
8-الموقف من المراة و الاخر الغير المؤمن : الاستفادة من التطورات التي عرفتها المراة في العالم والحقوق التي وصلت اليها لجعلها ارضية للابداع في المجالات التي تعاني فيها المراة من حيف كاللباس ، الحرية الفردية ، الارث ، التعدد... و مما ثلتها بالتطور التي عرفتها البشرية في مجال عبودية الانسان ( هل يوجد عاقل ينادي بالرق رغم وجود نص صريح حول ملك اليمين ؟)؛
9-علاقة الدين بالعلم : الابتعاد عن الربط الخرافي بينهما عبر مايسمى " الاعجاز العلمي " ، والاهتمام بترويج العلم وتبسيط افكاره ابتداء من الطفولة و خاصة بالافكار الجديدة الخاصة بالكون و تكونه . حيث هذا المجال هو رابع جارح للنرجسية البشرية بعد الغاليلية والداروينية و الفرويدية ، باعتباره يجعل للكون تاريخ و حول الانسان و كوكب الارض مجرد حدث جد جد جد بسيط في هذا التاريخ.
التغيير المنشود هو " للتخلص من الشلل النفسي الملازم لعبادة الاسلاف و طريقة تدينهم التي لم تعد من هذا العالم : عالم حقوق الانسان و المواطن ." (العفيف الاخضر ، اصلاح الاسلام ).