لقد أصبحت مسألة حقوق الإنسان في واقعنا المعاصر ، تلقى اهتماما متزيدا وذلك نظرا لحيوية الموضوع و لعلاقته بكيان الدولة ككل من جهة ، ومن جهة أخرى أضحى مطلبا وطنيا ودوليا، إذ يعتبر التنصيص على حقوق الإنسان في مختلف التشريعات الوطنية وتنزيلها واحترامها دليلا على رقي المجتمعات حضاريا وسياسيا.
ولا غرو إذن ، في أن يكثر الحديث ومنذ سنوات عن حقوق الإنسان في المحيط الدولي والوطن العربي، بل وأخذ البعض يقارب موضوع حقوق الإنسان لا بوصفها مطمحا و مظهرا حضاريا فقط للدول ، بل بوصفها مظهرا بارزا من مظاهر الديمقراطية ودعامة لها في نفس الوقت.
فقد كان صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10 ديسمبر 1948 تدشينا لمفهوم حقوق الإنسان كمفهوم محوري على الصعيدين المحلي والدولي من خلال الاتفاقيات الدولية ومختلف الدساتير والتشريعات الوطنية للدول.
وتبعا لذلك، أصبح مفهوم حقوق الإنسان من المفاهيم الشائعة الاستخدام في الأدبيات السياسية الحديثة، حيث اكتسب زخما أكبر منذ بداية العشرية الأخيرة من القرن العشرين إذ أضحى الحديث يكتسي أهمية بالغة سواء على الصعيد الإعلامي أو السياسي أو المؤسساتي في جل الدول.
وقد غدا هذا الاهتمام واضحا من خلال عقد المؤتمرات والندوات وإبرام المواثيق والاتفاقيات على المستويين الإقليمي والدولي ، وذلك من أجل معالجة جميع الجوانب والظروف التي تساهم في تعزيز حقوق الإنسان وتهيئ السبل الكفيلة بحمايته.
ورغم أن جل المواثيق الدولية تؤكد على احترام حقوق الإنسان، بل والنص على ذلك في كافة الدساتير الداخلية للدول، تظل قضية الاحترام الفعلي للحقوق والحريات موضع جدل.
وفي ظل هذا التراكم والسيرورة التاريخيين ، سيخلد بحر هذا الأسبوع ، المجتمع الدولي، مناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان، وهي مناسبة تتزامن ﻭﺗﺨﻠﻴﺪ اﻠﺬﻛﺮﻯ 67 ﻟﺼﺪﻭﺭ ﺍﻹﻋﻼﻥ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻲ ﻟﺤﻘﻮﻕ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ وإحياء الذكرى 17 لصدور الإعلان العالمي لحماية المدافعين عن حقوق الإنسان، والذكرى الثانية والعشرين لآخر قمة عالمية لحقوق الإنسان المنعقدة في فيينا في يونيو 1993.
ولعل من نتائج تنامي الاهتمام بالمسألة الحقوقية عالميا، في المغرب أن أصبح جميع الفاعلين الحقوقيين والمدنيين ، ينادون أكثر من ذي قبل بضرورة الالتزام بحماية حقوق الإنسان و الاحترام المستمر لها لا ظرفيا إبان سياقات زمنية معينة.
وبما أن المناسبة شرط كما هو شائع ، والمغرب سيحيي مناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان هذا الأسبوع ، يحق لنا كمغاربة ، أن نتخذها فرصة لمعرفة مدى احترام الدولة لحقوق الإنسان ، ومساءلة الجهود والمساعي التي بدلت من داخل المغرب من أجل الإعلاء من مسألة حقوق الإنسان والارتقاء بها كممارسة واقعية وثقافة متجذرة في المؤسسات والنفوس.
فعلى الرغم من أن المغرب عربيا، يحتل مكانة أفضل نسبيا في مجال حقوق الإنسان، مقارنة مع غيره من البلدان العربية و قد دشن في السنوات الأخيرة سلسلة من الإصلاحات والتي جاء تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة في إطارها، وما تلاها من بداية مسار الانتقال الديمقراطي الذي حاولت هيئة الإنصاف والمصالحة التأسيس له.
وخلافا لكل الشعارات التي رفعت وطنيا وفي المحافل والمنتديات الدولية، فإننا نجد استمرار الخروقات والانتهاكات في مجال الحريات العامة وانتهاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من داخل المغرب،- حيث أصبحت حديث الرأي العام الوطني والتقارير الوطنية والدولية-: (تزايد حدة الفقر ، ضرب المكتسبات الاجتماعية، تعنيف الحركات الاحتجاجية المطلبية الاجتماعية ، عرقلة العمل النقابي بالاستناد على الفصل 288 من ق.ج خاصة مع تأخر صدور القانون التنظيمي للإضراب، تملص الحكومة من مسؤولياتها في مجموعة من القطاعات الاجتماعية كالماء والكهرباء )، حيث يسجل على مستوى العديد من الملفات تغليب للمقاربة الأمنية الفجة - حالة الطلبة في كليات الطب وساكنة مدينة طنجة والمعطلين والأساتذة المتدربين بمراكز التكوين- وإحلال للحلول الترقيعية على حساب الحلول البنيوية التي تروم إيجاد حلول واقعية ومنصفة.
وما يشكل مدعاة للاستغراب والتوجس والقلق ، أن يحدث كل ذلك على الرغم من أن الخطاب المغربي المتعلق بحقوق الإنسان قد وجد ترجمته- إلى حد ما - على مستوى النصوص الدستورية خاصة بعد صدور الوثيقة الدستورية سنة 2011 والتي أفردت بابا خاصا بالحقوق والحريات، فان ذلك لم يشفع في القطع مع الممارسات القديمة.
وتحت ظلال هذه الوضعية ، نجد مجموعة من الإطارات الحقوقية الوطنية والفاعلين الحقوقيين يذهبون إلى التأكيد على وجود بون شاسع بين المقتضيات المتعلقة بالحقوق والحريات الواردة في هذا الدستور والممارسة الواقعية ، وهو ما يكشف- حسبهم- زيف كل الشعارات الخاصة بحقوق الإنسان و دولة الحق و القانون و توسع مجال الحريات العامة و الخاصة خصوصا حق التظاهر و الاحتجاج السلمي التي رفعت منذ 2005 وفي سياق الحراك الشعبي سنة 2011.
وذلك في مقابل، تنامي جرائم الدولة بالمغرب وإفلات مرتكبي هذه الجرائم من العقاب ومحاولة الجهات المعنية مغالطة الرأي العام الدولي بخصوص الوضعية الحقيقية لحقوق الإنسان بالمغرب وتقديم صورة وردية عنها في التقارير المعدة.
ولعل ما يثير الاستغراب حسب الكثير من الحقوقيين والأكاديميين بالمغرب، هو الدور الغائب للمؤسسات الوطنية المناط بها رصد الانتهاكات التي تطال حقوق الإنسان بالمغرب والحرص على حمايتها وصيانتها من الإهدار والامتهان, بل على العكس من ذلك فقد حادت عن أهدفها والفلسفة من وراء إحداثها كما في التجارب الدولية المقارنة إذ أصبحت تزكي الوضع القائم وتوفر الغطاء لتبرير الكثير من التصرفات والأفعال التي تنتهك فيها الحقوق والحريات المغرب.
وهو الأمر الذي حدا بالبعض إلى القول بكون هذه المؤسسات الوطنية المكلفة بحقوق الإنسان ماهي إلا مؤسسات صورية الهدف منها تجميل وجه الدولة القبيح أمام المنتظم الدولي, وهي من جهة أخرى من حيث إنشائها، محاكاة شكلية لتجارب مقارنة دون مضمون.
ولا يفوتني في الأخير ، أن أشير من جهة، إلى مفارقات عجيبة بخصوص حقوق الإنسان بالمغرب، ذلك أنه بقدر مصادقة المغرب على المزيد من الاتفاقيات والبرتوكولات الدولية لحقوق الإنسان بقدر استمراره في انتهاك الحقوق والحريات بشكل غير مبرر، ضدا على التزامات المغرب الدولية فيما يتعلق بحماية حقوق الإنسان والنهوض بها.
وبقدر ما تعلن الدولة عن التزامها بهذه الاتفاقيات والبرتوكولات الدولية لحقوق الإنسان، بقدر ما يتضح عجزها عن تحقيق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية من جهة وضعف وتراجع المكتسبات الاجتماعية التي حصلت عليها مجموعة من شرائح المجتمع المغربي في فترات متفرقة من تاريخ المغرب المعاصر من جهة أخرى.
ومن جهة ثانية، استدرك وأشير إلى أن ما جرا تناوله في هذا المقال ، ليس تسفيها ولا تبخيسا لجهود الدولة المغربية كما قد يبدو للبعض، ولا ميلا لأطروحة ما أو خطاب معين حول الموضوع ، بقدر ما هو مكاشفة موضوعية بعيدا عن لغة وخطاب الفاعل الحقوقي، فالواقع في المغرب لا يرتفع.
وفي هذا الإطار ومع افتراض وجود رغبة جادة، ومن منطلق كون الانتصار لحقوق الإنسان هو في كنهه انتصار لقيمة المواطن المغربي، فلا بديل إذن عن إرادة سياسية ومساعي وجهود مجتمعية قوية، تتبنى محاولة ترسيخ وتجسيد احترام حقوق الإنسان وطنيا كهدف جاد يحرق المسافات ويشكل قطيعة مع الماضي القريب ويضع قضية حقوق الإنسان على سلم أولوياته، عبر مجموعة من المداخل من بينها العمل على بلورة سياسات اقتصادية واجتماعية واضحة الأهداف والأساليب ، توفر الحد المقبول من الكرامة للمواطن، وتضمن له مجموعة من الحقوق (التعليم ،الشغل ،الصحة ،السكن ...).