ان الولايات المتحدة تتخذ من القوة سبيلا في سيطرتها على العالم، معتمدة في ذلك على منطق – حكم القوة، فما مدى سلامة السلوك الأمريكي في إخضاعه للعالم بهذه السياسة؟
أولا: إستخدام الإعلام
تتخذ الولايات المتحدة الامريكية من الإعلام وسيلة رئيسية أولى في إخضاع الجمهور الداخلي والخارجي، «فهذه الوسيلة لها تأثيرات كبيرة خاصة ان الجمهور المتلقي للمادة الإعلامية مغيب تماما لما يحدث حقا. وهنا فالادارة الامريكية بحاجة لخلق الوسط المناسب لتقوم بأفعالها العدوانية براحة تامة فعندما يتم اقناع الرأي العام ان أمريكا تدافع عن العالم من خطر الإرهاب فتصبح الترجمة الدائمة لكل سلوك امريكي هو دفاع انساني، وهذا ما نجده في المادة الإعلامية الامريكية، فالتدخلات العسكرية تسمى بالمساعدات او الامدادات، بينما هي لا تخرج عن معناها الحقيقي الذي ينحصر في الحرب والترهيب.»[1]
يقول تشومسكي: «من الضروري كما أشارت جريدة الواشنطن بوست بشكل لا يخلو من الفخر خلال هستيريا حرب الخليج – تلقين الناس احترام القيم العسكرية وهذا امر مهم اذا أردت مجتمعا قائما على العنف، يوظف القوة العسكرية حول العالم لتحقيق أهداف النخبة المحلية، فمن الضروري ان يكون هناك تقدير للقيم العسكرية، والا يكون هناك وجود لتلك المخاوف المرضية حول توظيف العنف»[2]
يتبين من هذا ان الاستراتيجية الامريكية تتخذ من الاعلام وسيلة لتبرير الأفعال العنيفة، وإعطاء المشروعية للقوة العسكرية في التصرف، من خلال اقناع الرأي العام، وإزالة الخوف من هكذا توظيف للقوات العسكرية.
وتتعدد استخدامات الاعلام في هذا الشأن إلا أن التركيز هنا هو الوظيفة التي تستخدمها الولايات المتحدة الامريكية، وهي إخضاع الشعوب من خلال المادة الإعلامية.
يضيف تشومسكي استخداما أمريكيا اخرا للأعلام فيقول: «ومن الضروري كذلك ان يتم تزييف التاريخ وهي وسيلة للتغلب على المخاوف المرضية ليبدو الأمر وكأنه حينما نهاجم وندمر الآخرين فنحن نفعل ذلك لحماية والدفاع عن أنفسنا ضد المعتدين والوحوش»[3] فهذا العنصر بالغ الأهمية وبالغ التأثير، لانه عند تزييف التاريخ تتغير الحقائق.
فعند تلقين الرأي العام أن أمريكا تعاني من الإرهاب على مر العصور، فان الشعب الأمريكي على الأقل سيقتنع ان العنف الأمريكي مبرر، فيكون التصرف بكل حرية، ولنجاعة الاعلام الأمريكي كان العالم بأسره تحت السيطرة الإعلامية للولايات المتحدة، بحيث في الماضي القريب وحتى اليوم تجد من هو يساند الولايات المتحدة الامريكية قائلا انها سفيرة السلام، وتجده يعتقد بذلك حق الاعتقاد ولا يعود هذا فقط لعدم فطنة الرأي العام بل يعود بدرجة أولى الى الخبث الذي تملكه أمريكا في التحرك سياسيا واعلاميا.
فالسيناريو الذي نفهمه حول الوضع العالمي ليس حقيقة، انما هو حقيقة مزيفة تتحكم بها الولايات المتحدة، لتمرير ما يعزز مشاريعها ومصالحها.
يؤكد تشومسكي هذا قائلا: «ان صورة العالم التي تقدم لعامة الجمهور ابعد ما تكون عن الحقيقة، وحقيقة الامر عادة ما يتم دفنها تحت طبقة وراء طبقة من الأكاذيب، وكان هذا نجاحا مبهرا، حيث انه منع التهديد الذي تمثله الديمقراطية، وتم إنجازه في اطار من الحرية وهو امر في غاية التشويق»[4] أي ان الولايات المتحدة تتحكم بالمادة الإعلامية
وكما جاء في قول الفيلسوف الأمريكي فرانسيس فوكو ياما « شدد كثيرون من الناس ان إدارة بوش كانت مزدرية للرأي العام الدولي»[5] فالإدارة الامريكية التي يترأسها "بوش" او غيره، على مختلف مراحل الولايات المتحدة خاصة بعد الحرب الباردة، يوجد ازدراء للرأي العام بصفة مؤكدة، ويتجلى ذلك في عديد الصور منها، اقناع الجمهور بأن أفعال العنف الامريكية أفعال إنسانية، وأيضا تغييب الرأي العام عما قد تقوله الأصوات الناطقة بالحق في هذه المسألة او سواها، فتجد ان المادة الإعلامية اما ترفيهية او تافهة او مثل ذلك.
يقول ستيفن كولمان في كتابه الإعلام والجمهور «إن صوت الجمهور ليس غائبا تماما عن الاعلام المعاصر، لكنه حيثما يظهر فإنه يتم إخضاعه بدرجة كبيرة وتقييده تماما بواسطة عدسة صحفية تقوم بصياغة الكلمات بطرق خاصة»[6] أي ان الصحافة وسيلة لإخضاع الجمهور وتقييده فهذا الأخير عند انتفاضته مهما كان شكلها، يتم إخماد عزيمته أو تحريف مساره من خلال الصحافة.
ثانيا: استراتيجية إمبريالية كبرى
بعد ان بسطت أمريكا سيطرتها، بالهيمنة اقتصاديا وعسكريا، من خلال السيطرة على منابع النفط والغاز في اهم المناطق حول العالم، وكذا الانتشار العسكري في عديد المناطق الاستراتيجية مع كسب نفوذ التدخل الكامل، تبحث واشنطن من خلال استراتيجية كبرى ان تحافظ على هيمنتها بجعلها أمر بديهي للرأي العام.
يصف تشومسكي هذه الاستراتيجية مستنكرا صحتها، موضحها عدائيتها في قوله: «تؤكد الاستراتيجية الإمبريالية الكبرى[*] على حق الولايات المتحدة في اللجوء الى شن حرب وقائية: أقول وقائية وليس استباقية»[7] فهذه الأخيرة تستخدمها الدول دفاعا عن نفسها من تهديد تراه قادم، اما أمريكا في سلوكها في إزالة التهديدات تعتمد التوقع المسبق حجة للوقاية، فما حدث للعراق وتصفية صدام حسين يعود سببه أن أمريكا تتوقع ان ستكون العراق تهديد للهيمنة الامريكية – مستقبلا.
ويميز فوكو ياما بين الحرب الوقائية والاستباقية في قوله: «يفهم الاستباق عادة على انه جهد يبذل لقطع هجوم عسكري وشيك، اما الحرب الوقائية فهي عمليات عسكرية مصممة لتسد الطريق على تهديد يبعد شهورا او سنوات عن التجسيد ماديا»[8] فمن هذا يتضح ان أمريكا في اعتمادها الحرب الوقائية هي تتوقع التهديد الذي قد يحدث بعد شهر او سنة بل وحتى بعد عقد من الزمان وتعمل على التصدي له قبل ظهوره، أي إزالة التهديدات حتى قبل ان تظهر بالساحة العالمية مهددة الامن العالمي والامريكي خاصة.
ويؤكد تشومسكي ان هذه الاستراتيجية تتعارض والقانون الدولي أذ يقول في كتابه المعنون الهيمنة ام البقاء «يقر بعض المدافعين عن الاستراتيجية الإمبريالية الكبرى، بأنها تتعارض تعارضا فظا والقانون الدولي، لكنهم لا يرون في ذلك أي مشكلة»[9] يمكن القول من خلال هذا ان الإدارة الامريكية تدرك انها تخالف القانون الدولي، لكن لا ترى مشكلة في ذلك، وهذا الأقرب للحقيقة، لأن منطق القوة يقول بخضوع القانون للقوة، ولا وجود لخضوع القوي للقانون، فالولايات المتحدة تفعل ما يحلو لها بطرقها الملتوية، ويبقى تأييد الرأي العام للسلوك الأمريكي أمر ثانويا.
وحسب القانون الدولي يبقى التمييز بين الحرب الوقائية والاستباقية هو مفصل الاشكال فالوقائية تدخل ضمن الاستراتيجية الغير شرعية، ام الاستباقية فيها مشروعة ضمن قوانين الحرب وبالرغم من ان القانون الدولي أوضح ان الحرب الوقائية يجرم صاحبها الا ان الولايات المتحدة تصر على استخدامها وتبرير سلوكها.
ويؤكد هذا فرانسيس فوكو ياما قائلا: «جادلت إدارة بوش انه في عصر الإرهابيين المسلحين بالأسلحة النووية، أن التمييز نفسه بين الاستباق والوقاية قد صار تمييزا قديم العهد»[10] فهذا التبرير لا يمكن انكار انه حجة قوية وان كان بها من الخبث ما يخدم المصالح الامريكية، فالتهديدات بغض النظر عن ان كانت إرهابية او غيرها، فهي ذات خطورة اكبر من تهديدات الحروب البدائية والتقليدية، والقانون الدولي الذي ينظم قواعد الحرب مبني على تلك الفترة من الزمن التي كان بها شن الحروب يقتصر على السيوف والبنادق والتسليح العسكري التقليدي الذي يخلو من أسلحة الدمار الشامل.
فمن منظور الإدارة الامريكية الحجة تكمن في أن الأسلحة النووية والتي قد تصل لقبضة الإرهابي، لذلك لا خطأ في توقع الخطر قبل ظهوره والوقاية منه.
ومهما كانت هذه الاستراتيجية غير قانونية فقد تم الإعلان عنها سبتمبر 2002م، ليُدَق بكل تأكيد ناقوس الخطر.[11] فبإعلانها أصبح العالم متخوفا مما قد يأتي منها كسلوك عدواني، ففي هذه الفترة ومع هذه الاستراتيجية يمكن للولايات المتحدة كسب كل صلاحيات التحرك داخليا وخارجيا عسكريا وجغرافيا، وبلغ بها ذلك حتى التلاعب بالقوانين الدولية.
يمكن القول أن التطبيق الأمريكي لهذه الاستراتيجية إستخدام لا يُختلف انه غير منظم، بل هو استخدام همجي، فالولايات المتحدة ومن موقفها القوي تسمح لنفسها بالتمادي في توقع التهديدات وتصفيتها بشكل عشوائي وغير مدروس، وهذا الامر الذي يعتبر كارثة بحق تهدد الاستقرار الدولي.
ويؤكد فوكو ياما على وجوب تنظيم السلوك الأمريكي قائلا: «وان كان الوضع تغير بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، من الأخلاقي يجب ان تستخدم الحرب ضد الإرهاب استخداما ملائما مضبوطا في عدد من الحالات المحددة تحديدا أكثر بكثير مما هو عليه الآن"[12] من خلال هذا القول يمكن التوصل الى ان الواقع الدولي معترف بان أمريكا اقنعت الرأي العام بان الحرب الوقائية شرعية، من خلال حجة تهديد الإرهاب المدعوم نوويا، الا انه وبالرغم من هذا يجب تنظيم السلوك الأمريكي، فما دامت الحرب الوقائية شرعية فيبقى الاشكال الان في طريقة استخدامها ويتضح ان الاستخدام الأمريكي غير عقلاني لذا وجب تنظيمه، او تجريمه.
«وتمتد الاستراتيجية الكبرى لتطال حتى القوانين الامريكية الداخلية، فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وإعلان خطر الإرهاب، أخذت أمريكا بتصنيف أفراد شعبها بين إرهابيين ومجرمين ليتم إيداعهم السجن وحرمانهم من الحقوق الطبيعية كالزيارات، وأعلنت أن هذه الحالة ستدوم لحين يعلن البيت الأبيض أن الحرب ضد الإرهاب قد انتهت».[13] وهذا يدخل عقلية الهيمنة لدى إدارة الولايات المتحدة، فالدول تميل للسلطة والتحكم في الشعوب، والحال الأمريكي مدعما بالهيمنة له كل الامتيازات والامكانيات ليقوم بهذا السلوك داخليا، فأمريكا تتحكم في شعبها بطرق وان كانت غير مباشرة، بل وان كانت لا يعد انها خطرة او بها تسلط، مقارنة بما تمنحه من رفاهية.
بالرغم من أن الولايات المتحدة وبزعامتها للعالم وهيمنتها على مصادر الطاقة ومنابع النفط والغاز، وتحكمها بالسوق، والاقتصاد العالمي، تبقى خائفة من أمور تتوقعها وتحسب لها ألف حساب، ألا وهي إمكانية نجاح دولة ما، خاصة تلك الدول الصغيرة التي تعتبر لقمة سائغة أمام القوة الامريكية – عسكرية ام اقتصادية ام سياسية – فدول العالم الثالث بداية من الجزائر وشمال إفريقيا والعراق وفلسطين، وكلما كانت الدولة أكثر فقرا وأكثر خرابا زاد احتمال أن تكون تهديدا للولايات المتحدة! لماذا؟ يجيب نعوم تشومسكي على هذا التساؤل بقوله: «... كلما زاد ضعف وفقر الدولة زاد خطرها كَمَثَلْ. فإذا استطاعت دولة هزيلة فقيرة مثل جرينادا أن تنجح بعيدا عن قبضة الولايات المتحدة، فلماذا لا تنجح دول أخرى؟»[14]
فالسياسة الامريكية تجاه العالم تضع الدول الفقيرة والضعيفة تحت المجهر، وتعمل على بقائها بهذه الحال، بل وتعمل على تشويه تلك الدويلات التي بها شبه انتفاضة، كانت سياسية او اقتصادية وتسعى الى كسر كل من يريد ان يكون قدوة لغيره، فمثلا ما يعرف بالربيع العربي، هو محاولة جميلة ونية سليمة، في وعي عربي، واتحاد إسلامي، وانتفاضة كبيرة، الا انها لا تخلو من سذاجة وحمق عميق فهذه الحركة ومنشطيها اندفعوا متجاهلين ان الولايات المتحدة العدو الأول لهذه الحركة.
بالنسبة للأوضاع الداخلية للدول والفرق بين دولة ذات رفاهية ودولة أخرى في وضع بسيط مثل دول العالم الثالث، فالولايات المتحدة وبإعتبارها قوة عظمى ودولة ذات رفاهية، تسعى الى تعزيز المميزات التي يتمتع بها شعبها بالداخل، والحفاظ عليها من أي عامل خارجي او داخلي قد يهددها.
يقول مايكل ساندل: « بالنسبة للأمم الغنية تقوم سياسات تقييد الهجرة كذلك بحماية امتيازاتها»[15] فخطر الهجرة يهدد استقرار الوضع الداخلي الأمريكي، لذلك تعمل هذه الأخيرة على تقنين هذه الظاهرة والحد منها، لتجنب الفوضى التي قد تحدث بسبب ذلك، لان المهاجرين الذين ينتقلون الى دولة ما فهم في حقيقة الامر يضيقون على السكان الأصليين من ناحية مناصب العمل لأن اليد العاملة يصح بها فائض مقارنة بناصب الشغل فضلا عن مشكلة تخفيض الأجور لإستيعاب كل تلك الاعداد المضافة اقتصاديا، فالهجرة تشكل تهديد حقيقي لزعزعة رفاهية الخدمات الاجتماعية والاقتصادية والرفاهية للمواطنين الاصليين.
وفي العوامل المهددة لرفاهية المجتمع الأمريكي يضيف ساندل قائلا: «ليست الهجرة فقط هي الطريقة الوحيدة التي تذهب بها وظائف الأمريكان الى الأجانب. في هذه الأيام يتجاوز رأس المال والسلع الحدود القومية بصورة أسهل من البشر»[16] في إشارة للتجارة الخارجية وطريقة سير الدولار الأمريكي، فعندما يشتري امريكي سيارة رياضية من خارج أمريكا يعد هذا تهديدا للاقتصاد الأمريكي خاصة اذا أصبحت ظاهرة في المجتمع.
«ولهذا ليس غريب في مطلع عام 2009م اقر الكونغرس حزمة تحفيز اقتصادي وقعها الرئيس أوباما تبلغ 787 مليار دولار، احتوت الحزمة بندا يقضي بان الاعمال الحكومية التي تمولها الحزمة (طرق وجسور ومدارس وبنايات حكومية – يجب ان تستخدم حديدا وفولاذا أمريكي الصنع) ... ومن الطبيعي ان تحفز الإدارة اقتصاد الولايات المتحدة لا البلدان الأخرى»[17]
يقول جون ديوي «لا ريب في ان طريقة الحياة الامريكية تقدم فرصا لا مثيل لها لكل فرد ليعمل بحسب ما لديه من مزايا وفاعلية»[18] فلا أحد يستطيع إنكار ان الوضع الاجتماعي الأمريكي ربما يتصدر قائمة أفضل الشعوب رفاهية عالميا، ويعود هذا لعديد العوامل، كالقوة الاقتصادية التي تعتمد على المشاريع الاستثمارية التي تفتح مناصب شغل كبيرة، أيضا التقليل من ظاهرة الهجرة حتى لا يكون تزاحم في المجتمع الأمريكي الامر الذي يؤدي الى انخفاض الأجور في أحسن الأحوال، وفي أسوأها تحدث فائض في اليد العاملة مقارنة بمناصب الشغل.
ثالثا: استخدام الإرهاب
ان أمريكا تتخذ من الإرهاب تهديدا لها، كما تتخذ منه سلاحا لها، فالارهاب الدولي لدى الإدارة الامريكية نقطة قوة لتعزيز افكارها الأيديولوجية، خاصة فكرة الديمقراطية من جانب، كما يعد حجة لشن هجوم على دول تعتبر مصنعة للإرهاب الدولي.
يقول تشومسكي:« تقول منظمة العفو الدولية في تقريرها بأن القتل الإرهابي الليبي بدأ في اول الثمانينات، عندما طرح جيمي كارتر الحرب الإرهابية في السلفادور مع خوزي نابليون دوارتي متطوعا للخدمة كغطاء من اجل ضمان تدفق الأسلحة الى القتلة وبينما كانت ليبيا تقتل 14 من مواطنيها نظام السلفادور العميل للولايات المتحدة قتل حوالي 50000 من مواطنيه»[19] فنعوم تشومسكي هنا يؤكد على ان النظام الأمريكي فاسد، بمقارنته بين نظام حليف للولايات المتحددة وهو السلفادور ونظام غير حليف وهو ليبيا التي تعتبر بالنسبة للولايات المتحدة دولة مصنعة للإرهاب، فالنشاط الأمريكي وعلى وحشيته ان تكلمنا بلغة الأرقام فهو نشاط شرعي سليم بل وانساني ان تكلمنا بلغة السياسة، فبلغة الأرقام سنرى ان 50000 الف ضحية تم إبادتها بواسطة النظام الأمريكي في السلفادور، وهذا رقم يشير الى جريمة مهما كانت الأسباب، فهذا الرقم رقم حصيلة حرب استنزاف وليس عملية عسكرية، بينما اذا نظرنا للأمر بلغة السياسة، سنجد ان أمريكا سفيرة السلام والقيم الإنسانية في العالم، تدافع عن فئة معينة من التهديد، او تحرر السلفادور من فتنة طائفية، او تنتقم لهجوم وقع بأمريكا أو في النصف الثاني من العالم، هناك بفرنسا او ألمانيا، او حتى بالنيجر او ليبيا دولة الإرهاب نفسها، وبهذا يكون السلوك العدواني الأمريكي مبرر، بل ومحمود.
يؤكد تشومسكي على اجرام الولايات المتحدة في السلفادور قائلا:«ان الذبح في السلفادور هو ليس مجرد إرهاب دولة على مستوى درامي، وانما هو إرهاب دولي اخذا بالاعتبار التنظيم والتزويد والتدريب والمشاركة المباشرة من قبل حاكم نصف الكرة الأرضية. والشيء نفسه صحيح فيما يتعلق بمذبحة حوالي 70000 غواتيمالي في نفس السنة، عندما كات الأسلحة الامريكية تتدفق على القتلة»[20]
فمن خلال ما يقوله تشومسكي نستنج انه يدين وبقوة الفعل الأمريكي والسياسة الخارجية، لما تقوم به من اجرام عالميا، خاصة في المثالين السلفادور وغواتيمالا.
وبينما هذا الإرهاب الدولي بالسلفادور هو عمل اجرامي شنيع، يمكن القول كذلك انه مرحب به على انه إنجاز رائع من خلال التغييب الإعلامي الأمريكي الذي بث فكرة الديمقراطية والحث عن نشرها عالميا والدفاع عنها، فالولايات المتحدة من خلال فكرة الديمقراطية تسعى للمشاركة في الانتخابات في تلك الدول لتعزز هيمنتها بإدخال أطرافها السياسية او عملائها في مراكز الحكم وبالرغم من ان هذا السلوك خبيث وعمل شنيع من منظور الضحايا، الا انه لن يكون غير انه عمل استراتيجي من منظور الإدارة الامريكية.
يقول تشومسكي: «عندما يساق السكان بغواتيمالا الى الانتخابات بعد صدمتهم بالعنف يفرح المتنويرين لهذه الانتخابات الديمقراطية، وما الانتخابات الا وسيلة لأمريكا للمشاركة الأكثر كمالا في إرهاب الدوبة والقمع، كما في السلفادور»[21]
ففي حين ان السلفادور عانت من الإرهاب الدولي الذي شنته أمريكا عليها، هي تسعى لدخول انتخابات ديمقراطية خاضعة نتيجتها للنظام الأمريكي، وكأن 50000 ضحية ما هم الا اضرار جانبية لدى الاستراتيجية الامريكية للقيام بإنتخابات ديمقراطية تقوم عليها أمريكا.
إذا كانت الولايات المتحدة تستخدم الإرهاب الدولي كوسيلة لتعزيز هيمنتها العالمية، من خلال نشر الديمقراطية في هذه الدول التي اثارت بها الفتنة، فالارهاب الذي تصنعه أمريكا له استخدمات أخرى عديدة أهمها التصفية، والمقصود بهذا هو إزالة التهديدات المحتملة، بشن حرب في خليط من استباقية ووقائية ضد بلد تنتقيه الإدارة الامريكية ليكون ضحية.
ولإختيار بلد ما، وجعله هدفا، لا يعد مشكلة للسياسة الامريكية، وعند الحديث عن ليبيا كدولة إرهابية، من السهل التدخل فيها بحجة او بأخرى ولن يحرك القانون الدولي ساكنا، بل وسيهنئ الإدارة الامريكية لقيامها بالتدخل هذا.
فصحيفة نييورك تايمز «تبرر الهجوم الإرهابي الأمريكي الذي قتل حوالي 100 شخص في ليبيا بأنه كالتالي: "لإنقاذ نتاشا سيمبسون التالية" وذلك في إشارة لابنة الأحد عشر عاما الامريكية التي كانت احدى ضحايا الهجمات الإرهابية في مطاري روما وفيينا في ديسمبر 1985م، فهؤلاء الضحايا يخولوننا بقصف المدن الليبية لتثبيط عزيمة الإرهاب الذي تدعمه»[22]
فالسياسة الامريكية براغماتية في تعاملها، محتكمه في ذلك على قوتها وهيمنتها، فلا يهم الضحايا او عدد الخسائر البشرية جراء قيامهم بالدفاع عن شخص واحد او انتقال لشخص واحد إنما الأهم بلوغ الغاية، وكما يقول الفيلسوف الإيطالي «الغاية تبرر الوسيلة»[23] وعلى هذا فالإرهاب كأداة لتطبيق مخططات الاستراتيجية الامريكية ما هو إلا غلاف لتعزيز الديمقراطية من خلال «خلق المشكلة وإيجاد الحل لها»[24]، وهذه من احدى استراتيجيات التحكم بالشعوب التي قال بها تشومسكي.
مراجع المقال:
1- نعوم تشومسكي: السيطرة على الإعلام، ص 19.
2- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
3- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
4 - المصدر نفسه، ص 20.
5 - فرانسيس فوكوياما: أمريكا على مفترق الطرق ما بعد المحافظين الجدد، ترجمة محمد محمود التوبة، مكتبة العبيكان، ط1 المملكة العربية السعودية، 2007م، ص132.
- ستيفن كولمان وكارين روس: الاعلام والجمهور، ترجمة صباح حسن عبد القادر، دار الفجر للنشر والتوزيع، ط1، مصر 2012م، ص78.
*- هي عبارة عن سياسات توسعية تتبعها الدول بغرض السيطرة على الأراضي الخارجة عن حدودها مِن أجل إكتساب صفة الدول الكبرى أو الإمبراطوريات وهذه السيطرة قد تتخذ كثيراً مِن الأشكال الإقتصادية والعسكرية أو التحكم في القرارات الداخلية، ومِن الجدير بالذكر أن هذا اللفظ أطلق في الأصل للإشارةالى فرنسا وبريطانيا خلال الفترة التي سيطرتا فيها على أغلب دول قارتي أسيا وأفريقيا. انظر: المرسال، مفهوم الامبريالية قديما وحديثا،2019-05-17/01:39. https://www.almrsal.com.
6 - نعوم تشومسكي: الهيمنة أم البقاء السعي الأمريكي الى السيطرة على العالم، ص20.
7- فرانسيس فوكوياما: أمريكا على مفترق الطرق ما بعد المحافظين الجدد، ص116.
8 - نعوم تشومسكي: الهيمنة أم البقاء السعي الأمريكي الى السيطرة على العالم، ص21.
9 - فرانسيس فوكوياما: أمريكا على مفترق الطرق ما بعد المحافظين الجدد، ص116.
10 - نعوم تشومسكي: الهيمنة أم البقاء السعي الأمريكي الى السيطرة على العالم، ص25.
11- فرانسيس فوكوياما: أمريكا على مفترق الطرق ما بعد المحافظين الجدد، ص118.
12 - نعوم تشومسكي: الهيمنة أم البقاء السعي الأمريكي الى السيطرة على العالم، ص36.
13 - نعوم تشومسكي: ماذا يريد العم سام!!، تعريب عادل المعلم، دار الشروق، ط1، القاهرة، 1998م، ص32.
14 - مايكل ساندل: العدالة ما الجدير أن يعمل به؟ ترجمة مروان الرشيد، جداول للنشر والتوزيع، ط1، بيروت، 2015م ص256.
15 - مايكل ساندل: العدالة ما الجدير أن يعمل به؟، ص 257.
16 - المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
17 - جون ديوي: الفردية قديما وحديثا، ص13.
18 - نعوم تشومسكي: قراصنة وأباطرة الإرهاب الدولي في العالم الحقيقي، دار حوران، ط1، سوريا، 1996م، ص137.
19 - نعوم تشومسكي: قراصنة وأباطرة الإرهاب الدولي في العالم الحقيقي، ص ص138 - 139.
20 - المصدر نفسه، ص140.
21 - نعوم تشومسكي: قراصنة وأباطرة الإرهاب الدولي في العالم الحقيقي، ص141.
22 - يوسف أبو الحجاج الأقصري: مكيافللي فيلسوف عصر النهضة، الدار الذهبية، دط، دس، ص11.
23 - زكريا خنجي: استراتيجيات الدول العظمى في التحكم في الشعوب، جريدة أخبار الخليج، العدد13616، 28/8/2016.