112كل الدروس مهددة بالمزالق. لا بل تحاصرها المهالك، فيتحول درس اللغات الأجنبية ( المقدمة في الغالب باعتبارها لغات حية !) إلى أداة فتاكة لخلق تشوهات في أرواح المتعلمين ما لم يتملك أستاذ اللغة الأجنبية المؤهلات الضرورية التي تمكنه من جعل المتعلمين يلامسون روح تلك اللغة لا قشورها كما الحال عند الببغاء. ويمسخ درس التاريخ إلى مجرد أحداث وتواريخ أو تاريخ سلالات وسلاطين. كما قد يتحول درس التراث إلى مجرد حصص قاتلة للتغني به والنفخ في إنجازاته بدل جعله مختلفا، جديدا......و حداثيا .ودرس الجغرافيا إلى مجرد جرد لأسماء الجبال والسهول والهضاب والوديان وأنواع المحاصيل ومقاديرها حسب البلدان دون أدنى ذكر و تفكيك لأنماط السيطرة عليها ولمنطق توزيعها و الرهانات و الصراعات حولها ... .و يتحول درس الأدب الذي يفترض فيه تنمية الحس الجمالي و تهذيب الأذواق و الأخلاق إلى النقيض من ذلك تماما قي العديد من الحالات (1).

68-neige" كل ما تبنيه التربية مع ضعفها يهدمه الاستبداد بقوته"[1]
ترتقي التربية بالانسان الى المراتب المعرفية والأنطولوجية العليا وتنمي استعداده الى الصلاح فتدفعه للابتعاد عن الشر والرذيلة واتيان العمل الخير والفضيلة، وتفلح التربية الجسم والنفس على السواء وتظهر ثمرتها في تحرير العقول من الجهل وتحمل الانسان مسؤولية الائتمان وتحتاج التربية الى التعليم والتمرن والاحتذاء والأسوة والقدوة والمحاكاة والاقتباس. وتتكون التربية من أصول وفروع ومن وسائل ومضامين ومقاصد ويلعب المربون دورا مركزيا في التربية وذلك لأنهم من يقود السفينة ومن يقدر على اخراج المتعلمين من بحر الظلمات الى شاطئ النور ومن موجات الشك والحيرة الى الأرض الصلبة للمعرفة واليقين.

" إن الأنوارتتوقف على التربية، كما أن التربية تتوقف بدورها على الأنوار" (كانط، محاضرات في التربية 1776)Kant

تجدر الاشارة في البداية إلى كون النص موضوع الاشتغال" تأملات في التربية" لكانط، ليس بعمل اعده صاحبه على وجه متسق و متكامل، كما هو الشان بالنسبة لمجمل اعماله المنشورة في حياته، بل إن هذه التأملات هي جماع محاضرات ألقاها كانط في جامعة كونسبرغ الألمانية مابين 1776-1787 في فترات متقطعة، و قد سلمها لتلميذه رينك RINK في نهاية مشواره المهني، موصيا إياه بنشر ما يناسب الجمهور منها آنداك. لينشرها رينك سنة 1803 ،أي قبيل وفاة كانط بسنة تقريبا. وهو ما قد يدل على أن كانط لم يقف على نشر هذه النصوص شخصيا، إذ يبدوا واضحا للقارئ مدى عدم انسجام فقراتها و كذلك التكرار الذي يرد فيها للكثير من الأفكار و الفقرات.

ac-abstr

مقدمة :
اعتبر بول فاليري التاريخ، أخطر منتوج أعدته كيمياء العقل، فعلى حد قوله يدفع للحلم يسكر الشعوب، يبرر ما نريد، ولا يعلم بصرامة أي شيء لأنه يحتوي كل شيء ويعطي أمثلة عن كل شيء، هي مقولة بدلالات وحمولة جد ثقيلة. تحيل على أهمية التاريخ في حياة الأمم والشعوب، فهي تشكل وسيلة من أهم وسائل الثثقيف في المؤسسات التعليمية. بيد أنه ليس علما سهلا، فهو أكثر المواد تجرديا إذ يتطلب وجود آثار – خلفها الانسان في الماضي- ينكب عليها المؤرخ في الحاضر للمعالجة. وهذا العمل يتطلب كثيرا من الخيال والتجريد وكذلك كثيرا من النضح والحكمة والتجربة.
بيد أن العلاقة بين هذه المعرفة على المستوى الأكاديمي/ التاريخ العالم وعلاقتها بالتاريخ المدرسي تبعث على التساؤل، سيما وأن الأخير في الوقت الحاضر يطرح العديد من الإشكاليات، ويصدم بإكراهات عديدة، رغم مكانته الهامة في صرح التكوين الفكري والاجتماعي والتربوي للمتعلم. حيث يعتبر مادة أساسية في التكوين الفكري والمعرفي للمتعلم، وذلك بتنمية ذكائه الاجتماعي وحسه النقدي، وتزويده بالأدوات المعرفية والمنهجية لإدراكه أهمية الماضي في فهم الحاضر والتطلع إلى المستقبل، وتأهيله لحل مشاكله التي تواجهه "[1].
الأكيد أن مقاربة هذه العلاقة تفرض واقعيا جملة من الإجراءات التحليلية ونسق من التفكيكات . مثلما تفرض ملامسة جملة من المفاهيم والتصورات.
في هذه المداخلة سنحاول تتبع أوجه هذه العلاقة عبر أربعة محاور رئيسية، علها تعطينا صورة عن حدود التقاطع والتباعد بينهما (التاريخ العالم / التاريخ المدرسي)، في البداية سنقف على المادة المعتمدة، الوثيقة التاريخية/ النص التاريخي، المفاهيم، الإشكاليات، ثم المواضيع. وقبل ذلك نتوقف في مدخل مفاهيمي لتوضيح الفرق بين كل منهما.

Save00082لا شك أن التجربة اليابانية تجربة متفردة بكل المقاييس , وعلى جميع الأصعدة .فالشعب الياباني الذي استفاق أوائل أغسطس على مأساة هيروشيما ونجازاكي المرعبة , لم تنثن عزيمته بل تمكن في ظرف وجيز من ردم الهوةالمعرفية و التكنولوجية التي تفصله عن الغرب , وأحدث نقلة حضارية فريدة من نوعها في التاريخ الحديث .
لقد أدرك اليابانيون أن الريادة في القرن العشرين تستند على الجهد المعرفي , وتأهيل المورد البشري فتبنت منذ أواخر 1946 برنامجا لإصلاح التعليم يهدف إلى توفير نظام تعليمي مرن وقابل لاستيعاب معطيات العلوم الحديثة وتطويرها , دون الوقوع في فخ التغريب و الانسلاخ عن مقومات الشخصية اليابانية .غير أن ما لا يجدر إغفاله هو السمات و الملامح الخاصة بالشعب الياباني و التي كان لها ثقلها الواضح في معادلة الإصلاح, ويمكن إيجاز هذه السمات كما يلي :
-   التماسك الاجتماعي , ومرده إلى الوضع الجغرافي للبلد , بالإضافة إلى سياسة العزلة  التي  نهجتها الحكومة اليابانية منذ 1635 , و التي نصت على منع اليابانيين من مغادرة البلاد , ورفض  دخول الأجانب .مما جعل منها دولة " شديدة التجانس واعية بدرجة أكبربشخصيتها وتميزها على ما سواها من جيرانها من شعوب المنطقة على الأقل. فلا يوجد في اليابان أقليات عرقية تُذكر , ولا جيوب    عقائدية مما يُشكل عائقا في طريق كثيرمن الدول الأخرى التي ابتغت تحديث نفسها " (1)

color028pالمقصود بالنسق التربوي ، كل السلوكات العاملة على تحقيق التربية ، كممارسات ، تنسجم و المعايير الأخلاقية المتعارف عليها من لدن المجتمع ، على اعتبار أنها سلطة أخلاقية يتعين احترامها و الامتثال لضوابطها و يعد فعل الأمر احد الأسس التي يقوم عليها النسق التربوي ، و لعله من باب الاقتناع الراسخ ، و القناعات الثابتة لدى السواد الأعظم من القائمين على تدبير الشأن التربوي ، أن بنية الأوامر هي الكفيلة بتحقيق التربية ، و ترسيخ قيمها في البنيات النفسية و الوجدانية و الفكرية للذوات الخاضعة للتنشئة التربوية و الاجتماعية .غير آبهين و لا مكترثين لحجم الأضرار التي تخلفها هذه الأوامر على الذات المتلقية لها ، التي تجد نفسها محاصرة بسهام الأوامر المشحونة بالتبرم و الامتعاض .الشيء الذي يجعل هذه السهام الحادة عاجزة عن إصابة الهدف المتمثل في التوجيه و التقويم . و يعزى ذلك إلى كون النفس البشرية قد فطرت على رفض الأوامر لا سيما العنيفة و الخشنة منها ، ما دامت تعارض رغباتها حينا ، و تخدش كرامتها أحيانا اخرى ، على نحو يجعل هذه النفوس أو الذوات المأمورة إبداء مقاومة شرسة تجاه فعل الأمر و ذلك للتخلص من سلطته المستبدة الباحثة عن التمكن و الإخضاع .

mondria2" أن يحيا، هذه هي المهنة التي أريد تعليمها له"
- جون جاك روسو – إميل-
مما لاشك فيه أن المرء لا يصيرا إنسانا إلا بالتربية وأن الفلسفة هي أحسن المسالك المعرفية الممكنة في سبيل تحصيل تربية ناجحة ومتكاملة ترتقي بالإنسان من دائرة التبعية والقصور والوصاية إلى حالة الاستقلالية والترشد والحرية وتجعله ينمي في ذاته ملكة قابلية الاكتمال.  وأن فلسفة التربية هي مركز الثقل في أي مشروع من هذا القبيل بحيث لا معنى للتربية ولا قيمة للفلسفة اذا لم يجتمعا عند هذه النقطة ويتقابلا عند تمفصل الطبيعة والثقافة والعتبة الفاصلة و الواصلة بين الايديولوجيا والعلم. على هذا النحو ارتبط التعليم بالتكوين والتأديب وتعلقت التربية البشرية بتعلم الفلسفة وتعليمها وحب الحكمة النظرية والالتزام بالحكمة العملية وظهرت فلسفة التربية كثمرة لهذا التواشج.
غير أن التربية على حب العلوم واحترام مدربيها ومتعلميها والتلهف على نظرياتها والرغبة في معانيها قد عرفتها البشرية منذ القدم  وشهدت عدة تحولات ومر بعدة رؤى وتصورات. وربما الصورة التقليدية للفلسفة وسطوة الفكر الديداكتيكي العلمي الذي احتل الرُّكح التربوي في الآونة الأخيرة قد حجب الرؤية عن التفلسف الإنساني ومنعه من النظر في طرق اكتساب الصناعة الفلسفية والتعامل مع فلسفة التربية بأسلوب فيه الكثير من الاستهزاء والتسرع.

color028pإذا كان انتظار مولود  حدثا تُجمع الإنسانية على روعته , فإن مراسيم استقباله تعكس إلى حد بعيد طبيعة الوعي الذي يحكم بيئته التربوية ونوعية السلوك و الاتجاهات التي ستحدد شخصيته !
ولعل ما يميز الأسرة العربية هو العناية المفرطة بالترتيبات المادية من تغذية و تطبيب مع تقصيرملحوظ في الترتيبات المعنوية التي تحقق للطفل تكيفا نفسيا سليما مع محيطه.
فالحاجة إلى الحب , و الأمن,  والشعور بالانتماء للدين ثم للجماعة هي حاجات فطرية لدى الطفل , و الاستجابة لها من لدن الأسرة و المدرسة ضرورة حيوية لاكتمال شخصيته والوصول بها إلى حالة من الثبات الانفعالي و السلوكي.غير أن شيوع المفاهيم الخاطئة حول الصحة النفسية ,وغياب استراتيجية واضحة لإدماج مباديء الرعاية النفسية في خطط التنمية الاجتماعية أسهم بشكل واضح في ازدياد الاضطرابات النفسية , وتراجع أدوار الأسرة و المدرسة في تحقيق تنشئة سليمة .
ينص إعلان " ألما آتا" الذي أصدرته منظمة الصحة العالمية سنة 1978 على أن الصحة النفسية هي "حالة من العافية تسمح للفرد باستخدام كافة طاقاته وقدراته ,و التكيف مع ضغوط الحياة و العمل المنتج و المثمر, و المساهمة البناءة في مجتمعه " وهذا التعريف ينطوي على تصور مغاير يتجاوز المقاربة العلاجية صوب الاهتمام باللياقة النفسية للفرد و تحسين نوعية الحياة . كما يُثبت أن المبرر الذي تسوقه السلطات التربوية و الصحية في بلداننا حول قلة عدد الأخصائيين النفسيين , وانصراف جهودهم للعناية بالحالات النفسية الحادة هو مبرر يُمكن تجاوزه باعتماد مقاربة تشاركية فاعلة ,تؤهل كلا من الأسرة  و المدرسة و المؤسسة الإعلامية للإسهام الجاد في توفير بيئة تربوية سليمة.

depoteduca" تشكل التربية النقطة التي يتقرر فيها ما اذا كنا نحب هذا العالم بما يكفي لنتحمل مسؤوليته"
استهلال:
شاع خلط كبير عند عامة الناس بين التربية والتعليم واعتبر التقريب بينهما معطى بديهي ومسألة متداولة وهذا صنيع غير مفهوم وأمر غريب نظرا للاختلاف التخصصي بينهما وانتماء الطرف الأول الى دائرة الأخلاق والطرف الثاني الى دائرة المهنة  وقد عززه وقوع غالبية العلماء والمفكرين في نفس الحكم المسبق وهو أن كل فعل تربوي يرتكز بالضرورة على تجربة تعليم معمق ومتدرج وكل مراحل تعليمية يمر بها الانسان تفضي الى امتلاك المرء لتربية متوازنة وعقلانية. لكن التعليم قد يعني التكوين والتبليغ والتلقين وتصنيع الذكاء واكتساب الخبرة في مجال معين والمهننة، أما التربية فقد تطلب الآداب والتنوير والاضاءة والتثقيف والصلاح وتعني السمو الروحي والارتقاء الأخلاقي والتحلي بالفضيلة وطلب الخير.
فما مرد هذا الخلط بين التربية والتعليم؟ وماهي الوسائل الكفيلة بالتمييز بينهما؟ وما المقصود بالتربية؟ وماهي مميزات التعليم؟ وماذا لو شخصنا المسالة التعليمية عند العرب ؟ وكيف نفسر الوضع التربوي اليوم؟ وهل يمكن الحديث عن أزمة حقيقية يمر بها هذا القطاع؟ وماهي أسباب هذه الأزمة؟ وهل يمكن تصور بدائل ومخرج منها تبعث على الأمل وتحفز نفوس الناشئة على الفعل وعلى الابداع؟ وماذا يمكن للتفكير الفلسفي المعاصر أن يقدم بهذا الصدد؟ وما العمل لكي تتفادى التربية السقوط في هاوية التقليد واعادة انتاج النظام القائم؟ وكيف نتفادى تحول سلطة التعليم الى نوع من الدكتاتورية والوصاية؟  ومتى تبدأ مرحلة التربية والتعليم بالنسبة للمرء؟ وفي أية زمانية يجب أن تتوقف؟ وماذا نحتاج بالضبط في الوقت الراهن؟ هل الأمر يتعلق بتطوير المناهج التربوية عن طريق علوم التربية أم ابداع نمط فلسفي مابعد حديث في التعليم؟ وماهو تأثير التغيرات التاريخية والتحولات السياسية على هذا المجال؟ والى أي مدى يتأثر الفعل التربوي بالتدافع الاجتماعي والمتطلبات الاقتصادية؟ وما السبيل الى احداث ثورة في قطاعي التربية والتعليم؟ وألا تقتضي المسألة التمييز بين التعليم بخبير والتعلم الذاتي؟ ومتى نشهد ميلاد طريقة جديدة للتعلم ويصبح الفضاء التربوي فرصة لتنمية المهارات ولانخراط المرء في عالم مختلف؟

ecoleاستهلال :الحادثة الأولى : وقعت في فرنسا سنة 2009 وتتلخص وقائعها في تقديم أستاذة تاريخ من أصل يهودي ، " كاترين فانتورا " ( Catherine Ventura ) مشروعا لإدارة معهد " هنري لوريتز " (lycée Henri – Loritz ) يهدف إلى تمكين 144 تلميذا من زيارة معسكرات إبادة اليهود(المحرقة ) ببولونيا ولكن المديرة لم توافق إلا على 80 تلميذا بعد أن اعتبرت العدد المقترح مشطا ويستدعي مصاريف باهظة ( السفر ، الإقامة التأمين ...). هذا القرار أثار حفيظة الأستاذة التي استغلت زيارة وزير التربية للمؤسسة وحرضت تلاميذها على تنظيم احتجاج ، مما استدعى فتح تحقيق في الغرض انتهى إلى إدانة الأستاذة وإيقافها عن العمل لمدة أربعة أشهر بسبب إخلالها بواجب الحيادية ( la neutralité)[1] وسعيها المتعمد لاستغلال التلاميذ وغسل أدمغتهم عبر تخصيص الجزء الأكبر من وقتها لتنظيم الرحلات على حساب مكونات ومضامين البرنامج الأخرى.[2]

khalidkelb"تمثل التربية أعظم و أعوص مشكل يمكن أن يطرح على الإنسان."إيمانوال كانط                                      
يعتبر البعض أن الاهتمام بقضية إصلاح التربية و التعليم لا ترقى في أهميتها إلى قضايا حيوية من قبيل التشغيل و تشكيل الحكومات و كتابة دساتير الدول,غير أن هكذا رأي يجهل أو يتجاهل أن التربية و التعليم هما اللذان يصنعان مواطن المستقبل.نعم قد يكون التشغيل مثلا مسألة ضاغطة تحتاج إلى إجراءات عاجلة و كذلك الشأن بالنسبة لكتابة دستور و تشكيل حكومة, لكن تعليم و تربية المتعلم على الديمقراطية مقوم أساسي في بناء دولة المستقبل.من هنا فإن اهتمامنا بمسألة إصلاح التربية و التعليم  باتجاه تكوين مواطن صالح  ليس ترفا فكريا إنما هو يستجيب لحاجة ملحة تتعلق بنحت ملامح المواطن الذي نريد,و الأمر يزداد أهمية عندما نضيف أن ربع السكان في تونس مثلا يذهب إلى المدارس و المعاهد و الجامعات.
و انطلاقا من الوعي بهذا الهدف نتساءل اليوم عن دور التعليم و التربية  في تحقيق هذا المطلب المنشود  حيث تصنع  العقول و يتشكل  مواطن المستقبل  .