anfasse.orgيستدعي الحديث عن بيداغوجيا الكفايات الإجابة عن مجموعة من التساؤلات نعتقد أنها، من جهة ،ستساعدنا على إيجاد موقع لها ضمن ما يسمى بالمقاربة بالكفايات، ومن جهة أخرى الوقوف على الجديد الذي يمكن أن تضيفه على مستوى التفكير في الممارسة البيداغوجية وتطويرها . من بين هذه التساؤلات ذاك المرتبط بعلاقة الإدماج كبيداغوجية بالكفايات ، وما طبيعة هذه العلاقة: هل هي علاقة يطبعها التكامل والاستمرار أم أنها علاقة تقوم على القطيعة بمعناها الابيستيمولوجي؟ ثم كيف تشتغل هذه البيداغوجيا و ما الذي تتغياه؟ و أخيرا ما الذي يمكن أن تضيفه للممارسة البيداغوجية - بالخصوص داخل مجال المدرسة المغربية التي بدأت تستنبتها وبشكل متدرج ؟
    إن الإجابة على مثل هذه التساؤلات  يفترض في نظرنا الرجوع إلى الوراء ومن ثم التساؤل عن البدايات  ، عن أصل الكفايات ؟
أولا :من بيداغوجيا الأهداف إلى المقاربة بالكفايات:
     لقد ساهم التدريس بالأهداف ، كما نعرف،في تحقيق تقدم ملموس على مستوى تنظيم و عقلنة العملية التعليمية /التعلمية حيث لم يعد هناك مجال للنوايا و العفوية و التدخل في آخر لحظة كما كان الأمر عليه في السابق.إن المدرس سيجد نفسه ، مع التدريس الهادف ،مضطرا للتفكير في كل ممارساته المهنية بما يتطلبه  ذلك من تحديد دقيق لأهداف التعلم والعدة البيداغوجية اللازمة لتحقيق تلك الأهداف من طرق ووسائل، وكذا آليات التقويم المناسبة....مع الإفصاح و الإعلان عن تلك الأهداف للمتعلمين الذين سيتحولون بموجب هذا التوجه البيداغوجي الجديد إلى شركاء في العملية التعليمية /التعلمية وليس مجرد مستقبلين سلبيين.
     غير أن ذلك لم يمنع هذه الممارسة المقننة و المنظمة والمفكر فيها بشكل قبلي  من الوقوع في نوع من الرتابة و التكرار.

lecture.jpgلا يخفى ما يكتسيه درس النصوص أو القراءة من أهمية. ورغم ما يدعيه معظم المهتمين بمناهج اللغة العربية، بكون التعبير والإنشاء غاية وباقي المكونات وسائل، فإن درس النصوص يظل رهانا كبيرا بالنظر إلى شموليته وغاياته وتحدياته.
لقد نصت مقاصد منهاج اللغة العربية صراحة على تلك الأهمية، إذ راهنت على إقدار المتعلم على فك رموز الخطاب تمهيدا لإقداره على عقدها. ولنا أن نفهم من هذا الرهان أن عملية فك رموز الخطاب هي المؤسس لعملية عقد رموز الخطاب. وهذا بالضبط مرجع تأكيدنا على أهمية القراءة وتبويئها مقام البؤرة في منهاج اللغة العربية، دون المساس،طبعا، بوحدة مكوناته وتماسكها وتكاملها.
    وإذا كان إنتاج الخطاب يشكل صعوبة كبيرة بالنسبة إلى المتعلم، فإن فعل القراءة يعد مأزقا حقيقيا، بما يفرزه لديه من أحاسيس الإحباط والاستلاب، حيث يظل النص مغلقا ومتعاليا لا يخضع لتمثلاته ورؤياه بسبب افتقاده للمهارة والقدرة على التسلل إلى أغواره ومساءلة مجاهيله وتلمس مكامنه. وأمام عجز المتعلم يستسلم درس النصوص لبراثن الإقراء لا القراءة، ويتجه صوب ما رسمه له مهندس الدرس بعيدا عن تفاعلات المتعلم وميوله، مما يفرز لديه، لاشعوريا، أحاسيس الاستلاب، إذ تغيب متعة الإدراك وينعدم الانتشاء بالإنجاز وتبقى المعرفة متعالية في برجها، ويجد المتعلم نفسه دائما في حاجة إلى وسيط للقراءة.
     إن القراءة، أية قراءة، لا تكون مجدية وفعالة إلا إذا ارتقت إلى مستوى السلطة النقدية، أي أن تكون في حد ذاتها سلطة نقدية. وإذا سلمنا بحقيقة أن كل سلطة لها صلاحيات، فإن القراءة أيضا، باعتبارها سلطة، لابد لها من صلاحيات ممنوحة ومخولة، هذه الصلاحيات ليست سوى أدوات القراءة ووسائل الزحف نحو جوهر النص واستراتيجيات تناوله وتفكيكه، وخطط الظفر بقيمة الجمالية. وكل قراءة مجردة من هذه الصلاحيات لا يمكن أن تكون ذات قيمة أو جدوى.

khelladi.jpgد. عبدالرحيم الخلادي
تقديم:
يضطلع قطاع التربية و التكوين بأدوار طليعية للدفع بعجلة التقدم في كل الدول و لدى كل الأمم... لذلك لما استشعر المغرب ما آل إليه حال هذا القطاع من مكانة حضيضية دونية، تبنى شعار الإصلاح و أرفقه بالعديد من الإجراءات القانونية و العملية و البيداغوجية...الخ، ومن ضمنها تغيير المناهج و المقررات الدراسية. ففي مادة اللغة العربية استحضر الإصلاح التربوي بيداغوجيا الكفايات و نظام المجزوءات، رافعا شعارا مركزيا هو "الجودة" و مواكبة المستجدات الثقافية و الإبداعية و النقدية؛ فأنتجت ثلاثة كتب في مستوى الثانية بكالوريا، آداب و علوم إنسانية، سأحاول التوقف عند أهمها و هو كتاب "في رحاب اللغة العربية" (الدار العالمية للكتاب – مكتبة السلام الجديدة. طبعة 2007 )، لتتبع أهم مظاهر الخلل الكامنة فيه، أو المرتبطة به، في محاولة لتقديم أسئلة الإصلاح من زوايا أخرى  لا تقل أهمية عن غيرها...      
1)    الأخطاء المعرفية:
       من أبرز مظاهر الخلل الكامنة في الكتاب المدرسي إيراد معلومات خاطئة، أو تفسيرات تجانب الصواب، فتفسد فهم التلميذ المتلقي الأول للكتاب. تطالعنا هذه الأخطاء المعرفية منذ المدخل الأول، ففي الصفحة (12) وابتداء من السطر (11) نجد حديثا عن معايير القصيدة العربية الذي حددها الناقد المرزوقي في عمود الشعر، وفيه: (( و يمكن رد هذه المعايير حسب تعبير الناقد المرزوقي إلى ثلاثة أسس هي: شرف المعنى و صحته و جزالة اللفظ واستقامته و الإصابة في الوصف)). وهذا خطأ فادح، أولا لأن المرزوقي حدد سبعة معايير، يمكن العودة إليها في مقدمة شرحه لحماسة أبي تمام، ثانيا لأن هذه الثلاثة المذكورة ليست أهم من المعايير المتبقية كملاءمة المستعار منه للمستعار له، أو التحام أجزاء النظم والتئامها...الخ ثالثا هذا تمثل تجزيئي لنظرية عمود الشعر التي لا تقبل التجزيء في مثل هذا السياق الذي وردت فيه، و قد أسهب العديد من النقاد في بيان أهمية التكامل بين عناصر العمود مشبهين إياها بفقرات العمود الفقري أحيانا و بمواد البناء المتنوعة أحيانا أخرى...

ENFANTSلقد أمست قضية " تنمية الممارسة البيداغوجية " تتربع على عرش القضايا الساخنة ضمن ملفات المنظومة التربوية في كثير من الدول ، خصوصا   المتقدمة منها صناعيا، اقتصاديا، تكنولوجيا، وتربويا.. و أضحت الجودة خلال الظرفية الراهنة هدفا و وسيلة في الوقت نفسه (1) في حين يشكو فيه الحاضر التربوي في دول العالم الثالث من عدة نواقص و قصورات و في مقدمتها الإطناب المعرفي الممل و الحشو المعلوماتي الرهيب الذي يميز المحتويات و البرامج على حساب الإبداع و الابتكار ..(2) لكن حقل التعليم و التعلم خلال السنوات الأخيرة شهد تطورات هامة لامست جل مكونات الفعل التعليمي التعلمي  و كذا تمفصلاته      و ميكانيزماته و آلياته.. و توجهت الأنظار بشكل مهم صوب الثروة البشرية حيث أن البلدان التي تحتل اليوم قوى صاعدة هي التي استثمرت في الرأسمال البشري و حسمت باكرا إصلاح و ملائمة أنظمتها التربوية (3)، و بالتالي عرفت أدوار الممارس البيداغوجي الحديث تغييرات جذرية سواء على مستوى التكوين الأكاديمي أو على مستوى الممارسة الفعلية للعملية التعليمية التعلمية، حيث بات لزاما عليه مواكبة المستجدات التي تحدث على صعيد تطبيق المناهج و المقررات التربوية من جهة، و كذا على صعيد استراتيجيات تفعيل مقتضيات الميثاق الوطني للتربية و التكوين، و رسم الخطط البيداغوجية/الديداكتيكية المبرمجة من جهة أخرى، قصد تحقيق منتوج معرفي عالي الجودة و نسبة مهمة من الكفايات أثناء مزاولة مهمة التدريس داخل أسوار المؤسسة التربوية/التعليمية، من أجل ضمان التقدم المرغوب فيه، فضلا عن تفاديه (أي الممارس البيداغوجي) السقوط في فخ النمطية و التلقين الببغائي و الوحدة و التسلط، أو في جميع الحالات السقوط في الأمية المعرفية التي تعيق، بشكل واضح، أداءه الديداكتيكي و تكبح استمرارية اشتغاله في ظل الظروف المتذبذبة و غير المستقرة التي تعرفها الممارسة البيداغوجية الحالية، و تساهم في إغراق الوضعية التربوية في دوامة السلبية و الدونية واللاتوازن بين الكفايات المسطرة (الصناعة المدرسية) والواقع المعيشي وسوق الشغل (المنتوج المدرسي).

  الحال أن مسألة " تنمية الممارسة البيداغوجية " تعتبر مكونا غير قابل للإختزال، و بنية متكاملة يحكمها نسق محدد، كما تعتبر ذاتا لا تعرف الاستقرار؛ حيث تتشكل من جملة من الوظائف و التي تنهل بدورها من مجموعة من الفروع العلمية، و بالتالي فهي تعتبر مشروعا بيداغوجيا بخصوصيات مميزة، و مطلبا أساسيا للنهوض بأوضاع الحياة المدرسية بشكل عام.

anfasseلا تلبث حجج و دفوعات المناوئين للخطاب التربوي الاسلامي ان تتهاوى امام توافر شروط التناول الهادئ و المتجرد لاسهامات المفكرين المسلمين في الحقل التربوي و التعليمي ..وفي مقدمة هذه الشروط : التغلب على الحوائل النفسية المتولدة عن حالة التبعية و الانبهار بثقافة " الغالب" , وتجاوز القصور المنهجي لعدد من الدراسات و الابحاث ..و الذي جعل هذه الاسهامات لا تعدو كونها آراء و مواعظ و اجتهادات متفرقة , بدل ان يتم تقديمها كنظرية تربوية متكاملة تؤطرها رؤية فكرية او خلفية فلسفية !
لن ننكر غلبة الصيغ الوعظية –الأخلاقية على بواكير النتاج التربوي الاسلامي بالنظر الى نشأته في وسط فقهي " ابن سحنون , الغزالي , القابسي.." , وقصر المحتوى التعليمي على العلوم الشرعية , لكن من الاجحاف تعميم هذا الحكم خصوصا بعد انفتاح المسلمين على الثقافات المجاورة , واشتداد الحاجة للعلوم "الدنيوية" الخادمة لحركة النهضة الاسلامية .
و تأتي الاسهامات التربوية للمؤرخ و المفكر العربي عبد الرحمن بن خلدون لتشكل تحولا مهما في مسار الفكر التربوي الاسلامي , وتُثبت قدم الانشغال بقضايا تربوية يدعي "المتغربون" حداثتها و جدتها !
 
                                                          *       *        *
تبنى ابن خلدون نهجا مغايرا لمسلك الفقهاء في رصد الظاهرة التربوية , فاقراره بالعلاقة الجدلية بين "صناعة التعليم" و الناتج الحضاري لمجتمع ما دفعه الى الاعتناء الشديد بالبناء المتكامل لشخصية الفرد من خلال ارساء منهجية تربوية سليمة تضع الطفل في قلب العملية التعليمية , وتنسجم في الآن نفسه مع فلسفته العامة للعمران !
و نستعرض فيما يلي أهم مباديء هذه المنهجية :

ecolemar.jpgمقدمـة : عن الإصلاح
انطلق المغرب منذ فجر الإستقلال في مسلسل بناء نظام تعليمي يروم امتلاك المعارف الأساسية و دمقرطة التربية الوطنية. و قد كان هذا المسلسل مرآة التطور الاجتماعي و الثقافي و السياسي لبلادنا. و من شأن التحليل الموضوعي و الدقيق لذلك المسلسل أن يوضح المسار الطويل لإصلاحات تأرجحت بين الرغبة في بناء نظام تعليمي يستجيب للحاجة الوطنية للتنمية من جهة ، و الترددات المرتبطة بالرؤى السياسية المتضاربة لتلك الحقب من جهة أخرى . إن فكرة الإصلاح في المغرب تحتاج إلى بحوث خاصة ليس فقط من منظور الدولة ، و لكن أيضا من منظور التمثلات التي ولدتها لنا أفعال الإصلاح الطويلة من القرن 19 إلى الآن . والمتجلية في الخوف الذي أصبح يرتادنا قبل هذا الوقت من فكرة الإصلاح. والحقيقة أنه لم يترجم بالمغرب إصلاح إلى حدوده الكاملة. لذلك كانت صيرورات الإصلاح دائما تنتج مفعولا ضديا ، و هي أنها تهدم بنى دون أن تعوضها ببنى جديدة ، فالإصلاح يتخذ صبغة دائرية و كأن المجتمع لا يراكم. فلا إصلاح في المغرب له ذاكرة ولا إصلاح في المغرب يستمر ليبني زمنه المستقبلي.
اختلالات الميثاق الوطني للتربية والتكوين:
ورغم أن الميثاق الوطني للتربية و التكوين جاء لتجاوز خطاب الأزمة و الذي قيل عنه أنه نتاج توافق إرادي بين القوى الحية للأمة و يحتفظ براهنيته و نجاعته كإطار مرجعي لإصلاح المنظومة التربوية فإن تطبيقه في السنوات الماضية خلف اختلالات نجملها فيما يلي :
- فقدان المدرسة العمومية لجاذبيتها ، إذ ساهمت في تحطيم صورة المتعلم المثقف المناضل ، وتحطمت صورتنا عن المدرسة باعتبارها خلية ليست فقط لاكتساب الأبجدية و لكن خلية لبناء القيم فهي صانعة الإنسان المتحرر ليس بالضرورة المتحرر بالمعنى السياسي و لكن المتحرر من الجهل و المتحرر من الاندماج السهل . و تحولت المدرسة بالتالي إلى مجال لتحقيق السلم الاجتماعي . إن مدرسة اليوم لن توطن العقل حاليا ، لن تؤهل المتعلم ، لن تؤهل المدرس و لن تؤهل إداريين لإنجاز التغيير والذي من دونه لن يمكن للمجتمع المغربي المساهمة في بناء عالم أفضل ، وبالتالي تدهورت القيمة الاجتماعية والاقتصادية للمدرسة و يتجلى ذلك في تبخيس قيم العلم و المعرفة و حتى إذا افترضنا أن المدرسة العمومية لن تؤدي إلى الشغل ، فالفقر أن يقول الفقراء و المستضعفون و أشباههم " لا جدوى من المعرفة " فليس بسيطا أن يحرم الإنسان نفسه من متعة الفهم و الذكاء بحجة أولويات الحاجات البيولوجية ، و من مظاهر إفلاس المدرسة انتحار المنظومة القيمية المغربية بعد تعدد ضرائر المدرسة و انكسار المسار الحضاري للشعب المغربي .

education-maroc.jpgمعرفتنا بالواقع التعليمي المتخبط في التيه في المغرب نابع من مصادر شتى واضحة للعيان، أولها : استمرارية العقلية الإدارية البيروقراطية في مختلف الإدارات التربوية والتعليمية وممارساتها غير الشفافة تجاه قضايا هامة. وثانيا: يمكننا أن نوجز المشاكل التي يعانيها القطاع والفاعلين التربويين فيه على جميع الأصعدة ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا وماديا، وثالثا: التباطؤ الواضح في تفعيل مشاريع القوانين والمساطر المتخذة والمصادق عليها من الجميع، وتطبيق المذكرات الواردة والتي امتلأت بها الساحة دون تفعيل فملأت رفوف الأرشيفات داخل الإدارات، ووقفت سدا منيعا أمام اتخاذ قرارات مستجدة تهم الفئة التعليمية وتحرير المؤسسة المدرسية من التحرك نحو التغيير والانطلاق إلى الأمام.

استمرار البيروقراطية داخل الإدارة :

من الواضح، وانطلاقا من مشاكل يقع فيها رجال التعليم يوميا، ومن ظهور أشكال جديدة للتظاهر والاعتصام ضد الإدارة التعليمية والتربوية في الآونة الأخيرة، يظهر أن البيروقراطية مازالت متفشية في مجتمعنا، تتوغل بطريقة جديدة حداثية وديمقراطية. وهذا أمر قد أدى إلى بروز العديد من الاحتجاجات من طرف فئات مظلومة لم تستفد أبدا من أبسط حقوقها، ألا وهو الاستقرار وجمع الشمل الأسري. فالحركة الانتقالية التي تعلن عنها الإدارة التربوية والتعليمية بين سنة وأخرى، لا تذهب بعيدا إلى حل مشاكل فئات قد أجحف القانون بتعقيداته وتفرعاته في حقها، فجعلها في آخر الصف من حيث الاستفادة من حق الانتقال وتغيير الأمكنة ومقرات العمل، ولم تنظر بعين الرحمة تجاه أسر مازالت مشتتة، ونحو أطفال أبرياء بعيدين عن جو الأسرة. وهذا الإجحاف كان وبالا على العملية التعليمية التعلمية مما يجره عليها من ضعف في المردودية ووقوفا مانعا في طريق تقدم المسيرة التعليمية المنشودة، ومن هنا، ألا يمكن للإدارة التربوية وبشيء من المرونة أن تحل مثل هذه المشاكل حتى لا تزيد الطين بلة، وتقضي على البقية الباقية من الأمل في شق طريق الإصلاح من جديد؟ .

إن الحديث عن التعليمي بلادنا أصبح لا يعني فقط، كما يتبادر إلى أذهان البعض عملية بمثابة التقليل من شأنه أو التنقيص من ضرورته، أو حتى نفي إصلاحه وتغيير المسار الضائع الذي يمشي فيه باعتباره قاطرة التقدم والرقي إلى الأمام لمسايرة التغيرات العالمية والتحولات الاقتصادية والسياسية التي يعرفها العالم، والتي تؤثر تأثيرا واضحا على كل القطاعات بما فيها قطاع التعليم، ولو كان الحديث الذي اتخذناه منطلقا لإبداء آرائنا مقصورا على نفي "سلطة التعليم" ووجوده وضرورة الحفاظ على الحد الأدنى من تأثيره على المجتمع، لكان من البداية إيضاح البعد النقدي الذي نتخذه. وبدلا من الحديث عن إرجاع سلطة شايعة للقطاع التعليمي ببلادنا التي فقدت عبر الزمن، إن بصفة مباشرة أو غير مباشرة كما يفعل البعض من كتابنا والبيداغوجيين، كان يجب الدفاع عن توجهات أخرى يحاول البعض إلصاقها بالقطاع التعليمي، لكننا في حقيقة الأمر أردنا أن نستغل مساحة ولو ضئيلة تمتد على قدر أنفسنا للدفاع عن الرمق الأخير الذي لازال تعليمنا يحافظ فيه على صحته وعافيته .
"سلطة التعليم" التي نطالب بإرجاعها إليه إذن في حديثنا هذا ليس هو تجريد القطاع من قدرته على التأثير والتأثر وعلى تحقيق أهداف سامية، بل نفي كل سلوكات الترقيع والتشتيت في النظريات المعرفية والتربوية والأفكار الواردة جاهزة من الغرب بلباس التقديس سواء كان ذلك النفي بقبرها نهائيا أو بتنقيحها تنقيحا يلبس لباس القيم المغربية والوطنية كما فعلت العديد من البلدان التي خطت خطوات عظيمة نحو الرقي والازدهار وأصبح يضرب بها المثل في كل حين .

anfasseمنذ أن تحدث آبل جونز سنة 1926 عن أن العصر الذي نعيشه هو عصر الصورة وهذا المفهوم متداول إلى يومنا هذا، وقد أشار بعده الناقد والمحلل السيميائي رولان بارت(Roland Barthes) في مقالته المشهورة "بلاغة الصورة" في مجلة "تواصلات" عدد 4 سنة 1964 بأننا نعيش "حضارة الصورة"، بالرغم من التحفظات التي أبداها بارت بشأن هذا النعت الجديد بالنسبة إليه، حيث إن حضارة الكلمة مازالت هي المهيمنة أمام زحف العوالم البصرية، مادامت الصورة عينها نسقا سيميائيا(Système sémiotique) لا يمكن، كما يرى بارت، أن يدل أو يخلق  تدلالا(Sémiosis) تواصليا إلا من خلال التسنين اللساني، فالصورة عاجزة عن أن تقول كل شيء في غياب العلامات(Signe linguistique) اللسانية، لأن معانيها عائمة متعددة، والتواصل لا يتم بتاتا من السديم، ومن العماء.
تعد الصورة بذلك من المفاهيم التي لا يمكن أن نجد لها تعريفا جامعا مانعا، لأنها موضوعة مرتبطة بجميع مجالات الحياة، بدءا من نواة المجتمع(الأسرة) مرورا بالمدرسة، وكل ما يرتبط بالتنشئة الاجتماعية(Socialisation) عموما؛ ولعل هذا ما جعل منها لا تستقر على حال.
 ففي ثقافتنا العربية نجد الصورة يتجاذبها المقدس والمدنس، إلى حد أنها وصلت مستوى التحريم لارتباطها بإعادة الإنتاج استنادا إلى المخيلة والمصورة. وفي ذلك يرى ابن منظور أن الصورة ترتبط بالتخيل والتوهم، فتصورت الشيء توهمت صورته، والتصاوير التماثيل، ولعل هذا المعنى الأخير للصورة جعلها مزدراة لأنها متعلقة بالأوثان.
أما في الثقافة الغربية فتمتد كلمة صورة إلى الكلمة اليونانية (Icon)  التي تشير إلى التشابه والتماثل، والتي ترجمت إلى  (Imago) في اللغة اللاتينية و (Image) في اللغة الانجليزية واللغة الفرنسية مع اختلاف في النطق. ويتفق معجما لاروس(Larousse) وروبير(Robert) في أن الصورة هي إعادة إنتاج شيء بواسطة الرسم أو النحت أو غيرهما، كما يشيرا إلى الصورة الذهنية(Image mentale) المرتبطة بالتمثل(Représentation).

anfasseيتساءل المربون المجددون عن مدى قدرة المؤسسة التعليمية على أداء رسالتها إذا ظلت معزولة عن المحيط الذي يكتنفها، كما يعبر علماء الاجتماع عن انشغالهم العميق بموضوع انفتاح هذه المؤسسة الاجتماعية الفرعية على المجتمع الذي خرجت من رحمه، وهذا الانشغال وجيه وقلق يستحق الوقوف المتأني والتأمل العميق في أسباب هذه الأزمة.
  ويستطيع أي واحد منا، وبسهولة، أن يرصد المخاوف التي تكتنف العاملين بقطاع التعليم، والمحافظين منهم على وجه الخصوص، من نتائج انفتاح المؤسسة التعليمية على المجتمع وإشراك المجتمع المحلي وهيئاته في تسيير المؤسسة التعليمية وتدبير الشأن التربوي، ومن نتائج وانعكاسات التدخل والإشراف على التعليم المدرسي، بدعوى عدم أهلية المجتمع للنظر في التعليم المدرسي، لذلك يزيدون في اقتراحهم على أن تظل وظيفة الفاعلين وأعضاء مجلس تدبير المؤسسة التعليمية استشارية، ويقتصر دورهم على تمويل أنشطة المؤسسة وتغطية النفقات المالية التي تتطلبها الحياة التعليمية المدرسية، كما تلقى فكرة تمثيلية التلاميذ في مجالس المؤسسة معارضة ورفضا بدعوى قصور التلاميذ وعدم أهليتهم.
  إن المضمون الواضح والبارز للخطاب الإصلاحي في وقتنا الراهن يولي أهمية كبرى لقضية انفتاح المؤسسة التعليمية على مجتمعها المحلي، وهذا ليس بدعة جديدة تدعو للتوجس والخوف، وإنما هي تصحيح لوضع خاطئ ساد نظامنا التربوي. فالتعليم كان يتم في الماضي عن طريق المشاركة الفعلية للمجتمع في شؤون الحياة المدرسية، إلا أنه مع تعقد الحياة والتطور واتساع المعارف الإنسانية وتدوينها وظهور الحاجة إلى التخصص والكفاءة، نشأ التعليم النظامي ونشأت المدرسة وقد أخذت على عاتقها وظائف عدة منها تجزئة المعارف وتبسيطها ووضعها بنظام متدرج بحسب سنين الدراسة ومراحلها المتعددة وملاءمتها للعمل العقلي والعمر الزمني، وكان المعلم الساهر على تعليم الأطفال يخضع في وظيفته لمراقبة الجماعة وإشرافها، فهي التي تتعاقد معه عن طريق الشرط، كما كان المنهاج المدرسي ترجمة عملية لأهداف التربية واتجاهاتها في المجتمع ومنبثقا عن حاجات البيئة التي يعيش فيها الأفراد ومن متطلبات تنميتهم، بل كان العرف جاريا على أن يضع الأب الخطوط العامة في طريق تعليم ولده وتهذيبه، بتحديد المواد التي ينبغي دراستها وتحديد طرق ووسائل تأديب الصبي. وقد ظل هذا الوضع قائما حتى نشأت المدارس النظامية، وعم انتشارها البلاد العربية، وأصبح المعلمون يعينون من قبل السلطة التي لها حق الإشراف على التعليم والتحكم في المناهج والعلوم الملقنة للناشئة، وتقلصت فرص إشراف المجتمع المحلي على التعليم المدرسي النظامي، ورغم ما قيل حول الموضوع، فإنه لا يمكن أن ننكر الدور الذي قامت به هذه المدارس في تشييد صرح المدنية العربية الإسلامية وفي النهضة العلمية والارتقاء بأحوال المجتمع المسلم، بنشر العلم والمعرفة وبث الثقافات البانية في النسيج الاجتماعي، إذ كانت هذه المؤسسات مفتوحة في وجه العموم، لا تضع قيودا ولا شروطا أما الراغبين في التعلم، كما كانت كثير من العلوم تدرس تلبية لطلب اجتماعي أو نزولا عند رغبة أبداها المتعلمون.

anfasse.org"إنه عصر الصورة ! "
هكذا أعلن آبل جانس عام1926 مبشرا بتحول كبير في أنماط التخاطب الاجتماعي ,وانتقال تاريخي من اللفظي إلى البصري . فمع ظهور السينما وتزايد الإقبال على المشاهدة الفيلمية ساد الاعتقاد بفعالية الصورة كأداة للمعرفة و الابداع و التواصل , بل انبرى المتحمسون الى الاعلان مبكرا عن تراجع سلطة القراءة والثقافة المكتوبة امام جاذبية الصورة المتحركة !
ومع انتشار التليفزيون منذ أربعينيات القرن الماضي تأكدت هذه الهيمنة الايقونية إذ تحول الفضاء السوسيوثقافي إلى فضاء بصري بامتياز , وأضحت الصورة فاعلا اساسيا في تشكيل وعي الانسان المعاصر .
إلا أن إدراك الاوساط الاقتصادية و السياسية  للدور الخطير الذي تلعبه الصورة في الهيمنةعلى النشاط العقلي , وتوجيه السلوك وإكساب عادات جديدة سيحول هذا الفضاء إلى ساحة معركة ومضمار للتسابق نحو استباحة العقول وتدجين الوعي , وحصر النشاط الانساني في الاستهلاك و التقليد وعبادة الصورة ! 
فتنامت المخاوف من مخاطر الادمان على مشاهدة الصور المتحركة وما يترتب على ذلك من هدر للوقت و الجهد و الطاقة الانسانية ,وبث عوالم خيالية تفصل المرء عن معيشه وواقعه ,وتمنحه إشباعا وهميا لرغباته وطموحاته , كما تسهم بشكل واضح في تسطيح الفكر وحصر الاهتمام بالمؤقت و الهامشي على حساب الثابت و الضروري ! , لذا ارتفعت الأصوات مطالبة  بتفعيل البعد التربوي و الانساني للصورة المتحركة .. وداعية إلى الحد من ثقافة الاستهلاك التي أضحت سمة لازمة للمنتوج البصري .