في كتاب :"الإيديولوجيا الألمانية" الذي ألفه كارل
ماركس بالاشتراك مع صديق عمره فريديريك إنجلز، نجد انهما يعرّفان الإيديولوجيا بأنها مجموعة من التمثيلات الزائفة التي ينتجها المهيمنون من أجل إضفاء الشرعية على استغلالهم للمهيمن عليهم، مثل الإنسانوية البرجوازية لدى اليبراليين، الذين ينادون بالمساواة في الحقوق بين المواطنين حتى يتم بشكل أفضل إخفاء واقع عدم المساواة بين الرأسماليين والعمال.
منذ وقت مبكر:، تعلمنا أن العلم الماركسي، المعروف بالمادية التاريخية، هو الذي يكشف عن الادعاءات الزائفة للأيديولوجيا. بالنسبة لماركس، يسلط هذا العلم الضوء بشكل خاص على البعد غير المتكافئ جوهريا للعلاقات الحقيقية بين الناس، المرتبطة بملكية خيرات الإنتاج. ونظرا لكون مراحل العملية التاريخية التي هي أصل هذا الموقف وقائع وليست أفكارا، فمن الممكن فقط بناء علم اجتماعي حقيقي يبدأ من الناس في نشاطهم الحقيقي، وليس من التمثيل الذي لديهم. إن إزالة الغموض عن الإيديولوجيا مبني على "أطروحة ضد فيورباخ" الشهيرة لماركس: "ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، إنما وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم”. وبالتالي، فإن المادية التاريخية تعني حذرا منهجيا تجاه جميع التصورات النظرية التي يصنعها الإنسان عن نفسه. التمثيلات التي يقدمها الأفراد لأنفسهم هي، كما يكتب ماركس، أفكار إما عن علاقاتهم بالطبيعة، أو عن علاقاتهم المتبادلة في ما بينهم أو عن طبيعتهم الخاصة. فمن الواضح، في جميع هذه الحالات، أن هذه "التمثيلات هي التعبير الواعي - الحقيقي أو الخيالي - عن علاقاتهم وأنشطتهم الحقيقية وإنتاجهم وتجارتهم و(تنظيمهم) سلوكهم السياسي والاجتماعي".
بالنسبة لماركس دائما، كل التمثيلات السياسية والقانونية والأخلاقية والدينية والفنية، إلخ.. ليست سوى إيديولوجيا. وهو يمدد أحيانا القائمة عرضا، ينتقد هذه التخصصات لبقائها نظرية لإخفاء حقيقة أنه ليس لها تاريخ: "الأخلاق والدين والميتافيزيقا وكل الباقي من الإيديولوجيا (...) ليس لها تاريخ " ( الإيديولوجيا الألمانية).
في الواقع، تنتمي هذه التناوبات الإيديولوجية إلى وعي الفرد إلى المستوى الثاني من الواقع، البنية الفوقية، في حين أن العالم الحقيقي، عالم المادة ووسائل الإنتاج، يشكل المستوى الأول للواقع، الذي يسميه ماركس البنية التحتية. تعكس محاولات التمويه التي تقوم بها البنية الفوقية من نواحٍ معينة الحياة الاجتماعية الحقيقية، بينما تخفي ما هي القوة الدافعة الأساسية لها، وهو تقسيم المجتمع إلى طبقات معادية من خلال علاقات الاستغلال. وبما أن هذا الواقع لا يحتمل بالنسبة للمستغلين (اسم الفاعل) والمستغلين (اسم المفعول) على حد سواء، فإنه يتم إخفاؤه وتأسيسه كضرورة: تؤكد الإيديولوجيا البرجوازية أن الجميع متساوون أمام القانون، في حين أن البرجوازيين وحدهم يعرفون ذلك ويستطيعون الاستفادة منه. بالمثل، حين يخبرنا الدين بأن الأشرار سيعاقبون يوم القيامة، فهو يسمح للظلم بأن يستمر على الأرض.
تمتد الأيديولوجيا إلى أي شكل من أشكال الفكر . وبالتالي، فإن تاريخ الأفكار لا يتوافق مع التاريخ الحقيقي، بل هو أيضا مسألة أيديولوجية. بالنسبة لماركس، فإن تطورات الفكر كان مسرحها الحقيقي تطورات الحياة المادية، أي التاريخ الحقيقي. في الواقع، وفي كل عصر، تنتج الطبقة الحاكمة الإيديولوجيا التي تبرر وتعزز موقعها الاجتماعي. يقول ماركس في :"الإيديولوجيا الألمانية": "أفكار الطبقة المهيمنة هي أيضا، في جميع العصور، الأفكار السائدة. وبعبارة أخرى، الطبقة التي هي القوة المادية المهيمنة في المجتمع هي أيضا القوة الروحية المهيمنة".
من ناحية أخرى، يعادل تفسير ظهور الأفكار الجديدة من خلال الظواهر الداخلية لعالم الأفكار تفسير سلوك الظل انطلاقا من الظلال الأخرى، دون إدراك أن العلاقات بين الظلال لا يمكن تفسيرها إلا من خلال العلاقات بين الحقائق التي هي ظلالها. من هذا المنظور ، يتم استبعاد الفلسفة والتاريخ أيضا
كأيديولوجيا: يمكنهما في الواقع السماح فقط، في كل حقبة تاريخية، بمشاركة وهم هذه الحقبة. هذا المفهوم يجعل من الممكن فهم أطروحة ماركس الشهيرة الأخرى حول فيورباخ:
"لم يفعل الفلاسفة شيئا سوى تفسير العالم بطرائق شتى، لكن الأهم هو تغييره".
هنا يقفز إلى أذهاننا مفهوم الثورة. كيف حددها ماركس؟
في "بيان الحزب الشيوعي"، عرفها ماركس تاريخيا بأنها عبور، نسبيا طويل وعنيف، من نمط إنتاج إلى آخر. بالنسبة إلى الثورة الفرنسية، التي سمحت للبرجوازية بالاستيلاء على السلطة، باعتبارها ثورة بامتياز، رأى فيها أعراض تحوّل الهيمنة الاجتماعية.
اكد ماركس أن المجتمع يجب أن يقدم، ضمن بنيته، العوامل التي تناسبه. العامل الأول هو نمط الإنتاج الرأسمالي، الثوري بامتياز. فبعد أن حطم أشكال التبعية القديمة، انتعش وازدهر بفضل الثورة الدائمة (التقنية، على وجه الخصوص) التي قادتها طبقة ثورية هي البرجوازية، على حساب طبقة أخرى هي البروليتاريا. إذن، من الضروري بشكل أساسي أن يتفاقم التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، وبفضل ذلك يمكن للطبقة الثورية أن تضمن مصالحها وتحقق أهدافها. الثورة الفرنسية، مثلا، اندلعت بسبب العوائق التي فرضتها الملكية والأرستقراطية ورجال الدين على البرجوازية. ثانيا، تشكل الثورة ذروة الصراع الطبقي. من هذا المنظور، فإن ثورة 1848 (التي أدت إلى الجمهورية الثانية) وكومونة باريس (1871، بعد هزيمة فرنسا امام بروسيا) هي بالفعل ثورات نابعة من إرادة العمال فرض مصالحهم بالقوة. "إن تاريخ أي مجتمع حتى يومنا هذا، كما كتب ماركس وإنجلز في بيان الحزب الشيوعي ، لم يكن سوى تاريخ الصراع الطبقي".
وهكذا، فإن أي صراع بين المضطهدين (اسم الفاعل) والمضطهدين (اسم المفعول) ينتهي دائما بتغيير ثوري للمجتمع، أو بإبادة الطبقتين المتعارضتين.
يحدد ماركس وجهات نظر مختلفة للثورة. وفي نظره، تتطلب الثورة استراتيجيات معينة. باعتباره براغماتيا، تصور ماركس الثورة انطلاقا من الأمثلة التاريخية الملموسة. عندما فكر في البلدان الأوروبية القديمة الناضجة للثورة، راهن على نموذج ديكتاتورية اليعاقبة (1793-1795) بقيادة ماكسيميليان روبسبير، أي نموذج الثورة العنيفة بما يكفي لكسر مقاومة المهيمنين القدماء مع إدانتهم باختيار ديكتاتورية البرجوازية بدل ديكتاتورية البروليتاريا.
من ناحية أخرى، عندما انحسر هذا المنظور، تحولت آمال ماركس إلى نموذج كومونة باريس، فيه خلق عدم قدرة الطبقات الحاكمة الفرصة لإقامة نظام اجتماعي دائم للانتقال من الرأسمالية إلى الشيوعية. يؤكد ماركس في "خطاب حول الكومونة" أن "مبادئ الكومونة أبدية ولا يمكن تدميرها: ستُعاد دائما إلى الراهنية، طالما أن الطبقة العاملة لم تفز بتحريرها".
يستفاد من هذا المثال التاريخي بشكل خاص ضرورات تقويض الجمهورية الديمقراطية، وتحطيم أجهزة الدولة (الجيش، والشرطة، والبيروقراطية، والعدالة، إلخ..)، وإنشاء ميليشيات شعبية من أجل وضع الديمقراطية تحت السيطرة.
وإذا كان الصراع الطبقي، بشكل عام، دوليا بشكل أساسي، فيجب أن يكون بالضرورة قوميا في الممارسة ويعتمد على الأشكال السياسية الموروثة من الماضي. حتى أن ماركس كان سيغير موقفه من خلال الاعتراف بأن الديمقراطيات تتيح فرصة الانتقال السلمي إلى جمهورية اشتراكية من خلال التعزيز التدريجي للمنظمات العمالية.
تهدف الثورة إلى تأسيس مجتمع جديد. ومع ذلك ، يمكن التمييز بين منظورين مختلفين في فكر ماركس. ادعى الفيلسوف في أعماله المبكرة أن الثورة تهدف إلى إقامة دكتاتورية البروليتاريا، من أجل أن تسود مصالح هذه الطبقة - التي تعادل في الواقع مصالح المجتمع ككل - بإلغاء الطبقات الاجتماعية. ثم أخذ في الاعتبار، في أعمال النضج، التحولات التي هي أصل تنظيم اجتماعي وتقني جديد للعمل من شأنه أن يحرر العامل من الآلات. سيكون هذا التنظيم شيوعيا بشكل صحيح بقدر ما يقوم على إلغاء الملكية الخاصة وتجميع وسائل الإنتاج. بهذا الصدد، قال ماركس وإنجلز في "بيان الحزب الشيوعي": " يمكن للشيوعيين تلخيص نظريتهم في هذا الافتراض الوحيد: إلغاء الملكية الخاصة ".
يتمثل هذا المنظور الثوري الثاني بشكل أكثر دقة في إعادة هيكلة المجتمع انطلاقا من الإنتاج. في الواقع، تصور الفيلسوف أيضا، كما في بعض اليوتوبيات الاشتراكية، ثورة اقتصادية قائمة على اتحاد المنتجين. إذا كان التعاون مستلبا (بفتح اللام) في شكله الرأسمالي، عاى اعتبار انه يولد فائض العمل المنتزع من العمال، فإنه لا يعود كذلك في شكله الشيوعي، لأن مدبريه لم يعودوا يمثلون رأس المال ولأن ثماره تعود بالكامل إلى العمال.
وفقا لماركس، يجب على الثورة إذن أن تسمح للعمال أنفسهم بتولي مسؤولية إدارة العمل.