يتناول هنا دانيال باريل موضوعا سبق له أن تطرق له في كتابه الأخير "كل ما يعرفه العلم عن الدين"، الذي حلل فيه التعارض بين المنهج العلمي والدين. تمت كتابة هذا المقال لغاية تلبية معايير قسم Devoir de philo من جريدة Le Devoir التي قامت بعد ذلك بنشره يوم 22 نفمبر 2018 على صفحاتها. وبدورنا، نقدم لكم ترجمته إلى العربية عبر موقع أنفاس.
أحدثت الحاكمة العامة لكندا، جولي باييت، ضجة كبيرة في الخريف الماضي عندما قارنت بين العلم والدين، قائلة إنها فوجئت بأن الناس "ما زالوا يسألوننا عما إذا كانت الحياة هي نتيجة التدخل الإلهي أم أنها ناتجة عن عملية طبيعية أو عشوائية". أكد أولئك الذين رفضوا هذه الاقوال، كل على طريقته الخاصة، أنه لا يوجد تعارض بين العلم والدين وأن هذين المجالين مكملان لبعضهما البعض.
ما الذي كان سيفكر فيه الفيلسوف البريطاني برتراند راسل (1872-1970)؟ فضلا عن كونه عالم رياضيات، عالما، رجلا سياسيا، روائيا ومفكرا حرا، يعتبر برتراند راسل أحد أكثر المفكرين ذكاءً في القرن العشرين. اشتهر بحجته الشهيرة "الإبريق"* التي يدحض بها على نحو ساخر الحجج المؤيدة لوجود الله. أعلن راسل نفسه لاادريا من الناحية الفلسفية - لأن العلم لا يستطيع إثبات أو دحض معتقدات دينية معينة - ولكنه ملحد من حيث الممارسة، لأنه لا يمكن للمرء إلا أن يؤمن بما يثبته العلم.
أكد راسل في كتابه "الدين والعلم" (1935)، وهو ناقد صريح للدين، أن "العقيدة الدينية تختلف عن النظرية العلمية في كوها تهدف إلى التعبير عن حقيقة أبدية ومؤكدة تماما، بينما يحتفظ العلم بحقيقة مؤقتة [...]. لذلك يشجعنا العلم على التخلي عن البحث عن الحقيقة المطلقة، واستبدالها بما يمكن تسميته بالحقيقة "التقنية"، وهي خاصية كل نظرية تسمح بالاختراعات أو تتوقع المستقبل.
على ضوء هذا النص المقتطف، العلم والدين لا يتكاملان بل يتنافسان على البحث عن الحقيقة. "الحقيقة التقنية" التي يتحدث عنها راسل هي تلك الناتجة عن النظريات التي تم التحقق منها من خلال التجارب القابلة للتكرار والتي تسمح لنا بفهم بيئتنا والتصرف وفقا لها. بالنسبة للفيلسوف فإن "العقيدة الدينية" تأتي من نقاط ضعف العقل البشري بينما تأتي المقاربة العلمية من نقاط قوته.
لذلك فإن الصراع بين العلم والدين يقوم على أسئلة أساسية تطرح، مثلا، حول أصل الحياة وتطورها، وهي الأسئلة التي أشارت إليها جولي باييت.
يجادل راسل: إذا انتهى الأمر ببعض الكنائس إلى التخلي عن المعتقدات الأسطورية مثل الوجود التاريخي لآدم وحواء، فهذا على أمل "الحفاظ على القلعة سليمة".
السؤال ب(كيف) وب(لماذا)
غالبا ما يجادل أولئك الذين ينظرون إلى العلم والدين على أنهما متكاملان بأن العلم يجيب على السؤال ب(كيف) بينما يجيب الدين على السؤال ب(لماذا): سيخبرنا العلم كيف تعمل الأشياء وسيخبرنا الدين عن سبب حدوثها. هذه الحجة لا تصمد في المنظور الراسلي.
يكتب قائلا: "يجب الحصول على جميع المعارف التي يمكن الوصول إليها بالطرق العلمية". وما لا يستطيع العلم اكتشافه، لا يمكن للبشرية أن تعرفه.»
إذا كان الدين لا يجلب المعرفة، فإنه لا يجيب على السؤال ب(كيف) ولا على السؤال ب(لماذا). لقد هدم الفيزيائي الفرنسي جان بريكمونت أيضا هذه الحجة الخاصة بالإجابات المحددة لكل سؤال. وفقا لحجته، فإن التمييز بين السؤال الأول والسؤال الثاني يفضي بنا إلى ثنائية مغلوطة طالما أن الأسئلة الوحيدة ب(لماذا) التي يمكننا الإجابة عليها بشكل معقول هي في الواقع الأسئلة ب(كيف). هذه هي النسخة الحديثة من الوهم الميتافيزيقي الذي هاجمه إيمانويل كانط بإظهار أن الاعتقاد الذي يزعم أنه معرفة يصبح وهما.
بينما يمكن أن تساعد المعتقدات الدينية في إعطاء معنى للحياة، لا توجد طريقة لاختبار هذه الاستجابات التي يمكن أن تختلف إلى ما لا نهاية. إذا كانت أي إجابة ممكنة، فهي تعادل عدم وجود إجابة. هذه الإجابات لا تتكامل والمجهول في العلم لأنها ليست من مستوى المعرفة العلمية.
لذلك لم يعد هناك تكامل بين العلم والدين عندما يتم مقارابة العلاقة من زاوية الأسئلة ب(لماذا) والأسئلة ب(كيف). الإجابات الموثوقة على الأسئلة الثانية هي ما يسميه راسل "الحقائق التقنية".
الNOMA
إذا كان العلم والدين يشكلان مجالين مختلفين، فيمكن لنا أن نجادل بأنه لا يزال بإمكانهما التعايش دون صراع إذا لم يتعد أحدهما مجال الآخر. هذا هو موقف ((Non-Overlapping Magisteria) لاستخدام عبارة عالم الحفريات ستيفن جاي جولد.
هنا، مرة أخرى، يعبر راسل عن رأي مختلف. بالنسبة للفيلسوف، فإن الدين ليس مكملاً للعلم فحسب، بل إنه يلحق به ضررا كبيرا.
يسوق راسل، على وجه الخصوص، محاكمة غاليليو ورفض نظرية التطور كمثالين، وهما صراعان رئيسيان في البحث عن "الحقيقة" ولا يزالان يحتفظان براهنيتهما.
عندما أعلن ستيفن هوكينج، على سبيل المثال، أنه "ليست هناك حاجة لاستدعاء الله لإشعال الفتيل وإحضار الكون إلى الوجود"، تولى البابا فرانسيس الأول زمام الأمور وشوه بشكل كبير نظريات فيزياء الكم من خلال القول بأن الانفجار العظيم "لا يتعارض مع تدخّل الله بل يقتضيه".
في ما يتعلق بالتطور، لا تزال المعتقدات الدينية تشكل عقبة أمام قبول هذه النظرية التفسيرية، كما أعربت جولي باييت عن أسفها. ورغم أن يوحنا بولس الثاني أدرك أن هذه النظرية "أكثر من مجرد فرضية"، إلا أن الأديان تتبناها وتشوهها بالقول إن الله قصدها أن تكون كذلك. يمكن لنا أن نضيف أمثلة على نقل الدم والتلقيح المرفوض باسم المعتقدات الدينية.
بالنسبة إلى راسل، لطالما خرج العلم منتصرا من هذه الصراعات مع الدين، لتحقيق أكبر فائدة للإنسانية. يكتب: "عندما كانت الأسئلة العملية على المحك مثلما حدث للسحر والطب، دعا العلم إلى تقليل المعاناة، بينما شجع اللاهوت التوحش الطبيعي للإننسان".
لقد أدى انتشار العقلية العلمية، على عكس العقلية اللاهوتية، إلى تحسين الحالة البشرية بلا شك حتى الآن.
ولذلك، فإن العلم والدين ليسا سلطتين تعليميتين منفصلتين. لا مفر من أن يطأ الدين على أصابع العلم كاما ادعى الحقيقة.
"الروح الدينية"
ومع ذلك، لا يزال هناك مجال لا يتعارض فيه العلم والدين وفقا لراسل: مجال "العاطفة الصوفية" أو "حالة الروح الدينية". فرغم أن العلم يظل بالنسبة له الطريقة الوحيدة للوصول إلى المعرفة، إلا أنه يعترف ب"قيمة التجارب التي [في مجال العواطف] ادت إلى نشأة الدين. ونتيجة لارتباطها بالمعتقدات الخاطئة، تسببت في شر أكبر من الخير وإذا ما تحررت من هذا الترابط، يمكننا أن نغذي الأمل في أن يبقى الخير وحده ".
لذلك اعتقد راسل أن المؤسسات الدينية ومعتقداتها اللاهوتية يمكن أن تختفي أمام نجاحات العلم وأن "الروح الدينية" التي جعلت ميلادها ممكنا والحاملة ل"الحكمة الحقيقية" هي التي ستبقى. نتسم الروح الدينية وحتى "التقوى الدينية" التي يتحدث عنها الفيلسوف بحب الإنسانية والثقة بقدراتها ومستقبلها.
هذه الأخلاق التي يسترشد بها العقل والمستوحاة من التعاطف مع إخواننا من البشر هي ما يسمى اليوم بالمثل الأعلى للإنسانية العلمانية. هي، باختصار، القاعدة الذهبية التي يجب أن ترشدنا في جميع الأوقات والأماكن.
الجهل والنسبية
بعد ما يقرب من 50 عاما من وفاة راسل، ورغم التقدم المذهل للمعارف العلمية، امكن لنا أن نندهش من عودة الدين إلى المجتمع. بالنسبة إلى راسل، يقوم الدين أولاً وقبل كل شيء على "الخوف مما هو غامض، الخوف من الفشل، الخوف من الموت"، وكل المخاوف التي يتغذى عليها الجهل. لذلك تخلى عن الأسباب البيولوجية للعواطف والقدرات الأخرى التي هي أصل "الروح الدينية" والتعاطف. هذه الأسباب الطبيعية لا تختفي مع تقدم المعرفة.
ومع ذلك، يمكن تطبيق تشخيصه على عودة الديني: حقيقة أن العلم وهو يبطل المعتقدات اللاهوتية يمكن أن يسبب الكرب والخوف للبشر الفانين. لتجنب التنافر المعرفي الناتج عن ذلك، يتفاعل عقل المؤمن من خلال اللجوء إلى النسبية التي يكون فيها للعلم والمعتقد نفس القيمة، والتي تعززت في ذلك من قبل فلاسفة ما بعد الحداثة.
---------------------
(*) إبريق راسل وأحياناً يدعى بالإبريق الكوني وهو مثال افتراضي صاغه الفيلسوف وعالم الرياضيات بيرتراند راسل بهدف دحض فكرة أن الإثبات الفلسفي يقع على عبء المشككين لإبطال ادعاءات الأديان. إبريق راسل ما زال يستخدم في النقاشات التي تدور حول وجود الخالق، كما استخدم المصطلح علماء الاجتماع للدلالة على العلاقات بين الدين والامتثال الاجتماعي.
يقول راسل بهذا الشأن في محاضرنه "هل الله موجود؟ (1952): "ذا اقترحت انه يوجد بين الأرض والمريخ إبريق من الخزف في مدار بيضاوي الشكل حول الشمس، فلن يتمكن أحد من إثبات العكس إذا اتخذت الاحتياطات اللازمة لتحديد أن الإبريق من الصغر بحيث يتعذر على معظمنا اكتشافه بتلسكوباتنا القوية. لكن إذا أكدت أنه، بما أن اقتراحي لا يمكن دحضه، من غير المقبول للعقل البشري أن يشك فيه، فسوف أعتبر على الفور مستنيرا. ومع ذلك، إذا تم وصف وجود هذا الإبريق في الكتب القديمة، حيث يتم كل يوم أحد الإيحاء بأنه حقيقة مقدسة، وغرس في عقول أطفال المدارس، فإن أي تردد في الاعتقاد بوجوده سيصبح علامة على الغرابة ويستحق المشكك العناية به من قبل طبيب نفساني في عصر متنور، أو مفتش في الأزمنة القديمة".