معاني مفهوم الحقيقة عند فريديريك نيتشه - أحمد رباص

تبدأ حوارات أفلاطون بحجة للحديث عن موضوع ما، وسقراط يدمر تدريجياً جميع الآراء الموجودة المتداولة ليذهب في آخر المطاف إلى ما تبقى، أي قول الحقيقة، (أو بالأحرى حقيقته، بعد أن طرح بمهارة أسئلة رئيسية...).
البحث عن الحقيقة وإرادة الحقيقة قوتان قويتان للغاية. هذا البحث ذو جوهر ديمقراطي عام، لأن الحقائق تدعي أنها صالحة للجميع في كل مكان وتطالب بالكونية. تحتفظ الفكرة الديموقراطية بشكل مشابه للشكل الديني كفكر وحيد، لأنها فكرة مثالية لا يمكن التفكير فيها إلا من خلال ذلك.
إلى جانب القوى المنفعلة، يعتبر الفن قوة فاعلة، إنه قوة تنتج تأثيرها دون تشويه أو مقاومة قوى أخرى. ما يجب توضيحه لا يستحق الكثير. يضع الفن القيم دون الحاجة إلى إثبات صحتها. إذا احتجنا إلى إثبات نكون إزاء قوى منفعلة. في اليونان القديمة، كان السفسطائيون ينتجون تأثيرات مقنعة على الناس، لم يكن سعيهم إلى الحقيقة، بل كانوا يسعون وراء الإرضاء. لا يظهر الشعر أي شيء مثل البلاغة. كان سقراط في بحثه عن الحقيقة منفعلا.
لمواصلة توضيح القوى المنفعلة والفاعلة في موضوع الحقيقة، أورد ما قاله نيتشه في كتابه "العلم المرح": "نعتقد عادةً أن تقدم العلم قد دفع حدود الإيمان إلى الوراء، وأنه من خلال زيادة التعلم أصبحنا أقل تديناً. لكن انتصار المعرفة على الإيمان هش للغاية. إنه ليس انتصارا على الإطلاق، لأن الإيمان لم يتراجع أمام العلم إلا ليأخذ بالأحرى بتلابيبه من الخلف".
لنفس الغاية، أسوق هذا النص المقتطف من نفس الكتاب: "إنما على الإيمان الميتافيزيقي يقوم إيماننا بالعلم. بوصفنا باحثين عن المعرفة، غير مؤمنين، أعداء للميتافيزيقيا، نحن أنفسنا ما زلنا نستعير نارنا من الجمرة التي أشعلها معتقد عمره ألفي عام، هذا الإيمان المسيحي، والذي كان أيضا إيمان أفلاطون، الذي من أجله تتطابق الحقيقة مع الله وكل حقيقة هي إلهية".
يعتمد العلم بالكامل على اعتقاد واحد: قيمة الحقيقة. "إرادة الحقيقة بأي ثمن يمكن أن تكون إرادة خفية للموت." " لدينا فن لكي لا نهلك من الحقيقة".
الشيء الذي يوجد أمامنا، العقبة، المشكلة، هو بالنسبة إلى العارف موضوع يقع على عاتقه تفسيره. هل كان فريديريك نيتشه في مواجهة مشكلة المعرفة؟ ألم يكن هناك، بالنسبة إلى نيتشه سوى حقيقة-مشكلة؟ ألم تكن هناك، كذلك، حقيقة-متاهة؟ في هذه الأخيرة، يناقش العارف ذاته، وتصبح بالتالي الحقيقة-الموضوع هي الحقيقة-الذات، وبالأحرى لن يكون من الممكن فصل الذات عن الموضوع كلما تعلق الأمر بالحقيقة. هل تقدمت المشكلة إلينا أم نحن الذين تقدمنا إليها؟ من منا أوديب؟ ومن منا أبو الهول؟
لا أحد ينفي كون سائر أفكار نيتشه تدور حول الحقيقة باعتبارها لا حقيقة، حول الإيمان بالحقيقة كرسم كاريكاتوري لضرورة الحقيقة، ضرورة هي ذاتها من القوة بحيث تؤدي بنا لا محالة إلى الخطأ. لهذا، صاغ نيتشه ثلاث معان لمفهوم الحقيقة.
هذه المعاني الثلاث لمفهوم الحقيقة درسها جان غارنييه في سياقها الجدلي وصنفها في ثلاثة مستويات كما يلي:
١ مستوى شبه الحقيقة الميتافيزيقية التي تنبثق من فهم أخلاقي للوجود، والتي تمثل خطأ ضارا بالحياة، خطأ في خدمة التشويه العدمي للعالم.
٢ مستوى الحقيقة البراغماتية التي يسميها نيتشه القيمة او الخطأ النافع.
٣ مستوى الحقيقة الأصلية التي تتحدد كلعبة الفن والحياة التي أساسها ازدواجية الوجود.
وفي الأخير، يبقى نيتشه رائد الفكر المعاصر، لا سيما فكر ما بعد الحداثة.. استوحى منه فوكو، دولوز، دريدا، ليوتار ... بالنسبة إلى ليوتار، السؤال المهم هو: من يقرر ما هي المعرفة وما الذي يجب أن يقرر (صيغة المبني للمجهول)؟ إنه السعي وراء فكر قائم على التفكيك بما في ذلك الاعتبارات الحديثة أو الإنسانية مثل تقييم المعرفة على أنها حقيقة (صفاتها التقنية)، أو باعتبارها خيرا أو عدلا (صفات أخلاقية)، أو جمالا (صفة جمالية).