المقولة الاولى:
يقول الفيلسوف ريتشارد فايمان (الزمن هو ما يحدث عندما لاشيء آخر يحدث).
بالحقيقة كلنا نعلم ان اسحق نيوتن مكتشف قانون الجاذبية كان يعتبر الزمن جوهرا كليا لانهائيا مطلقا. الى ان فنّد هذا الرأي انشتاين في النظرية النسبية العامة عام 1915 قائلا الزمن نسبي.
لا نيوتن ولا انشتاين اعتبرا الزمن الارضي هو (توقيت) زمني نسبي وهو زمن واحد كوني في خاصيته الكليّة المتفردة انه ليس موضوعا يدركه العقل. وان هذا النسبية بالزمن تكون لدينا اوضح حين نتعامل مع موضوعة الزمن قياسا بسرعة الصوت وليس بمقياس سرعة الضوء. ومعلوم ان سرعة الضوء تفوق سرعة الصوت كثيرا (تبلغ سرعة الصوت 355 مترا في الثانية. وتبلغ سرعة الضوء 300 الف كيلو متر في الثانية في الفراغ).
لماذا اهتدى العلماء الفيزيائيين الى اهمية ترتيب فهمنا للزمن بتوقيتات زمنية تبدأ من الثانية وتنتهي بالفصول الاربعة بمعيارية قياس سرعة الصوت على الارض. هذا التقسيم بين التوقيت الزمني الارضي النسبي واختلافه عن الزمن الكوني هي ليست حقيقية بمعيارية وحدة الزمن النسبية على الارض وفي الكون معا الغير قابلة للتقسيم والتجزئة فالزمن لا يحده زمن حسب ارسطو لايجانسه فمثل هذا الزمن غير موجود.. لذا نطلق على زمن الارض (توقيتا) بالاستدلال الفيزيائي على حركة الكواكب في المنظومة الشمسية. وان التوقيت لقياس مقدار حركة الاجسام لقطع مسافة معينة انما هو زمن استدلالي حيادي فقط ولا يكون موضوعا مستقلا يدركه العقل.
اذا اعتبرنا أن الزمن سبب معياري لقياس مقدار حركة جسم ما لقطع مسافة معينة. والزمن محايث حيادي ميكانيكي لا يدركه العقل كموضوع مستقل عن الاجسام المتحركة التي يحتويها. مع هذا قال ارسطو في تعريفه الزمن انه مقدار حركة الجسم لكن الزمن ليس بحركة مستقلة وليس موضوعا للعقل. عندها يحدث الزمن حين يكون كل ما لا يقع تحت سطوة المطلق الزمني الذي هو في حقيقته المثبتة علميا نسبيا المحايث لكل موجود او موضوع يدركه العقل. كما ورد في عبارة ريتشارد فايمان.
المقولة الثانية
يقول دي سوكا (الزمن يسبق الوعي )
الوعي هو الشعور الادراكي عقليا وان كان يختلف جوهريا عن اللاوعي اي اللاشعور في تغييب هيمنة العقل المنظمة للادراكات. فان الاختلاف بينهما يكون اكثر عمقا حين نجد حقيقة الوعي انه لا يتم من غير محايثة الزمن له ادراكيا. بينما اللاشعور لا يحتاج الزمن حسب مقولة فرويد. اللاشعور في علم النفس والفلسفة هو ايضا لا يكون موضوعا لادراك عقلي. اللاشعور هو تنظيم افصاحات العواطف والوجدانات المنفلتة من العقل.
لكن هذا قطعا لا يوقعنا بخطأ ان الوعي لا زمني. فوعي الاشياء والموجودات لا يكون ادراكها الا بمحايثة زمانية تلازمها. فالوعي هو مرحلة متقدمة من الادراك الحسي الزمني. وفي حال افتراضنا استبعاد الزمن عن الادراك بكل الاحوال انما نكون بذلك الغينا آلية العقل الفيزيائية الادراكية ان الادراك محكوم ولا مناص له ان لا يزامنه الزمن والا نعدم قابلية الادراك للوعي ذاته رغم التجانس الوظائفي بينهما.
الزمان ادراك معرفي وليس علاقة جدلية مع المدركات والمواضيع. والزمن جوهر محايث ومحايد لادراكاتنا بمعنى الموجود الذي لا يلازمه محايثة زمانية لاتدركه الحواس ولا العقل لكنه اي الموجود يبقى كينونة مستقلة. الزمن لا يتموضع مع الاشياء التي يلازمها ولا يدخل في علاقة جدلية معها كما لا يدخل في علاقة تخارجية معرفية تبادلية معها ايضا. الزمن دلالة ادراك وليس موضوعا مدركا بذاته.
المقولة الثالثة
في عبارة للكاردينال دي سوكا فيلسوف القرون الوسطى الاوربية (الزمن هو بعد سببي للزمكان).
الالتباس الحاصل بالعبارة يجعل منها غير دقيقة هو ان دي سوكا اجاز لنفسه تقسيم الزمن حسب ما يرغبه فيزيائيا. حقيقة الزمن انه جوهر كلي لا يتجزأ ولا ينقسم على نفسه حسب الحاجة لذلك. الزمن في اللازمكان لا يكون سببا فيه وله.
نتسائل بماذا يختلف ان يكون الزمن سببا للمكان او ان نقول الزمن سببا للزمكان. المكان بموجوداته سابق في وجوده على الزمن المحايث له كدلالة معرفية وليس سببا لوجوده. ويعتبر افلاطون نظامية الطبيعة المكانية بقوانينها العامة هي التي تنظّم لنا عشوائية الزمان. والزمن ايضا لا يكون سببا في توليفة موجودة لافكاك بين طرفيها هي الزمكان التي يتموضع الزمن فيها حياديا كدلالة منفصلة عن المكان كموضوع ولا يتموضع الزمن كجزء تكويني مع المكان. لذا كان خطا دي سوكا اعتباره وجود زمن لا يدرك مستقل عن توليفة الزمكان التي تتالف من زمن زائدا مكان. لا يستطيع الزمن التحدث عن نفسه باكثر من انه دلالة معرفة وفهم وادراك الاشياء والموجودات فقط.
عبارة دي سوكا كي تستقيم منطقيا فلسفيا يجب ان تنطلق من حقيقة فلسفية قارة هي وحدة الزمن الكلية ولا يوجد لا على الارض ولا في الفضاء زمانان احدهما يدرك الاخر استقلاليا. الخطا الثاني عند دي سوكا انه يعتبر الزمن سببا للزمكان وهو اي الزمن وجود محايثة دلالية لمعرفة وادراك الاشياء باستقلالية تامة عنها او التداخل معها. كما هو نفس الشيء عندما نكرر الخطا ثانية ونقول الزمن سببا للمكان. في حين المكان وجود سابق على محايثة الزمن الادراكية له. ومن المحال ان يكون الزمن خالقا الاشياء والموجودات.
المقولة الرابعة
لنرى ما قاله اسبينوزا في منحى اكثر غرابة قوله في مبحثه الاثير لديه مذهب وحدة الوجود قوله اننا بدلالة ازلية الجوهر الخالق غير المخلوق – يقصد اسبينوزا بالجوهر الازلي هو الله – ندرك جواهر الاشياء بالطبيعة والوجود وظواهر العالم من حولنا. واضاف انه بدلالة الجوهر ندرك الوجود وماهية الشيء سابقة لوجوده،. وبذا اصاب اسبينوزا كلا من الماركسية والوجودية بمقتل قولهما الوجود يسبق الماهية او الجوهر.
اول ملاحظة تؤخذ على ما ذهب له اسبينوزا ان الجوهر الالهي الازلي المطلق الذي لا يتقدمه خالق. والجوهر بمعناه الفلسفي المادي المتعين وجوده خلف الصفات الشيئية افتراضا كلاهما جوهران لا يدركهما العقل وينطبق عليهما مبحث الميتافيزيقا. واسبينوزا لم يتعامل مع الوعي بعلاقته بالمكان.
ثاني ملاحظة لم يوضح لنا اسبينوزا فلسفيا فك الاشتباك التعشيقي في ثنائية الزمكان. بين زمان هو جوهر مستقل لا يشترط ادراكه، وبين المكان المتعيّن ماديا الذي لا يمكننا تجريده عن الدلالة الزمنية التعريفية له. احدث الفرضيات الفلسفية التي يؤيدها العلم اننا لا يمكننا ادراك مكان من دون ملازمته الزمانية له وهي مقولة متداولة عمرها قرونا طويلة..
صحيح اسبينوزا لم يقع بخطأ يمكن للعقل البشري اعتباره الزمن موضوعا ادراكيا مستقلا يمكن معرفته الماهوية. لكنه سقط بما هو افدح ضررا مما سبق ذكره قوله (بدلالة الجوهر الازلي ندرك الوجود ، والماهية تتقدم الوجود) مع اقراره ان الجوهر النسبي الموزع خلف صفات الموجودات بالطبيعة، والجوهر الالهي الازلي الخالق لكل جوهر، كلاهما خارج ادراك العقل لهما لا كجوهرين منفردين ولا متلازمين.
ختاما لو عدنا الى ما قبل اثبات انشتاين في نظريته النسبية العامة 1915 التي قال بها ان الزمن بخلاف نيوتن ليس مطلقا بل نسبيا. لوجدنا انفسنا امام حقيقة ان مطلق الزمان ونسبيته قد يجدها علماء الفضاء اكبر انجاز كوني، لكنه لا يمثل تلك الضرورة الحياتية على الارض بان مقدار نسبية الزمن الارضي المقاسة المعتمدة هي من العملاتية التي ترجيء الفتوحات الفلكية خلفها. ونحن على الارض نتعامل مع الزمن كتوقيت لحاجتنا ذلك. وليس الزمن كما هو جوهر خاصيته كونية.
المقولة الخامسة
الحاضر وهم زمني
اذا قلنا الحاضر وهم افتراضي لا زمني فهو لحظة لا زمنية لانه غير محدد بدلالة غيره من مدركات. والزمن هو الاخر وهم دلالة لا وجود ادراك عقلي لتحديد وجوده غير الدلالي في ملازمته لكل شيء لا نهائي ازلي سرمدي لا يقبل القسمة على نفسه ولا يتجزا ولا يوجد بالكون وعلى الارض زمانان اثنان مختلفان بالماهية والصفات احدهما نسبي على الارض والاخر مطلق كوني في الفضاء بعد اختراع انشتاين النسبية العامة فانعدم المطلق الزمني الذي اصبح النسبي.
افكارنا التي نطلقها شفاهيا في لحظة من الحاضر لا تلبث ان تصبح بعد ثوان ماض بالدلالة الزمنية وليس التاريخية. الزمن الحاضر يختلف عن تاريخية وجود الاشياء في الافكار المعبّرة عنها.
صناعة البنية الفكرية والاجتماعية للحاضر الوهمي غير المتحقق ادراكيا يتوزعها ماض استذكاري تكون فيه الوقائع التاريخية في الماضي قد اكتسبت ثباتها. بتوثيق زمني لا يكتسب دلالته الحقيقية الا بملازمته التعريف بوقائع التاريخ الماضي.
الحاضر الزمني في حقيقته هو الماضي الزمني وليس التاريخي في لحظة سيرورته الانتقالية من انحلال الحاضر كلحظة زمنية وهمية الى ماض زمني.
كما ان الحاضر لا يصنع المستقبل لانه وجود زمني افتراضي غير موجود. لذا يكون المستقبل سيرورة تتشكل من ماض يعبر لحظة الحاضر الوهمية وتكون الوقائع التاريخية بالماضي سابقة على وجود الزمن.
ارسطو ومن قبله افلاطون اكدا ان لحظة الحاضر وهم لا زمني حقيقي اي انه لا يدرك بدلالة شيئية ثابتة زمنيا مثل زمانية الماضي الثابتة تاريخيا وليس الثابتة زمانيا.
المقولة السادسة
يقول احد الفلاسفة الذي لا يحضرني اسمه (الوعي نوع من التحرر من الواقع وان الزمن يسبق الوعي الحقيقي).
الوعي ليس نتاج الواقع والا تساوى مع الادراكات الحسية الانطباعية. الوعي هو الوسيلة الادراكية العقلية لفهم الواقع وتفسيره. والوعي لا يعتمد الحواس بل يعتمد العقل.
الوعي تجريد فعل الادراك العقلي وليس الحسي لمعرفة الواقع. والواقع الذي لا يدركه الوعي لا يكون موضوعه عقليا. اي بالمعنى الخاطيء الواقع ليس موضوعا. وهذا ينفي صدق التعبير في بتجريد اللغة عن موضوعات العقل الادراكية.
وفي غياب موضوع التفكير العقلي سواء اكان ماديا ام خياليا مصدره المخيلة وليس الذاكرة التي تختلف عن المخيال بانها تكتنز المدركات فتصبح مستودع التذّكر. في هذه الحال لا يبقى معنى للعقل والوعي في غياب موضوعهما. الواقع لا يسجن الوعي كي يتحرر منه وهو وسيلة الادراك له. الواقع والموجودات وجود ميت بلا وعي حسي ووعي عقلي لها. وليس هناك وعيا لا يحرره الواقع من حيث طبيعة كل منهما الموجودية هي جوهر او كينونة مستقلة لوحدها.
لا توجد علاقة تكاملية معرفية بين الوعي والواقع بل علاقة استدلال معرفي محايد لكلا الطرفين. الوعي تجريد لغوي عقلي لا ينتجه الواقع. بل الوعي هو وسيلة الفهم المعرفي للعقل في تعبيره المحايد بوسيلة اللغة عن الواقع وموضوعاته الموجودية.
وليس هناك علاقة جدلية حتى بمعنى التضاد التخارجي بينهما. الوعي كما سبق لنا تجريد عقلي معرفي لغوي لا ينتجه الواقع. بل هو توسيط نقل مقولات العقل عن مواضيعه العقلية الادراكية.
علي محمد اليوسف