إن الحديث عن الفيلسوف الألماني "جوتفريد فيلهلم ليبنتز" (1646-1716م) ليس سهلا، خصوصا وأنه خصب الإنتاج ومتعدد الاهتمامات، بين ما هو سياسي وما هو رياضي وما هو قانوني وما هو فلسفي... ظهرت فلسفته في سياق الصراع الفلسفي للفلسفة الحديثة بين الاتجاه العقلاني القاري والاتجاه التجريبي الانجليزي، واختلاف منظورهما للجوهر والعقل والمعرفة.
وفي مقالنا المتواضع هذا، سنسلط الضوء على إسهام "ليبنتز" في مفهوم المونادة أو الجوهر من خلال كتابه الموسوم ب"المونادولوجيا"، والذي تناول فيه دلالة مفهوم المونادة أو الجوهر، وعددها وترتيبها وكيفية نشأتها وفنائها. فما هي المونادة أو الجوهر في نظره؟ يعد مفهوم الجوهر من المفاهيم الأساسية في الفلسفة، هذا المفهوم الذي حظي باهتمام أرسطو وغيره، أخذ بعدا جديدا مع الفلسفة الحديثة، ففلسفة ديكارت العقلانية تقوم على هذا المفهوم بشكل أساسي، بل إن عماد الفلسفة الديكارتية هو الجوهر. فأول مبدأ يقيني توصل إليه ديكارت بعد عملية الشك المنهجي، هو الجوهر المفكر، والذي كان نقطة انطلاقه لاكتشاف جوهر آخر ألا وهو الجوهر الإلهي الضامن الخالق لكل الجواهر الأخرى، والضامن لقيام المعرفة الحقة. وتبعه في ذلك "سبينوزا" الذي تحدث عن وجود جوهر واحد هو "الله" أما الجواهر الأخرى التي تحدث عنها ديكارت فما هي إلا صفات للجوهر الإلهي في نظر فيلسوف هولندا.
سيأخذ هذا المفهوم بعدا آخر مع "ليبنتز" الذي سيتناول جواهر متعددة قسمها قسمين هما: الجواهر المخلوقة والجوهر الخالق. فماهي هذه الجواهر التي يتحدث عنها "ليبنتز"؟ كيف يعرفها؟ وكيف ينظر إليها؟ وما هي العلاقات الرابطة بينها؟ وما علاقتها بالجوهر الإلهي؟ تعني المونادة ذلك الجوهر البسيط الذي يدخل في تكوين كل مركب، هذا المركب الذي ليس سوى جملة من الجواهر البسيطة؛ يقول "ليبنتز":"ليست المونادة، التي سنتحدث عنها هنا، سوى جوهر بسيط، يدخل في تكوين المركب، والبسيط معناه ما لا أجزاء له".[1] هذا الجوهر البسيط كما يوضح علي عبد المعطي محمد في كتابه:"ليبنتز فيلسوف الذرة الروحية" :"ليس ذرة ولا شكل له، لا مادي، لا يتجزأ، يحمل مبدأ تغيره في ذاته، فهو جوهر حيوي ديناميكي فعال"[2]. المونادة جوهر لا يقبل التجزيء إلى ما هو أبسط منه، لا ينحل إلى ما هو أصغر منه، إنه مكون أساسي لكل مركب. فكيف ينشأ هذا الجوهر البسيط الذي لا ينحل إلى ما هو أبسط إن لم يكن عبر التكوين؟ إن مسألة نشوء المونادة وفناؤها يعود إلى الله في نظر ليبنتز، فهي تنشأ بالخلق، وتنتهي بالفناء، فمادامت جوهرا بسيطا، فلا يمكن أن تنشأ بالتكوين، لأن التكوين يتم عبر إضافة جزء إلى جزء آخر حتى يكتمل الجوهر، لكن المونادة في نظر فيلسوفنا "جوهر بسيط" وبما أنها كذلك فيستحيل أن تكون قد تكونت، لان المتكون ينحل إلى الأجزاء المكونة له، في حين هو ليس سوى ذلك البسيط الذي يدخل في تكوين كل المركب. المونادة إذن، جوهر بسيط مكتفي بذاته، وهنا نلمس الحضور الديكارتي في فلسفة "ليبنتز"، وذلك من خلال تعريف الجوهر؛ فديكارت يعرف الجوهر:"بأنه ما هو بذاته ومتصور بذاته"[3]. نفس الأمر نجده عند سبينوزا الذي يعطي تعريفا مشابها لهذا التعريف، حيث يقول في كتابه الأخلاق: القضية الخامسة "الجزء الاول المعنون "في الله": "أعني بالجوهر ما يوجد في ذاته ويُتصور بذاته؛ أي ما لا يتوقف إنشاء تصوره على تصور شيء آخر"[4]. إن الجوهر إذن لا يحتاج إلا لذاته لكي يوجد، وهو ما يسميه باكتفاء الجواهر بذاتها حتى ولو كان بعضها يحتاج الى علة خارجية كما هو الشأن مع المونادات المخلوقة، وهذا ما نستشفه من قوله:" ليس للمونادات نوافذ يمكن من خلالها أن ينفذ إليها شيء أو يخرج منها. إن الأعراض لا يمكنها أن تنفصل عن الجواهر ولا أن تتجول خارجها" [5]. هل كل المونادات مكتفية بذاتها و تقوم بذاتها ولا تحتاج إلى غيرها أم أن هناك مونادات قائمة بذاتها وأخرى متوقفة عليها كما هو حال الجواهر عند ديكارت؟ إذا كان ديكارت يرى أن الجوهر الإلهي، هو الجوهر الوحيد الذي يقوم بذاته، وهو الضامن لوجود الجواهر الأخرى، وهو الضامن الوحيد لبلوغ اليقين في الأشياء، فهذا يعني أن هناك جواهر مخلوقة وجوهر خالق وهذا ما ينطبق على فيلسوفنا " الذي يقر بوجود جواهر مخلوقة وأخرى خالقة. وكل هذه الجواهر تخضع لتسلسل تراتبي مختلف لتراتبية جواهر ديكارت وسبينوزا، تراتبية تنتقل من الأدنى إلى الأعلى، عكس ديكارت الذي ينطلق من الجوهر المفكر ثم الجوهر الإلهي وصولا إلى جوهر الامتداد، و"باروخ سبينوزا" الذي ينطلق من الجوهر الواحد فقط ألا وهو الجوهر الإلهي والذي تبقى سائر الجواهر الأخرى مجرد صفات له؛ وهو ما يؤكد عليه في كتابه "الاخلاق":"الله-أعني جوهرا متألف من عدد لا محدود من الصفات تعبر كلّ واحدة منها عن ماهية أزلية ولا متناهية- واجب الوجود"[6]. إن "ليبنتز" يعترف بتعدد الجواهر التي تترتب على شكل سلسلة متصاعدة من الأدنى إلى الأعلى؛ وهذا ما عبر عنه علي عبد المعطي محمد في قوله:"من الواضح جدا أن فلسفة ليبنتز عن المونادات تحتفظ بالفكرة القديمة عن تسلسل الكون أو تدرجه إلى طبقات يرتفع بعضها فوق بعض". لكن كيف يرتب ليبنتز هذه الجواهر البسيطة؟ ما هي المونادة الأدنى وما هي الأرقى؟ وكيف وبماذا يميز بينهم؟ يجيب "ليبنتز" على هذه الأسئلة بقوله:"يجب أن تشمل المونادات على بعض الخصائص، وبغير هذا لا يتسنى لها أن تصبح كائنات على الإطلاق. و إذا لم تتفاوت الجواهر البسيطة عن طريق خصائصها المميزة، فلن تكون هناك وسيلة للتحقق من أي تغير يلحق الأشياء؛ لأن ما يوجد في المركب لا يمكن أن يأتي إلا من عناصره البسيطة. فلو كانت المونادات بغير خصائص، وكانت بالتالي غير متميزة عن بعضها البعض-إذ أنها لا تختلف أيضا عن بعضها من ناحية الكم- لترتب على هذا افتراض الملاء () ألا يتقبل كل مكان في أثناء الحركة غير محتوى واحد مكافئ للمحتوى الذي كان يشغله من قبل، بهذا يتعذر تعذرا تاما تمييز حالة تكون عليها الأشياء عن حالة أخرى"[7]. إن تمييزه للمونادات وترتيبه إياها يتم وفق صفات وخصائص تتوفر في كل مونادة، هذه الصفات والخصائص باطنية وليست خارجية بحكم اكتفاء كل مونادة بذاتها وغياب نوافذ تطل بها على الخارج، وعدم تقبلها للانطباعات الحسية، رغم كونها مرآة تعكس العالم. ومع ذلك فهذه المونادات لا تتشابه مع بعضها البعض، كل واحدة تختلف عن الأخرى، وهذا ما يؤكد عليه في قوله:"يتحتم أن تكون كل مونادة مختلفة عن الأخرى. إذ يستحيل أن يوجد في الطبيعة كائنان متشابهان تشابها كاملا، بحيث يتعذر ألا نعثر فيهما على خلاف قائم على خاصية باطنية"[8]. إن هذه الخصائص الباطنية التي تتصف بها كل مونادة، هي التي تجعل كل واحدة تختلف عن الأخرى بالضرورة، فما هي هذه الخصائص؟ إن أهم صفة تجعل كل مونادة تختلف عن الأخرى هي الإدراك. هذا الأخير هو الذي يجعل كل مونادة قابلة للتغير الذي يحدث وفق مبدئها الداخلي، ولما كانت المونادة قابلة للتغير فهذا يعني أنها تنطوي على كثرة داخل الوحدة، أي أنها جوهر بسيط يحمل في طياته كثرة؛ وهو ما يؤكد عليه ليبنتز في القول التالي" الحالة العابرة التي تضم كثرة في الوحدة أو في الجوهر البسيط وتمثلها ليست إلا ما يسمى بالادراك. ويجب التفرقة بينه وبين الوعي أو الشعور"[9]. إن الإدراكات ووضوحها ودرجة تميزها هي التي يميز بها "ليبنتز" المونادات ويرتبها. فكلما كانت الإدراكات واضحة ومتميزة كلما كانت المونادة أعلى وأسمى، وكلما قلّت هذه الادراكات أو انعدمت كلما كانت هذه المونادة أدنى من باقي المونادات الأخرى. سنتبع هذا الترتيب في حديثنا عن الجوهر في الفلسفة ليبنتز منطلقين من المونادات المخلوقة متسلسلين حتى نصل إلى المونادة الخالقة كما فعل هو بنفسه. فالمونادات المخلوقة هي "انتليخيات"، والانتليخيات كما يشرحها عبد الغفار مكاوي هي:"جوهر فردي أو طاقة أو قوة تحتوي في ذاتها على مبدأ التغيرات التي تلحق بها وهو يسميها انتليخيا، لا لأنها حالة من الكمال المتحقق، بل لأنها تنطوي-بالقوة على حد تعبير أرسطو- على بذور كمالات لا نهاية لها تنزع إلى تنميتها وتتعهدها بالرعاية"[10]. إن هذه الانتليخيات أو الجواهر البسيطة أو المونادات المخلوقة حاصلة على اكتفاء ذاتي يجعلها منبع أفعالها؛ يقول ليبنتز:"يمكن تسمية جميع الجواهر البسيطة، أو المونادات المخلوقة، بالانتليخيات، لأنها تحتوي في ذاتها على كمال معين. إنها تنطوي على نوع من الاكتفاء الذاتي، يجعلها مصدر أفعالها الداخلية كما يجعل منها، إن جاز التعبير، آليات غير جسمية"[11]. لقد سبق القول أن ليبنتز يعتمد على الإدراك في تمييز المونادات بعضها عن بعض، فهل هذه الانتليخيات تتوفر على إدراك يجعل منها نفوسا مادامت في نظره آليات غير جسمية؟ يجيبنا ليبنتز بالقول:" إذا أردنا أن نطلق كلمة نفوس على كل ما لديه إدراكات ونزوع...فمن الممكن عندئذ تسمية جميع الجواهر البسيطة نفوسا. ولكن لما كان الإحساس شيئا يزيد على الإدراك البسيط، فقد يكفي أن نطلق على الجواهر البسيطة التي لا تحتوي على شيء آخر سواه اسم "المونادات" أو "الانتليخيات" بوجه عام، أما تسمية "النفس" فيصح أن نقصرها على المونادات التي يكون الإدراك فيها أكثر تميزا كما يكون مصحوبا بالتذكر"[12]. هنا يتضح تمييزه في المونادات المخلوقة بين من ترقى إلى مرتبة النفوس، ومن تظل مجرد انتليخيات فقط. فالمونادات التي لا تتوفر سوى على الإدراك البسيط ولا تتوفر على الإحساس هي مجرد انتليخيات أو ما يسمى بالمونادة النباتية. وهي التي تتميز بكون إدراكاتها بسيطة، وغير متميزة، وغير حاسة، أي أنها مجردة من الشعور. هي مجرد مونادات متناهية في البساطة، يشبهها بالإنسان الذي يعيش حالة إغماء، فهو لا يشعر بشيء ولا يدرك بوضوح ما يجول حوله؛ يقول "ليبنتز" في هذا الشأن:" نتبين من هذا أننا سنكون دائما في حالة إغماء إذا خلت إدراكاتنا من التميز والتطلع إلى مرتبة أسمى. والواقع أن هذه هي حالة المونادات المتناهية في البساطة"[13]. إذا كانت المونادات النباتية هي أدنى المونادات، لكون إدراكاتها لا تتميز بالوضوح والتميز،بل هي مجرد إدراكات بسيطة، فإن المونادات التي تعقبها، تمتاز إدراكاتها بالوضوح أكثر من السابقة، بل تتصف حتى بقدرتها على التذكر، فما هي هذه المونادات؟ إنها المونادات الحيوانية؛ يقول "ليبنتز":"كذلك نرى أن الطبيعة قد أعطت الحيوانات إدراكات متميزة عندما نتبين أنها قد كلفت لها أعضاء تجمع عددا كبيرا من الأشعة أو الذبذبات الهوائية، لكي تجعلها بهذا التوحيد أكثر فاعلية"[14]. ويقول أيضا:"نحن نرى الحيوانات إذا أدركت شيئا ذا أثر بالغ عليها وكانت قد أدركت قبل ذلك إدراكا مشابها- نراها بفضل الذاكرة تتوقع ما ارتبط من قبل بهذا الإدراك وتحس بمشاعر شبيهة بتلك التي أحست بها. فإذا لوحنا مثلا بالعصا للكلاب تذكرت الألم الذي سببته لها وأخذت تنبح ولاذت بالفرار"[15]. إن هذا النوع من المونادات يزيد عن المونادات النباتية بالإدراك والتذكر. فإدراكاتها متميزة وواضحة، بالإضافة إلى كونها تحس (أي تمتاز بالشعور) وتتذكر، لكن هل تتعقل ما تحس به وما تتذكره؟ إن تذكرها مجرد إحساس ينشأ نتيجة تكرار نفس الحالة، فالكلاب كما قال تنبح وتلوذ بالفرار عند رؤيتها للعصا ليس لأنها تعي وتتعقل ما تتذكره وإنما حدث لها اقتران بين الألم والعصا نتيجة التكرار ، يقول علي عبد المعطي محمد:"إن هذا النوع من المونادات أرقى من حيث درجة الوضوح والتميز والتحدد من الأولى. كما أنها تشعر بإدراكاتها، عدا ذلك لا تتصف بصفة التعقلية أو الاستدلالية، وهذه الطائفة يسميها ليبنتز بالنفس الحيوانية. فالنفس الحيوانية تشعر بإدراكاتها، لكنها لا تتعقلها. أما النفس النباتية فهي لا تتعقل إدراكاتها"[16]. إن المونادات الحيوانية رغم كونها تشعر وتحس وتتذكر إدراكاتها إلا أنها لا تستطيع تعقلها، وهذا ما يجعلها أدنى من المونادات التي تتميز بوضوح إدراكاتها، وشعورها وتعقلها لما تدركه ألا وهي المونادة الإنسانية. هذه الأخيرة تصل الى مرتبة الارواح والعقول. المونادة الانسانية مونادة روحية تتميز عن المونادة الحيوانية بوضوح الإدراكات وبالشعور والتعقل، والمعرفة بالحقائق الضرورية، بصدد هذا التمييز يقول ليبنتز:" بيد أن المعرفة بالحقائق الضرورية والأبدية هي التي تميزنا عن الحيوانات الخالصة، وبها نحصل على العقل ونتزود بالعلوم، وذلك حين ترفعنا إلى المعرفة بأنفسنا وبالله. وهذا ما يسمى فينا بالنفس العاقلة أو العقل (الروح)"[17]. إن هذا النوع من المونادات أرقى مما سبقه، وذلك لاتصافه بالشعور والتعقل والإدراك. إنها مونادات شاعرة وعاقلة. تعقل ذاتها وتعقل العالم الذي توجد فيه، وتستنتج من إدراكاتها معرفة ضرورية تصل إلى مستوى المعرفة التأملية؛ يقول في هذا الصدد :"وعن طريق المعرفة بالحقائق الضرورية ومن خلال تجريداتها نرتفع كذلك إلى الأفعال المنعكسة [التأملية] التي توصلنا إلى فكرة الأنا، وتجعلنا نعتبر أن هذا أو ذاك موجود فينا. فنحن إذ نفكر على هذا النحو في أنفسنا، نوجه أفكارنا في نفس الوقت إلى الوجود والجوهر، والبسيط والمركب، واللامادي والله نفسه، حيث نتصور أن ما هو محدود فينا يوجد فيه بغير حدود، هذه الأفعال المنعكسة [أو التأملية] تمثل الموضوعات الأساسية لمعرفتنا العقلية"[18]. هنا يصل ليبنتز إلى تحديد الفرق بين الجوهر الانساني والجوهر الإلهي، يصل إلى تلك العملية المنعكسة التي قام بها ديكارت عند وصوله لأول يقين في الفلسفة، وأول مبدأ أسس عليه نسقه الفلسفي ألا وهو "الأنا أفكر"؛ لنقرأ لديكارت وهو يتحدث عن اكتشافه لأول يقين:"أنا شيء موجود بلا ريب، لأنني اقتنعت، أو لأنني فكرت بشيء، ولكن، لا أدري، قد يكون هناك مضل شديد القوة، والمكر، يبذل كل مهاراته لتضليلي دائما. إذن، ليس من شك في أني موجود، إذا أضلني. فليضلني من يشاء. إنه عاجز، أبدا، عن أن يجعلني لا شيء، مادمت أفكر أنني شيء. ومن هنا ينبغي لي أن أخلص، وقد رويت الفكر، وأمعنت النظر في جميع الأشياء، الى أن هذه القضية "أنا كائن أنا موجود" هي قضية صحيحة، جبرا في كل مرة انطق بها، أو اتذهنها [19]. بعد وصول ديكارت الى إثبات ذاته المفكرة، راح يتأملها من أجل بلوغ معرفة الجوهر الإلهي باعتباره الكمال المطلق التي يتناقض مع النقص الذي يعتري الوجود الإنساني. فوجد في نفسه فكرة الكمال وهي فكرة لها سبب خارجي، أي أن علتها علة خارجية وهو ما يصرح به هنا:"إذا كانت لدينا فكرة، يوجد فينا كمالها، بالفعل أو بالواقع، فمن اللازم إذن أن يكون لها علة خارجا عنا"[20]. وهنا نلمس من جديد الالتقاء الفكري بين ليبنتز وديكارت. فالجوهر الانساني أو المونادة الشاعرة والعاقلة هي الأنا التي تفكر في ذاتها وفي الله وفي الوجود كله رغم محدوديتها أمام لا محدودية الجوهر الإلهي. مما يجعل وجودها متوقف على هذا الكمال المطلق الذي يتصف به الله. فكيف يتوقف وجود المونادات المخلوقة على الجوهر الإلهي-المونادة الخالقة؟ كيف يبرهن ليبنتز على ذلك؟ إن استمرارنا في هذا التسلسل الذي أوصلنا إلى الجوهر الإنساني، جعلنا أمام مونادة تمتلك معرفة واضحة ومتميزة، معرفة تقوم في نظر ليبنتز على مبدأين أساسين هما:"مبدأ عدم التناقض ومبدأ السبب الكافي"؛ يقول ليبنتز:"تقوم معرفتنا العقلية على مبدأين كبيرين: مبدأ عدم التناقض، وبفضله نحكم (بالكذب) على كل ما ينطوي على تناقض، وبالصدق على ما يضاد الكذب أو يناقضه"، "كما تقوم على مبدأ السبب الكافي، وبه نسلم بأنه لا يمكن التثبت من صدق واقعة أو وجودها و لا التثبت من صحة عبارة بغير أن يكون ثمة سبب كاف يجعلها على هذا النحو دون غيره. وإن تعذر علينا في أغلب الأحوال أن نتوصل إلى معرفة هذه الأسباب"[21]. إن ما يجعل منا أرقى المونادات المخلوقة هو كون أدراكاتنا الواعية تجعلنا نمتلك معرفة عقلية ، تقوم على مبادئ عقلية ضرورية تتجلى في مبدأي: عدم التناقض والسبب الكافي. إن الحقائق الضرورية التي تتصف بها المونادات العاقلة هي "إما حقائق العقل أو حقائق الواقع"[22]، تمتاز حقائق العقل بالضرورة وعدم التناقض، ويرجع سببها إلى حقائق بسيطة أصلية في عقولنا، لكن حقائق الواقع حقائق عرضية، لا ترجع إلى أفكار أصلية في عقولنا، وتحليلها يوصلنا إلى أن سببها خارجي، وهنا يقول ليبنتز:" يتحتم أن يوجد السبب الكافي أو السبب الأخير خارج سلسلة أو مجموع سلاسل الأشياء العرضية (الحادثة) كل على حدة، مهما بلغت هذه السلسلة حدا لا نهاية له"[23]. إن هذا البرهان الذي يقدمه ليبنتز على وجود سبب خارجي للحقائق العرضية، شبيه ببرهان أرسطو على وجود محرك لا يتحرك (قوة أو إله..)يقول عبد الغفار مكاوي:"تسير هذه الحجة (حجة وجود سبب خارجي للأفكار العرضية) في نفس الطريق الذي سار فيه أرسطو لإثبات وجود "محرك أول"، إذ اعتمد المبدأ القائل "بضرورة التوقف" في تسلسل الأسباب والشروط"[24]. إن هذا السبب الخارجي لهذه الحقائق هو المونادة الأعظم، أي "الله" باعتباره العلة الخارجية لهذه المونادات المخلوقة. فالبحث عن العلة الأخيرة وراء حقائق الواقع أدى إلى إثبات سبب خارجي لها، وهو الله؛ "وهكذا ينبغي أن توجد العلة الأخيرة للأشياء في جوهر ضروري، يحتوي على تفاصيل التغيرات على نحو سام أشبه بأن يكون مصدرا لها: وهذا الجوهر هو الذي ندعوه الله"[25]. هنا يصل ليبنتز إلى إثبات المونادة الأعلى والأعظم، المونادة الخالقة، إنها الله باعتباره العلة الأخيرة والكافية، والجوهر الأسمى هو وحده القادر على خلقها وإفنائها، هي متوقفة عليه، وهو غير متوقف على أحد، وهو ما نجده عند سبينوزا في كتابه "الأخلاق" حيث يقول :"أعني بالإله كائنا لا متناهيا إطلاقا، أي جوهرا يتألف من عدد لا محدود من الصفات تعبّر كل واحدة منها عن ماهية أزلية لا متناهية"[26]. وكذا عند ديكارت:"لم يبق إلا فكرة الله، وحدها، التي يجب أن ننظر هل فيها شيء لم يصدر عني. وأقصد بلفظ الله جوهرا، لا متناهيا، أزليا، منزها عن التغير، قائما بذاته، محيطا بكل علم، قادرا على كل شيء، خلقني أنا وخلق جميع الأشياء الموجودة، إن صح أن هناك أشياء موجودة"[27]. كل فلاسفة الحداثة إذن ينظرون الى هذا الجوهر باعتباره مطلق الكمال ومُتقوّما بذاته، وجميع المونادات تجد سببها الكافي في الله إلا هو الذي يجد سبب وجوده في ذاته؛"ويمكننا أيضا أن نحكم بان الجوهر الأسمى، الذي هو فريد وكلي وضروري-إذ ليس هناك شيء مما يقع خارجه لا يعتمد في وجوده عليه، كما أنه نتيجة بسيطة لإمكان وجوده-يستحيل أن تكون له حدود ولابد أن تحتوي على أقصى واقع ممكن"[28]. في الأخير يمكن القول بأننا نلمس بعض نقط الالتقاء في فكر فلاسفة الحداثة ديكارت، ليبنتز وسبينوزا، خصوصا في تصورهم للجوهر الإلهي باعتباره جوهرا مطلقا حائزا على الكمال المطلق وبضرورة الوجود، ومصدرا لكل موجود "يترتب على هذا أن الله كامل كمالا مطلقا، إذ ليس الكمال إلا عظم الواقع الايجابي من حيث هو كذلك، (وهو الذي نحصل عليه) عندما نضرب صفحا عن حدود أو قيود الأشياء التي لديها مثل هذه الحدود والقيود. وحيث لا تكون ثمة حدود، أعني في الله، يكون الكمال لا متناهيا بإطلاق"[29]. وباقي المونادات الأخرى تستمد كمالها من الجوهر الإلهي منبع الكمال وما الاختلاف بينهما سوى في ترتيب هذه الجواهر، هذا الترتيب الذي تعبر عنه المقولة التي ينسبها برانشفيك الى ليبنتز والذي ينسبها بدوره لسبينوزا والتي تقول:"إن ديكارت بدأ من الأنا وسبينوزا من الله وأنا أبدأ من المخلوقات".
لائحة المصادر والمراجع:
1-جوتفريد فيلهلم ليبنتز: المونادولوجيا، ترجمة عبد الغفار مكاوي، دار الثقافة للطباعة والنشر، 1978.
2-رنيه ديكارت: تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى ، تثبت أن الله موجود وأن النفس الانسان تتميز من جسمه ، ترجمة كمال الحاج، منشورات عويدات بيروت-باريس، الطبعة الرابعة 1988.
3-باروخ سبينوزا: علم الأخلاق، ترجمة جلال سعيد، دار الجنوب للنشر تونس.
4-على عبد المعطي محمد :ليبنتز فيلسوف الذرة الروحية، دار المعرفة الجامعية، الطبعة الاولى 1980.
-ليبنتز:المونادولوجيا، تعريب الدكتور عبد الغفار المكاوي، دار الثقافة للطباعة والنشر 1978، ص125.[1]
-علي عبد المعطي محمد ليبينتز فيلسوف الذرة الروحية، ص 20. [2]
-روني ديكارت "تأملات في الفلسفة الأولى،ص:19.[3]
سبنوزا: الاخلاق، ترجمة جلال الدين سعيد، دار الجنوب للنشر- تونس، ص30. - [4]
المونادولوجيا، ص:127. - [5]
- سبينوزا الاخلاق، ص:40.[6]
المونادولوجيا، ص:128. - [7]
المونادولوجيا، ص:129. -[8]
- المونادولوجيا، ص:131. [9]
المونادولوجيا، ص:136. - [10]
المونادولوجيا، ص:136. - [11]
المونادولوجيا، ص:137. - [12]
المونادولوجيا، ص:139. - [13]
المونادولوجيا، ص:140. - [14]
المونادولوجيا، ص:140. -[15]
-ليبنتز فيلسوف الذرة الروحية، ص: 26.[16]
المونادولوجيا، ص-ص: 140-141. - [17]
المونادولوجيا، ص:142. - [18]
- ديكارت تأملات ميتافيزيقية، ص:19. [19]
تاملات ميتافيزيقية، ص:32. - [20]
المونادولوجيا، ص: 143. -[21]
المونادولوجيا، ص:144. - [22]
- المونادولوجيا، ص:146. [23]
- المونادولوجيا، ص:145-146. [24]
المونادولوجيا، ص:146. - [25]
الاخلاق، ص:30. - [26]
تأملات ميتافيزيقية، ص:34. - [27]
المونادولوجيا، ص-ص:146-147. - [28]
المونادولوجيا، ص:147. - [29]