أنفاسنظم منتدى الجاحظ الذي يرفع منذ انبعاثه شعار:"من أجل تنوير عربي إسلامي" يوم الأربعاء 4 جوان   2008 مناظرة بين فيلسوفين عربيين مميزين هما المصري حسن حنفي والتونسي أبو يعرب المرزوقي وقد تمحور الجدل حول عدة قضايا أهمها العلاقة بين الدين والفلسفة وأزمة الفلسفة اليوم ودورها في عقلنة تعامل الهوية مع العولمة.
اللافت للنظر أن الحوار بين الفلاسفة العرب هو حوار حول الماهيات وأن النتيجة هي لا غالب ولا مغلوب أي بعيدة عن منطق الانتصار والهزيمة وأن الفوز الأكبر يحصل للثقافة العربية لما وقع تحريكه وتم فتحه من إشكاليات ورهانات نحن في أمس الحاجة إليها في عصر المثقف الاستعراضي والفكر المنمط والذوق الهابط، وهذا اللقاء هو مواصلة لتفاعل تاريخي حول قضايا شؤون الحكم والتنوير والإصلاح الديني ودور المرأة في المجتمع وتجديد العلوم وقد حصل بين أرض الزيتونة وأرض الأزهر منذ ابن خلدون أين وجد خير الدين الى جانب الطهطاوي والثعالبي الى جانب محمد عبده والطاهر الحداد الى جانب قاسم أمين والطاهر بن عاشر الى جانب على عبد الرازق وبورقيبة الى جانب عبد الناصر وخضر حسين الى جانب طه حسين وهاهو التفاعل يستمر فنرى أبو يعرب المرزوقي المنتصر الى التيار الاسمي في الفلسفة العربية ممثلا في الغزالي وابن تيمية وابن خلدون ضد التيار الواقعي يجادل حسن حنفي صاحب مشروع "التراث والتجديد" والمنتصر الى التيار العقلاني والذي يمثله المعتزلة وابن رشد والساعي الى إعادة بناء علوم الدنيا وخاصة علم الكلام وعلم أصول الفقه وعلوم الحكمة وعلم التصوف على ضوء متطلبات العصر والذي تقدم خطوات هامة في سبيل انجاز مشروعه.
1*ماهي علاقة الفكر الديني والفلسفي وتحديات الراهن؟
حسن حنفي:
مصدر المعرفة الانسانية ثنائي وهما بعدان: الأول فلسفي والثاني ديني، الفلسفي أقرب الى المنهج منه الى الموضوع يتميز بالطابع البرهاني العقلاني ويرتكز على التأمل الذاتي وتحليل الخبرة المعيشة، علاوة على ذلك ان الفلسفي بعيدا أن يكون إيمانيا تسليميا ولا يعتمد على سلطة بل مرتبط بالتفكير والتساؤل والحرية والخلق وممارسة النقد ويرى تعدد الآراء.

أنفاس"الأنسنية"، مصطلح يعتمده المؤلف في هذا المقال للدلالة على النزعة الإنسانية القائلة بأن الإنسان هو أعلى قيمة في الوجود، تمييزا لها عن  "الإنسانيات" باعتبارها مادة الدراسة الجامعية التي تُعنى باللغات والفنون والآداب والتاريخ، أو بمعنى أكثر حصرا باعتبارها دراسة المؤلفات الكلاسيكية الإغريقية والرومانية. وكذلك تمييزا لتلك النزعة عن "الإنسانوية" التي تستخدم للدلالة على الميل أو النزوع إلى الإنسانية أو ادعائها. ويعود الفضل في نحت مصطلح الأنسنية ( كمرادف للمصطلح الغربي Humanism ) للأستاذ فواز طرابلسي، في إطار ترجمته لآخر مؤلفات المفكر الراحل إدوارد سعيد، وهو كتاب (الأنسنية والنقد الديمقراطي)، فقد اقتضت الترجمة الوافية نحت مصطلح عربي يستوعب كافة المضامين الفكرية التي أودعها إدوارد سعيد كتابه الأخير، والتي تُبرز تطوره الفكري والأدبي وقد تأوج في التزامه النهج الأنسني (1).
ومن الصعب علينا فهم دلالة مصطلح الأنسنية حق الفهم، بمعزل عن المشكلات الإنسانية والظروف التاريخية التي مرت بعصور من استخدموه من مفكرين وفلاسفة، وهو ما يحتم علينا تتبع البدايات الأولى لاستخدامه. فقد أُطلق هذا المصطلح، أول ما أُطلق، للدلالة على الحركة الفكرية التي يُمثلها المفكرون الأنسنيون Humanists في عصر النهضة، من أمثال الشاعر الإيطالي الكبير  فرنشسكو بتراركه ورفاقه (*). وهي حركة أوضح سماتها السعي إلى الإعلاء من سلطان العقل، ومقاومة السلطة والجمود، وسبيل أنصارها التمرد علي قيود القرون الوسطى وتحطيمها (2).
ويظل اقتراح المفكر المصري إسماعيل مظهر باعتماد النشورية، وليس الأنسنية، ترجمة للمصطلح الغربي Humanism، وكذلك اقتراحه اعتماد النشورى، وليس الأنسني، ترجمة للمصطلح الغربي Humanist، الأكثر تعبيرا عن مضمون تلك الحركة الفكرية المشار إليها سلفا. فالنشورية من النشور بمعنى البعث، وبالتالي هي الأكثر تعبيرا عما قصد إليه المصطلح الغربي من إحياء الآداب القديمة وبعث الإنسان من رقاد القرون المظلمة (3). 

أنفاس"الحداثة التي تخصنا:
لقد قيل لنا أن الفلسفة النقدية المطبقة على التاريخ لها مهمة مبدئية وهي التفكير في الحدود التي تطمح ان تتخطاها معرفة ساعية نحو المطلق عن التاريخ في حد ذاته. ان تناول التاريخ كمفرد جمعي يشيد موضوعه بنفسه - التاريخ- هو التعبير الأكثر وضوحا عن هذا الطموح، لكن هذا الاختبار ليس هو الاختبار الوحيد. إذ يعارضه بالتناظر شكل ثان أكثر تكتما من الادعاء نفسه: يتمثل في الارتفاع بالحاضر التاريخي المشيد الى المطلق بالاعتماد على الملاحظة وبالنظر المحقق في كل الأشكال التي سبقته وبالخصوص الأشكال الثقافية.
يتخفي هذا الطموح وراء خصائص براقة لمفهوم قد سلم منذ البدء من كل تذبذب في مستوى تخطي الحدود هو مفهوم الحداثة. لا ترفع المطالبة المستحيلة المتعلقة بهذا المفهوم الا عندما أعطيناه صياغته النهائية والصحيحة وإلا تكلمناه وكتبناه الحداثة التي تخصنا. 
لا يتعلق الأمر البتة على الأقل سوى بالفكرة التي يشيدها زماننا عن نفسه في اختلافه وجدته بالمقارنة مع الماضي. وكثيرة هي التعابير المترادفة مع فكرة الحداثة مثل خاصتنا وزمننا وعصرنا وحاضرنا.
ان السؤال هو الآتي: كيف يقدر زمننا أن يفكر في نفسه بشكل مطلق؟
انه أكثر الأسئلة دقة بالتناظر مع السؤال الذي اهتممنا به منذ قليل أعلاه: يتعلق الأمر اذن بالتاريخ برمته من حيث هو مفرد جمعي يطمح أن يطرح نفسه بشكل مطلق كموضوع لذاته: التاريخ في حد ذاته.
يرتد الطموح الى المعرفة المطلقة بالانتقال الى هذا الموقع غير الثابت الى المعارض المضبوط لهذا المفرد الجمعي والذي يعني اللحظة التاريخية المفردة والآنية من التاريخ الحاضر.
بيد أن هذا الطموح هو اليوم حيا أكثر حتى ولو أن ما يعتبر نقيضه قد وقع التخلي عنه بصفة عامة. مما لا شك فيه أن المطالبة التي تحركه مازالت قائمة مثل البقية تقريبا تحت تأثير النقد والالتصاق المرجعي بالتاريخ الكلي تحت مسميات تاريخ العالم أو التاريخ الكوني والتي تتقاطع في عمقها التيارات التاريخية المشخصة من طرف المؤرخين.
انه يمكن أن توجد لاأدرية صارمة تجاه فكرة الحداثة غير قابلة للتطبيق. لكن لماذا لا نطمح بالفعل الى القول في أي وقت نعيش ولماذا لا نقول اختلافه وجدته بالمقارنة مع كل الأوقات الأخرى؟

أنفاسالحرية هي صيغه متكاملة ومتفاعلة في حياة الإنسان تنبثق من فاعليته الفكرية والسلوكية وترتفع خارج إطار الفردية و السكونية ,تدفع الواقع نحو الاتساع والتنوع في اختيار المواقف والتعامل معها بفاعليه وبشكل يحقق انتفاع الجميع  من اختيارها كواقع يحض على تفعيل الإبداع والسلوك بعيدا عن الأنانية وجميع أشكال الصدام المبنية على تحقيق النفعية ضمن واقع مختلط بجميع الأمزجة والأهواء الفردية المتنوعة وتعزيز القيم المتساوية البعيدة عن الامتياز ضمن الواقع المعاش .
الحرية واقع يتسم بحرية الفكر والقول والفعل بدون غائية ولا تبعية وبعيدة عن التسلط والفوقية ,إنها تنتمي إلى واقع التبادل والتكافؤ في جميع المواقف السلوكية والفكرية ذات طبيعة سلمية وغير تابعة للقيم الفوقية والدونية وغير مؤطرة أو مرتهنة, لتكون قادرة على إحداث الحراك الاجتماعي والثقافي بأعلى قدر من الجدية والموضوعية. وفي واقع الكبت يمكن تصنيف الحرية ضمن قضايا مطلبيه نابعة من حاجات ضرورية لتحقيق التقدم الاجتماعي والحضاري مثل حرية التفكير والتعبير وحرية إقامة النوادي والجمعيات والأحزاب .... إلخ
وبقدر امتلاك كلمة الحرية من فضاءات واسعة يمكن استخدامها كصيغة واقعية لتبرير التصرف والاتجاه في المواقف المختلفة لحركة المجتمع وبنيته المؤسساتية ومجمل بنيته التحتية والفوقية, التي يمكن اعتبارها مصاغة على أساس الحرية, ولمعرفة منشأ الحرية علينا دراسة الذاكرة السلفية وتتبع صيغتها المفاهيمية فالحرية هي الحرية منذ الأزل إلى ما لانهاية لكن مدلول استخدامها تبدل ويمكن أن نؤشر على ذلك تاريخياً .
في المجتمعات البدائية كانت حرية جمع الثمار والصيد وحرية التنقل والجنس والإنجاب وغيرها من المواقف التي تتكيف المجتمعات وفق حاجاتها وتأمين بقائها .
فالحرية لم تكن محدودة الأبعاد لأنها ناتجة عن الضرورة وبالتالي كانت الأفعال الناتجة عنها نشطة لأنها تعبر عن الحاجة والبقاء .
ويمكن أن يوجه إلينا النقد لأننا نستخدم مفاهيم على مجتمعات لم تكن تعي ذاتها ولم تكن تعي أفعالها وتصرفاتها , لكننا غير قادرين على دراستها وفق حالتها فلسنا أفراداً منها وبيننا وبينها مسافات هائلة من الوعي لكن عندما نسقط إدراكنا على سلوكها إنما نسقطه كمقياس على هذا السلوك وفق طبيعة عصرنا الراهن ومفاهيمه, وبعد تغيير البنية الاجتماعية للمجتمع وانتقاله إلى عصر السيادة والعبودية تغيرت  بنية الحرية وأُسسها وأساليب استخدامها وأصبحت من خصائص مجتمع السادة .

أنفاسلم يكتف ابن رشد في تلخيصه لجمهورية أفلاطون بتجاوز هذا الأخير إلى أرسطو، بل تجاوز أرسطو، والواقع اليوناني الاجتماعي والتاريخي عموما، إلى الواقع العربي في عصره (وقبله وبعده).    
يبرز اهتمام ابن رشد بالواقع العربي والأندلسي منه خاصة، وبصورة لافتة للنظر، عندما ينتقل مع أفلاطون إلى تحليل أنواع "السياسات" -وهي ما نعبر عنه نحن اليوم بأنظمة الحكم- والمقارنة بينها، وبيان كيف تتحول الواحدة منها إلى الأخرى، وتحليل شخصية الرئيس في كل منها، ثم مقارنة سلوك و"طباع" هؤلاء الرؤساء وكيف يتحول الواحد منهم من صنف إلى آخر. هنا يطنب ابن رشد مع أفلاطون، بل أكثر منه، منبها إلى نماذج من الحضارة العربية ومن الأندلس بلده بصفة خاصة، عاملا هكذا على تبيئة "السياسة" عند العرب مع "السياسة" عند اليونان…
وهكذا فمنذ بداية المقالة الثالثة التي خصصها لهذا الموضوع، وعند الكلام عن شروط رئيس المدينة الفاضلة، يستحضر فيلسوف قرطبة وقاضي قضاتها التجربة الحضارية الإسلامية فيقرر، خارج أفق أفلاطون، أنه: "قد يتفق أيضا أن يكون رئيس هذه المدينة ممن لم يصل إلى هذه المرتبة الرفيعة، مرتبة الرئيس الأول (النبي أو الفيلسوف)، ولكنه يكون عارفا بالشرائع التي سنها الأول" (النبي)، وتكون له القدرة على استنباط  "ما لم يصرح به الأول، فتوى فتوى، وحكما حكما، وهذا النوع من العلوم هو المسمى عندنا بصناعة الفقه؛ كما تكون له القدرة على الجهاد. وقد  يتفق أن لا تجتمع هاتان الصفتان في رجل واحد، بل قد يكون أحدهما مجاهدا دون أن يكون فقيها أو العكس، فهما بالضرورة يشتركان في الرئاسة، كما كان عليه الأمر عند كثير من ملوك الإسلام".
وبصدد تحول السياسة الفاضلة إلى سياسة الكرامة (=طلب الشرف والمجد) يستحضر التحول الذي حصل في  الإسلام مع دولة معاوية فيخاطب قارئه قائلا: "وأنت تقف على الذي قاله أفلاطون في تحول السياسة الفاضلة إلى السياسة الكرامية، من سياسة العرب في الزمن القديم، لأنهم حاكوا السياسة الفاضلة (زمن الخلافة الراشدة) ثم تحولوا عنها أيام معاوية إلى الكرامية. ويشبه أن يكون الأمر كذلك في السياسة الموجودة اليوم في هذه الجزر" الأندلس.
وفي نهاية حديثه عن المدينة الكرامية يعقب قائلا: "فهذا النوع من الاجتماعات هو اجتماع الكرامة، يندر أن  يوجد في أمة بسيطة. ولذلك يصعب أن توجد مثل هذه المدن. ولتعلم أن هذا النوع من السياسات ساد عندنا كثيرا".

أنفاسكثيرا ما يطرح علي هذا السؤال : ما علاقة الشعر بالفلسفة ؟ والسؤال هنا هو تساؤل عن وضعي الخاص . أي كيف يمكن لمشتغل بالحقل الفلسفي أن يكون منتجا للقول الشعري ؟ أو بتعبير آخر : هل أتيت إلى الشعر من الفلسفة أم العكس ؟! إذن كلها في نهاية المطاف تساؤلات تدور حول تجربتي الخاصة في ممارسة الشعر والاشتغال بالحقل الفلسفي . لذلك سيكون عرضي أكثر ميلا إلى التأمل في هذه التجربة الذاتية ومحاولة استنطاقها.
أبدأ عرضي بإدراج قولتين  موحيتين : يقول غوته : " لا يأخذ المرء في معرفة شيء إلا إذا كان يحبه ، والمعرفة ستكون من الإحاطة والعمق بقدر ما يكون الحب ، بل الانفعال نفسه أنظمُ قوةً وأحفل حياة ." في حين يقول ليوناردو دافنتشي : " كل وجدان كبير هو ابن لمعرفة كبيرة . " تقدم هاتان القولتان رؤيتين مختلفتين لطرائق الاشتغال التي تتوزع بين إرادة المعرفة والوجدان المحيط بالمعرفة . أي بين المعرفة الصادرة عن العقل والانفعال المرتبط بحب المعرفة ولذة المعرفة نفسها . للوهلة الأولى يبدو بين العقل والانفعال نوع من التناقض لآن العقل يميل إلى البرود والهدوء الفكري والانفعال يميل إلى الاندفاع والمتعة . لكن التراجيديا كلها تتلخص في محاولة إقامة هذا الفصل البائن بين العقل والوجدان ، بين التفكير والانفعال ، بين شروط المعرفة الصورية ، ومطالب الإبداع القلبية . ولعل هذا ما يختصره راسكولنيكوف بطل رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي حين يصرح لصوفيا المومس البريئة : " إن العقل هو ما كان يقودني ، وذلك بالضبط هو ما ضيعني ! " أي أن التفكير البارد الخالي من الوجدان والقائم على التقدير الحسابي هو الذي دفعه إلى ارتكاب الجريمة حين قتل المرابية العجوز . 
إذن أعلن منذ الوهلة الأولى أنني لم آت إلى الشعر من الفلسفة بل أتيت إلى الفلسفة من الشعر . وهذا ما وضعني أمام كثير من الثنائيات القائمة على المفارقة : اللغة / الفكر – الجمالي / المنطقي – الخصوصي / الكوني – الخيالي / العقلي – العاطفي / الصوري – الحسي / الوجودي – الصورة / التصور .. ويمكن لهذه الثنائيات أن تمضي إلى ما لانهاية . ووجدتني أمام الإشكال التالي : كيف يمكنني العبور للقفز فوق هذه الثنائيات ؟ هذا التساؤل هو بالأحرى تساؤل فلسفي وليس شعريا ، وهو ينتمي للحدوس الأولية التي بدأت أكونها عن تجربتي الفنية . سيقودني ذلك إلى نوع من الممارسة المتعالية بالتعبير الكانطي أي إلى محاولة تبين الثوابت الأولية التي تؤسس لعملي الإبداعي  ومحاولة تبين الخيط الناظم الذي يربط الشعر بالفلسفة .
إن الفلسفة في بداياتها الأولى صيغت شعرا وكانت بمثابة انفعال إنساني بالطبيعة في كونيتها . فأشعار بارمنيدس وهيراقليط التي احتفظ ببعض منها أرسطو شكلت رؤية جديدة في الشعر حيث استغل الشعر لا من أجل السرد الملحمي ورواية الأخبار المتعلقة بالآلهة التي تتحكم في أقدار البشر ، وإنما من أجل تكوين نمط جديد من التفكير يقطع مع التفسير الأسطوري للطبيعة .

أنفاسالأستاذ جان باتوشكا[2] الذي وارى الثرى الخميس هو واحد من ثلاثة ناطقين رسميين باسم دستور 77. أريد أن أضيف بعض السمات للنصب الذي أقامه مانيال لوكيارك عن الفيلسوف التشيكي بعنوان: قوة الطبع. وأريد أن أعرف السبب الذي قاد تلميذ هوسرل مؤسس الفلسفة الفنومينولوجية الى أن يكون على رأس حركة تهتم تحديدا بالدفاع عن الحقوق المدنية والسياسية وهذا هو الذي طالب به باتوشكا وما يجب أن يضمنه دستور77 بالنسبة الى الفكر.
 لقد كتب جان باتوشكا في 1936 مؤلفا عنوانه:"العالم الطبيعي بوصفه مشكل فلسفي" ( مؤلف أعيد طبعه في براغ في1971 ونشر بفرنسا ولاهاي في 1976 ) ، منذ الوهلة الأولى يظهر في هذا المؤلف موضوعا خاليا من كل حمولة سياسية. لقد تكلم الكاتب بألفاظ قريبة من ألفاظ هوسرل في "أزمة العلوم الأوروبية والفنومينولوجيا المتعالية" قصد تجذير كل المعارف النظرية في عالم الحياة حيث يحصل الإدراك والانهمام المعرفي على قيمته. فمن هو السياسي الذي يظهر ناقصا في هذا الاستقصاء حول أسس المعرفة؟
على الرغم من أن التقصي نفسه عند أستاذه هوسرل يتمثل في استدعاء يقظة بالنسبة الى الذات الضائعة بين الأشياء وبين الأبنية حيث نسيت أنها الفاعلة- بصرف النظر بكل تأكيد ليس عن البيان السياسي بل على الأقل عن التوسل الكبير الموجه للمثقفين لكي يعثروا أثناء عودتهم الى العقل النقدي على مبدأ مسؤوليتهم الشخصية. لكن ليس من العبث أن نذكر أن مداخلات هوسرل وقع إلقاؤها في 1935 تحديدا في براغ وأيضا في فيانا. والتي كانت قد نشرت بشكل جزئي في بلغراد قبل الحرب العالمية الثانية. لقد تم اذن توجيه النقد نحو الشمولية بموجب استقالة العقل - والعلمية والرومنطيقية والعدمية- التي تضع نفسها في خدمة الطغيان.
 إني لا أتردد في الإقرار بأن استدعاء هوسرل كواحد من المحطات التي من خلالها تعلق الطموح الحاضر نحو الحريات وحقوق الانسان في براغ بعقلانية أوروبية في العصر الكلاسيكي وفي ماوراء الاشتراكيين في القرن 19) لأسباب سأعلن عنها فيما بعد(  .
انه من الصعب بالنسبة الى المفكرين الغربيين وأيضا كل مهتم بالابتعاد عن الأخلاقوية وبتفكيك العقل أن يفهم هذه العودة بالنسبة للمفكرين التشيكيين للأخلاق في الحقل ذاته للاستحقاق السياسي, ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار عاملين من أجل أن نفهمه: العامل الأول يلزم أن نتخيل الانحراف الروحي غير المعقول التي أحدثته الواقعية السياسية. يتحدث فاكلاف هافل حول هذا الأمر وليس عن شيئا آخر في"رسالة مفتوحة الى غوستاف هيساك:" ان النظام-يقول هافل- يمسك المواطنين بواسطة هذا الشكل أو الآخر من الخوف الذي تشيعه الشبكة البوليسية:ان الخوف من فقدان الشغل والسكن وكل امتياز والخوف من أن يرى الأطفال محرومين من حقوقهم في التعليم والخوف من عدم القدرة على النشر الخ كل ذلك يدفع كل مواطن الى أن يكون منافقا" ص70 .

أنفاسحين مضى إيمانويل كانط ليسأل "ماهي الأنوار؟"، كان على يقين من أنَّ مهمته تتعدَّى مقام التعريف، فهو لم يكن يبتغي الاكتفاء، وحسب، بتوصيف ماهية الأنوار، وإنَّما توخَّى قراءة سيرورة التجربة، كما هي في صعودها وهبوطها، وفي أنظمة القيم التي أطلقتها سحابة الفترة التي عايشها فيها.‏
جاء السؤال الكانطي ليفتح على ممارسة فلسفية لا تُبقي الأنوار بمنأى من فضاء النقد، جاء بالسؤال لينقد الخلاء الأخلاقي الذي تسبَّبت به العقلانية الصارمة. لذلك سيرى إلى الأنوار بما هي خروج الإنسان من حالة القصور التي يبقى هو المسؤول فيها عن وجوده. والقصور –على رأيه- هو حالة العجز عن استخدام الفكر (عند الإنسان) بمعزل عن الآخرين. أمَّا الإنسان القاصر فهو المسؤول عن قصوره لأنَّ العلَّة في ذلك ليست في غياب الفكر، وإنَّما في انعدام القدرة على اتخاذ القرار وفقدان الشجاعة على ممارسته، دون قيادة الآخرين". ثم أطلق كانط أطروحته الشهيرة كمحاولة لاجتياز التشيؤ الذي يأخذ بناصية الأنوار:"لتكن لك الشجاعة على استخدام فكرك بنفسك"، وكان ذلك بحق هو شعار عصر التنوير.‏
لم يتوقَّف كانط عند هذا الحد، فوجد أنَّ كمال الأنوار لابد لـه من عقلانية مشروطة بالطاعة. كان يقول "فكِّروا قَدْرَ ما تشاؤون وفي ما تشاؤون، ولكن عليكم أن تطيعوا". وسيؤخذ عليه في ما بعد، بأنَّه زاوَجَ بين حرية الفكر وطاعة الحاكم. –وهنا ليس بالضرورة كما يتبيَّن من تأويلية كانط للطاعة أن يكون الحاكم شخصاً بعينه؛ فسيتبيَّن لنا في ما بعد أنَّه يقصد القانون أو المؤسسة بوصفهما الناظم العام لحركة الأفراد وسلوكهم في الاجتماع أكثر مما يرمي إلى شخصنة المطاع –لكن هذا الإشكال المكسو بالغموض. هو الذي شاع يومئذٍ، حيث ستضاعفه الظروف التي حكمت ظهور الأطروحة الكانطية، لجهة أنَّ صياغتها تمَّت في بلاط الملك فريدريك ملك بروسيا. ومع أنَّ لكانط حجَّته في قولـه إنَّ تحديد الحرية لا يناقض التنوير إذا أُحسِنَ استعماله، فإنَّ غاية "ناقد العقل المحض"، من وراء أطروحته، كانت حفظ الأنوار العقلية بالأخلاق العملية. وهو ما يسوِّغه في مقالته لناحية "أنَّ الاستخدام العام لعقلنا لابد أن يكون حرَّاً في جميع الحالات، وهو الذي يستطيع وحده أن يأتي بالتنوير إلى البشر، في حين أنَّ الاستخدام الخاص لعقلنا لابد أن يخضع لتحديد صارم جداً. دون أن يكون ذلك من الموانع المحسوسة في "طريق التنوير"(1).‏

أنفاسخصص ا.فانزيني، سنة 1975، فصلا للحديث عن علاقة الفلسفة بالعلوم الإنسانية، حيث جعل منها علاقة« صراعات وشكوك »، وّبين أن الحاجة للفلسفة كانت بقدر عجز « علوم التربية »البنيوي على أن توليها مكانة خارج  إطار إبستيمولوجيا الوضعية الجديدة التي تسعى إلى تبرير وجود تلك العلوم بالاستناد فقط على  الإجراء العلمي وحده . وقد لاحظ، بذكاء كبير، أن غياب المصطلح الدال على هذه المعرفة « الما بعد علوم التربية » يشهد على الصعوبات الكبيرة،وعدم القابلية الشبه التامة لحل المشكل كما هو مطروح، بل إن صعوبة البحث التربوي نفسه تجسيد لاستمرار  المشكل. لكن ماذا وقع بعد مرور عشرين سنة على هذا القول ؟ إذا كانت القاعدة المؤسساتية لعلوم التربية قد ترسخت، وإذا  لم يعد مقبولا أن تشطب الوزارة عليها من ضمن لائحة المعارف الجامعية، وبغض النظر عن كل النزاعات الممكن خلقها لها،فالسؤال الجوهري الذي وضعه أفانزيني لا يزال مطروحا. ففي إطار التحول العميق الذي تعرفه البنية السوسيوثقافية الفرنسية، أصبحت الدعوة إلى التفكير في المعنى داخل الحقل التربوي أكثر إلحاحا من نقل مكتسبات العلوم الإنسانية و الاجتماعية  والنفسية إلى المجال البيداغوجي الذي ظلت آثاره على التجديد بعيدة عن ما كان مأمولا فيه، بل، على العكس من ذلك، كان ذاك النقل سببا في شيوع جو من الغموض والخيبة، في الوقت الذي ظلت فيه ال « فلسفة الفرنسية »، في الطرف الآخر، تصب جام غضبها على معرفة تعتبرها مغتصبة. ترى، هل ستكون لدينا الجرأة على المراهنة على الأزمة التي تعيشها، ببلادنا، العلوم الاجتماعية والفلسفة على حد سواء، لجعل فعل التفكير في التربية يتقدم ؟.قد لا يكون الرهان متهورا إلى حد كبير: لنعمل على بلورته.
 العودة الكبرى:
تشتهر فرنسا بذكرى 14يوليوز، لكن من الممكن أن تشتهر أيضا بكونها مجتمعا محافظا وأكثر إثارة لمصالحه : إنه ضحية التحولات التي تقوده، طوعا أو كرها، نحو مصيره المحتوم، أي نحو مجتمع الحريات. لابد أن نتفق على أننا لا نعني مجتمعا يحمل صورة مجردة عن الحرية،والمساواة و الأخوة، وإنما مجتمع يعطي للأفراد الذين ساهموا فعلا في تكونه  وسائل تحقيق هذه الأفكار الديمقراطية المثلى. من بين هذه الوسائل نذكر التربية التي،باعتبارها تكوين للإنسان،أصبحت من دون شك الأكثر فعالية، علما أن الجواب عن الأسئلة المطروحة لا يمكن أن يأتي من « الفكر الشمولي » وإنما من المبادرة والقدرات التي يضطلع بها كل فرد كي يثير فيه و حوله هذه الأجوبة. لقد أصبح مجتمعنا، أردنا أم كرهنا، مجتمعا تربويا: فرجل السياسة المطلوب منه النجاح سيصبح الرجل الذي يثبت، إلى جانب برامجه و وعوده، أنه « رجل التربية الأفضل ».

العقل الكوني مندمج في بنية الوجود التفاعلية والتبادلية وهو نظام للحركة المعرفية والبنية المولدة للوعي المرتبط بماهيتها والقادر على تشكيلها بدلالات وعيها لقوانينها والتطبيقات الجارية وفق هذه القوانين المرتبطة بمختلف المجالات وتطويرها بما يطابق نظام العقل المرتبط بالحياة.
العقل الكوني يقاوم محاولة وعيه واكتشاف حقيقته الذاتية الصرف لأن وعي البحث عنه هو وعيه ، فالوعي ضمن هذا المجال متحرر من التبعية والانفعالات ن فالعقل الباحث عن الروابط الكونية للعقل يخرج عن دائرته الضيقة في نظام العقيدة المرتبطة بالمادة الجسدية والانفتاح على جميع المعالم والعوالم المعبرة عن العقل في صيغته الكونية ، غنه الإغراق في التلازم بين الوجود وعقله المعبر عنه.
فالعقل الكوني يعبر في وجوده الظاهري عن هويته الكونية المتوافق مع كل موجداته الحية وغير الحية العاقلة والصامتة ، والذات الكونية هي الوحدة المركزة في الوجود في كل مجال وكل صورة وكل مادة إنها نظام التفاعلات بين العقل والمادة، لأن العقل الكوني قطب نهائي للمادة في نظام الكون يلامسها في جوانبها وفي صميمها الداخلي.
العقل الكوني سلام روحاني داخلي مؤثر عندما يتعمق فهمنا له في نظام الوجود يعزز روح التآلف بين العقل والحياة ، ويرتبط بنظام المحبة في العلاقات المتبادلة على كافة المستويات . من هنا نعتبره إرساله طوباوية غير قابلة للتصديق، لأن الحقائق المرتبطة بوجوده هي معجزة بالنسبة إلى العقل البشري فطاقة استغراق العقل البشري محدودة على المستوى الزمني والعامل ألاستغراقي في العقل الكوني يحتوي الزمن بكاملة وهذا ما يجعل نظامه أشمل ووعيه للوجود أدق وأكمل والفضاء الداخلي لنا نسخة صغيرة مخبأة معبرة عن العقل الكوني والدين يقلص المساحة المنفتحة للعقل بالإيمان العام والشرك المادي أما الفلسفة الأزلية تواكب التطلعات نحو عقل كوني في نظامها المنفتح على العقل وكما جاء في العهد القديم (( ويكون بعد ذلك أني أسكب روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويحلم شيوخكم أحلاماً ويرى شبابكم رؤى )) العهد القديم يوئيل الإصحاح الثاني آية 28)).
فالعقل في نظام الجسد يطابق العقل الكوني في النظام الأرضي ويعمل ضمن مستويات ثلاث فيزيائية نفسية وعقلية. فالجسد وسيلة للتعبير عن العقل الشخصي والكون وسيلة للتعبير عن العقل الكوني فالكون يسعى لتحقيق عقله والعقل يسعى لتحقيق لتأمين جسده والتأثير في بنيته لتأمين استقراره النسبي ويتصل العقل بالجسد من خلال هالة يمكن توجيهها لتأخذ من العقل حاجتها ، ويدعي بعض الموهوبين بان لديهم القدرة على رؤيتها بالعين المجردة .

أنفاستمهيد
      إن ما يبرر اهتمامنا بمسألة المواطن من خلال كتاب ماركوز" الإنسان ذو البعد الواحد" أن ماركوز-باعتبار انتمائه لمدرسة فرانكفورت النقدية –تسعى للكشف عن تحول العلم والتقنية إلى إيديولوجيا أمكن من خلالها أحكام قبضتها على الإنسان ، وتحويل عقله من عقل أنواري إلى مجرد عقل أداتي . وقد نجح ماركوز في الكشف عن عنف الاستغلال النسقي للطبيعة والإنسان. فالفكر تم احتواؤه من قبل السلطة وجرد من حق الرفض وأصبح سلعة واللغة بدورها تشيأت ولم تعد تمثل مأوى الوجود ومسكنه وإنما أداة للإشهار السلعي تمر عبره تربية الجمهور وتطويعهم مما يهيئ لحمق سياسي . وتم تسخير العلم لممارسة التسلط التي ازدادت حدتها في الواقع الاجتماعي ،فإرساء قوانين عامة للظواهر الطبيعية تلاه نقل القالب نفسه الذي مهد لإخضاع الشعوب وفقا لمراسيم وقوانين المستبدين ،وإخضاع المواطنين لأوامره وقوالبه مجندا إياهم تجنيدا شموليا تنظمهم على الشاكلة نفسها وتتحكم بهم قسرا .وحتى العلوم الإنسانية لم تسلم هي الأخرى من التسخير من طرف السلطات السياسية والاقتصادية ."فمثل هذا المجتمع قد يتطلب تقبل مبادئه ومؤسساته.فلا يعود من دور للمعارضة غير مناقشة
 الاختيارات والحلول السياسية البديلة والبحث عنها داخل الوضع القائم وسواء كان النظام مستبدا أم غير مستبد، فليس لذلك من أهمية مادام يعمل على التلبية المتدرجة للحاجيات."ص38
إن هذه الصورة الحقيقية للمواطن في عصر التقنية هي التي دفعتنا لاختيار كتاب "الإنسان ذو البعد الواحد "من أجل اختبار الوضع الحقيقي للمواطن،خاصة ونحن نشهد عصرا يكثر فيه الحديث عن حقوق المواطن داخل الدولة وضرورة احترام مبدأ المواطنة حتى أصبح تقدم الدول وحداثتها مرهون بمدى استجابتها لاحترام مواطنيها. فهل نجد حقا مثل هذا التقديس للإنسان والمواطن بصفة خاصة داخل الدول الصناعية أم أن مواطن هذه الدول حاله حال المجتمعات النامية يعيش اضطهادا وتهميشا تحجبه غشاوة السعادة التي خرجت من معطف صناعة التسلية والترفيه وثقافة الاستهلاك؟
 لما كانت المواطنة هما فلسفيا بامتياز انشغل بها مؤسسو الفلسفة السياسية الحديثة واعتبروها من مقومات الدولة الحديثة نظرا لارتباطها بقيم الحرية والمساواة والمسؤولية وابتغاء الخير العام ، فإنه لابد من ربطها بأصلها وهو الإنسان حتى نفهم مدى استجابة فكرة المواطن لطموح الإنسان في أن يعيش الحرية والعدالة والمساواة. وهو ما يدفعنا للبحث والتساؤل عن طبيعة علاقة الإنسان بالمواطن .