anfasse.org"إن المبدع لنتاج يدين به لعبقريته لا يعرف هو نفسه كيف توجد فيه الأفكار الخاصة بهذا النتاج"[1]
أثار غياب الفيلسوف عن دائرة حضارة اقرأ منذ ابن رشد وابن خلدون حفيظة المثقفين والقراء حول الصفة التي تليق بمقام هذا الكاتب المنتظر والعالم الموعود والصفة التي يمكن أن تنعت بها المجهودات التنويرية التي يفترض أن يبذلها لتفادي حالة الضعف وموقف العجز ولكسب وسائل المنعة وإعداد القوة الفكرية. ولئن وصف بكونه متفلسفا حرا يسهم في تحريك العقل العربي ويعيد الاعتبار إلى الفلسفة الإسلامية وفق مناهج وآليات معاصرة فإن البعض الآخر قد يقللون من شأنه ويتعاملون معه على أنه مجرد مفكر ابستيمولوجي ومربي أناسي ومؤرخ للأنساق المعرفية. أما الفريق الثالث فقد يعتبره مصلحا دينيا وقارئا هرمينوطيقيا جيدا للقرآن والمدونة الشعرية والنثرية ومفجرا لثورة ثقافية تطال أهم العلوم الإنسية والصحيحة وتطرح من جديد إشكالية التراث والحداثة والخصوصية والكونية من منظور تقدمي.
 لكن الفرضية التي يمكن اختبارها في هذا الصدد هي مدى استحقاق مثل هؤلاء الأساطين المصلحين صفة العبقرية، فهل يجوز لنا أن نعتبر محب الحكمة عبقريا ؟ وماذا تعني كلمة عبقرية لغة واصطلاحا؟ وكيف يمكن التصرف فيها دون الوقوع في نظرة عنصرية أو حكم ثقافي متعال؟ وهل هناك عباقرة أخرون مازلوا على قيد الحياة ويمكن للمجتمعات العربية أن تستفيد من اجتهاداتهم وعلمهم؟ وكيف تتعامل الأنظمة السياسية معهم؟ وهل تشجعهم أم تتفادى آراءهم؟  وهل العبقرية  تحصل بالطبع أم يرتقي إليها المتعلمون بالاكتساب؟ وهل هي الذكاء والفطنة أم المهارة والصنعة؟ وهل تتجلى في الاختراع المادي للوسائل أم في التخطيط النظري للغايات؟ والى أي مدى يسمى كل مبدع عبقريا؟  وما الفرق بين الذكاء الاصطناعي والعبقرية ؟ وهل نشجع الإبداع من أجل الرقي أم نحاصره خشية الفتنة والاضطراب الذي يحصل في النفوس؟ فمن هو الذي يستحق شرف تسمية عبقري؟ ألم يعتبر عباس محمود العقاد النبي محمد (صلعم) والخلفاء( رضع)  بدرجة أقل من عباقرة الإنسانية؟ وهل يمكن أن نعتبر العبقرية بعد ختم النبوة صفة بشرية يجوز إطلاقها على الكائن الآدمي المتناهي؟

jabri2.jpgإنه محمد عابد الجابري فيلسوف العرب الذي غادرنا عن خمسة وسبعين عاماً، وأربعين كتاباً، ومئات من الأسئلة المتعمقة المقلقة حول التراث والحداثة والعصبية والدولة والتعليم وحقوق الإنسان، وقضية مركزية أخلص لها وأفنى عمره في الانشغال بها هي قضية النهوض العربي. لطالما جسّد الجابري قيمة فكرية والتزاماً سياسياً تتضاءل إلى جوارهما أية ألقاب أو درجات علمية حصل عليها. وفى زمن عربي تعطى فيه الدرجات العلمية الرفيعة أحياناً لأسباب ليس من بينها بالضرورة الجدارة العلمية يدرك المرء كم هو مجحف أن تتساوى «دكتوراه» عابد الجابري مع غيرها من درجات الدكتوراه الأخرى! كان لقائي الأول والأخير مع الراحل الكبير في منزله الهادئ في الدار البيضاء. احتفى بي بكرم عربي أصيل. كدت أسمع في منزله صوت السكوت في هذا المساء المغربي الشارد بينما صدى صوته يتردد من حولي. ما زلت أذكر جيداً كلمته وهو يحكي عن عزلته التي صنعها لنفسه في السنوات الأخيرة.
(1)
لا ينتهي الكلام عن مؤلفات «الأستاذ» محمد عابد الجابري تأييداً أو نقداً. إنها سمة المفكرين المجددين الذين لا يتوقفون عن إثارة الجدل والتأمل ويظلون قادرين دائماً على رؤية الأشياء ذاتها ولكن من زاوية أخرى لم تخطر لنا على بال. كتب كثيرون وسيكتبون عن مؤلفات الجابري والقضايا التي أثارها والأفكار التي طرحها. لكن تبقى ملامح شخصية المفكر الراحل جديرة بتسليط الضوء عليها.

jabri.jpgيعد المغربي محمد عابد الجابري من بين المفكرين العرب ذوي المشاريع النظرية الأكثر لفتا للانتباه، واجتذابا للنقاش والجدل في اللحظة الراهنة.
وإذا أردنا جمع هذه المشاريع حول سؤال مشترك، يمكن القول إن الهاجس الغالب عليها هو التفكير في سؤال النهضة، كما جاء في مقال للباحث الطيب بوعزة بموقع "الجزيرة نيت"، مع اختلاف في كيفيات طرق السؤال والإجابة عنه، بسبب تعدد واختلاف المداخل المنهجية التي توسل بها أصحاب تلك المشاريع.
أما المدخل المنهجي، الذي اختاره الجابري فلم يكن مدخلا سياسيا ولا اقتصاديا بل إبستمولوجيا، إذ يرى أنه لا نهضة دون تحصيل آلة إنتاجها أي العقل الناهض.

ولا يمكن تحصيل هذا الفكر القادر على صناعة النهضة دون نقد للعقل العربي وبحث صيرورته التاريخية وتحديد المفاهيم المتحكمة في بنيته، من أجل بيان الحاجة إلى عصر تدوين جديد يؤسس للعقل نظاما معرفيا قادرا على الاستجابة لتحديات الراهن.
هذا المطلب هو الذي اشتغل المفكر محمد عابد الجابري بقصد إنجازه طيلة ما يقرب من نصف قرن، متوجا ذلك بإنتاج موسوعته "نقد العقل العربي" وهو الإنجاز الذي رأت اليونسكو أنه يستحق أن يكرم في الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة سنة 2006.

من الرياضيات إلى الفلسفة

كثيرا ما تلعب أقدار، تبدو صدفا في مسار حياة الناس، دورا رئيسا في تشكيل مستقبلهم، وبالرجوع إلى حياة الجابري يستوقفنا حادث كان هو المنعطف نحو توجهه إلى التخصص في الدراسات الفلسفية، لأن الرجل كان في ميوله الدراسية عاشقا للرياضيات.

khaldoune.jpg"إن علم التعبيرعلم بقوانين كلية يبني عليها المعبر عبارة ما يقص عليه وتأويله"[1]
استهلال:
تأخرت الكتابة عن ابن خلدون نسبيا بالمقارنة مع غيره من الحكماء العرب على الرغم من أهمية المنعرج الذي أحدثه في تاريخية الفكر العربي الإسلامي وقوة الكشف العلمي لسنن الظواهر العمرانية ودقة الإشكاليات التي طرحها بالنسبة إلى حضارة اقرأ وخطورة القرارات النظرية والعملية التي اتخذها بشأن تدبير الاجتماع البشري واستراتيجية الإصلاحات التي اقترحها بالنسبة إلى الثقافة الإنسانية جمعاء.
 كما استقرت الخيارات المعرفية عند جملة من المنطلقات المعاصرة والمرجعيات التحديثية بالرغم من النزعة الخلدونية البادية للعيان عند كل كاتب يشتغل على هموم الأمة سواء على مستوى شكل اللغة المستعملة أو ضمن الروح الفكرية التي يؤطر بها مباحثه ويرصع من خلالها مقالاته .
ولعل سبب هذا التأخير هو كثرة الضجيج حول هذه الشخصية الفريدة وتزايد النصوص المدحية الافتخارية لكاتب المقدمة مما جعله يكون ملهم لمرجعيات متنافرة مثل تنافر المادية التطورية مع الدينية الروحانية. والداعي الثاني هو الرغبة في التخلص من الهالة السحرية التي يمارسها تمثال ابن خلدون على المخيلة الإبداعية لكل عقل باحث عن وجهة نظر فريدة من نوعها وذلك بوصفه ما لا يمكن تجاوزه تصديقا للحديث الشريف:" لا نبي بعدي"  وتفعيلا لمنهجية النقد الهرمينوطيقي التي نروم استعمالها هاهنا. فهل يجوز التفكير هرمينوطيقيا مع ابن خلدون؟ أو بعبارة أخرى ما السبيل إلى استخلاص تجربة هرمينوطيقية بالانطلاق من مقدمة كتاب العبر؟
إن  التسلح بروح المغامرة وببعض من الحذر الفلسفي والتزود بالتدبير التعقلي قد ييسر علينا إمكانية الشروع في القيام بقراءة هرمينوطيقية نقدية لمقدمة ابن خلدون تحفر بين تضاريسها وتنقب في طياتها وتتجول في أروقة عمارتها وتستعيد اللغة التي كتبت بها والمقولات التي عبرت عن قدرته التأليفية المدهشة وتقف عند مواطن الضعف والقوة وحركات الصعود والهبوط في الأسلوب الخلدوني.

freund.jpg"إن الكثير من الازدراءات تصدر عن السفاهة المنتشرة جدا حتى داخل الأوساط العلمية والتي تتمثل في النظر إلى الفكر على أنه مأوى المعقول والى الفعل على أنه مأوى اللامعقول. بينما اللاعقلانية هي أيضا تجري في هذه الدائرة وتلك..." جوليان فروند[1]
تقديم:
أصبحت صفة اللامعقول تهمة تستعمل في الصراع الإيديولوجي بين الأفراد وتلصق بها جميع الصفات السلبية ولذلك وظفت كمطية للإقصاء والتهميش الذي يتعرض له المناوئين والمنتقدين والمخالفين، أما كلمة المعقول فهي ترمز إلى الواقعي والحقيقي والمنطقي والموضوعي وترتبط بالعلم والمعرفة المنظمة وتحوز على قدر كبير من القيمة الإبستيمولوجية والصلاحية الأكسيولوجية. غير أن المعضلة لا تكمن في الحدين كل على جهة بل في تحديد المعايير التي بواسطتها يتم التمييز بين الطرفين ورسم الخطوط التي تفرق بين مجال الخيال والظن والعبث والوهم والفانتازيا ومجال التطابق والوحدة والكلي والحق والنظام. فهل تكفي لام النفي لنجزم بوجود تنافر بين المعقول واللامعقول؟ والى أي مدى يتقدم الفكر العقلاني بتحطيم الفكر اللاعقلاني؟ أليست الفلسفة هي حركة استكشاف متواصلة للمناطق التي لم تصلها تجربة العقلنة بعد والتي مازلنا  نسميها إلى حد الآن أرض اللامعقول مثل الأسطورة والدين والتصوف؟ ألا تحتوي هذه الدوائر على قدر مخصوص من العقلانية مايزال مطمورا في رمزيتها ومنطقها الفريد؟ فهل يمكن أن نعتبر اللامعقول هو الآخر الذي ينهل منه المعقول ويمثل شرط امكانه؟
يحاول جوليان فروند في هذا النص المقتطف من كتابه الفلسفة الفلسفية أن يجيب عن هذه الاستفسارات.

kant.jpg"يحتاج العقل البشري لفكرة الكمال التام التي يستخدمها كسلم يرجع إليه من أجل أن يتمكن من تحديد نفسه"[1].
إن السياق خوض في هذا المبحث هو الرد على من يربط التفكير الفلسفي الحر بالتشكيك في قدسية الدين ومن يتهم معظم الفلاسفة بالإلحاد وهم منه براء ويأتي أيضا لإبراز حضور المسألة الدينية كمنطلق نظري ومسطح محايثة أخلاقي لدي مفكري الحداثة والتنوير.  ولكن السبب الأبرز هو البحث في خلفية اعتبار البعض من الكانطيين الجدد وخاصة جيل دولوز[2] كانط هو أول القائلين بموت الله على الصعيد النظري قبل نيتشه خاصة لما فرق بين المعرفة العلمية الخاضعة للتجربة والتفكير الفلسفي المبحر في التجريد وبين المظهر الخارجي الموصوف والجوهر الباطني الملغز وأكد استحالة معرفة الأشياء في ذاتها وأن الغيبيات هي موضوع للاعتقاد والتسليم فحسب ولما جعل البرهنة على وجود الله في نقد العقل المحض واحد من ثلاثة نقائض antinomie يقع فيها العقل البشري.
ربما تكون مثل هذه الآراء واحدة من المبررات التي جعلت تيار الوضعية المنطقية مع حلقة فيانا والعلمويون المغالون ينتزعون تأويلا ابستيمولوجيا من المدونة الكانطية الثرية وينظرون اليه باعتباره واحدا من المنهجيين الملحدين ومن الناقدين الجذريين للميتافيزيقا والدين والمشيدين للحداثة بالمعنى العلمي محتجين بقولته الشهيرة:"ما من ثورة في مجال العلم وإلا وكانت ثورة في مجال المنهج".
 لكن ألم يستعد كانط بالأخلاق والدين ما كان قد أضاعه بالمعرفة والعلم؟ ألم يكن يترك زمنا معينا للإيمان أثناء الوقت الذي يتفرغ فيه للتأمل الفلسفي العميق والبحث العلمي الشاق؟

karl-marx.jpgيحدد ماركس للفلسفة مهمة جديدة، هي تغيير العالم.و موقفه هو موقف مادية الممارسة* التي تفكر في كل الأشياء انطلاقا من النشاط الذي يبذله البشر.
ما مصدر هذا التردد الذي ينتاب البعض في اعتبار ماركس فيلسوفا بالمعنى التام للكلمة؟ لماذا لا ينظر إليه كواحد من أكبر الفلاسفة وعلى قدر كبير من الأهمية مثل أفلاطون وديكارت وسبينوزا وكانط وهيجل أو نيتشه؟ هل لأن أعماله هي في الوقت ذاته، أعمال عالم الاقتصاد وعالم الاجتماع والمؤرخ ولأنه مؤسس ومنظم الحركة العمالية؟
ينبغي أن نبحث عن أسباب ذلك، أولا في مؤلفاته ، ثم في الانتقادات التي وجهها إلى الفلسفة. وإذا كان قد انتقد الفلسفة، فهل لأنه لا يتصور نفسه كفيلسوف؟ إن المسألة تكمن في معرفة من هم الفلاسفة وأنماط الفلسفة التي انتقد؟ هل هم المثاليون؟ من المؤكد أنه يعتبر نفسه فيلسوفا ماديا...لكن الأمر ليس بهذه البساطة ؛ لنأخذ مخطوط ًالأطروحات حول فيورباخ ً، خاصة الأطروحة الشهيرة : ً لم يعمل الفلاسفة سوى على تفسير العالم ، في حين أن ما ينبغي فعله هو تغييره ً...يظهر ماركس هنا منتقدا للفلاسفة المثاليين : يؤاخذ عليهم كونهم نحتوا مفاهيم مجردة ( مثل ً الروحً عند هيجل ) واعتبروها محركا للتاريخ. أما هو فيرى، أن الفاعلين الحقيقيين هم البشر كما هم في الواقع ، برغباتهم الواقعية التي من أجل تحقيقها يشتغلون ويدخلون في علاقات تبادل متنوعة. غير أن ماركس هو أيضا ناقد للفلاسفة الماديين: فهؤلاء بدورهم، ورغم المظاهر، ذوو نزعة تجريدية كالمثاليين، لكن ليس لنفس الأسباب.إن طريقتهم في تصور الأشياء مجردة، لأنهم يتركون جانبا بعد الفاعلية activité، و لا يرون في كل مكان إلا المادة الجامدة.

ANFASSE"من أهم أغراضي أن أقنع القارئ بأن كل المواضيع التي يتعلق بها هذا الكتاب إنما هي في آخر التحليل موضوع واحد، وأن تلك الموضوعات إنما هي سبل ووسائط مختلفة تؤدي إلى مركز مشترك وفي تقديري أنه على فلسفة الثقافة أن تكشف ذلك المركز وأن تحدده."
طُرِحت على  أرنست كاسرر( 1874- 1945) أحد المنتسبين إلى مدرسة ماربورغ مسألة تبسيط الأفكار الواردة في كتابه الضخم والصعب "فلسفة الأشكال الرمزية" المنشور منذ سنة 1923 فكان رده أن ألف كتاب جديد صغير الحجم ولكنه مبهر من حيث المحتوى سماه مقال عن الإنسان. وهذا الكتاب يتضمن افتتاحية وخاتمة وينقسم إلى جزئين كبيرين ينقسمان بدورهما إلى اثني عشر فصلا ، يحتوى الجزء الأول على خمسة فصول وعنوانه ما الإنسان؟ والجزء الثاني على سبعة فصول وعنوانه الإنسان والثقافة. تتضمن الافتتاحية معلومات مهمة تتعلق بظروف تأليف الكتاب والسياق العلمي الجديد في الولايات المتحدة الذي حتم عليه الكتابة بالانجليزية والابتعاد عن الكتابة المختصة واعتماد كتابة مبسطة تسهل التقبل وترضي الانتظارات العمومية. فهل يعني ذلك أن كتاب "مقال عن الإنسان" هو مجرد تلخيص لكتاب فلسفة الأشكال الرمزية أم أن الأمر أكثر من ذلك بكثير ويتعلق بالبحث في كيفية تبسيط العلم مع اختزال واستبدال المفاهيم الفنية والمراجع التقنية الصرفة بأشكال وصور بلاغية تفوز بانتشار أوسع؟
جواب هذا الكانطي الجديد كان حاسما لأنه رأى "مهمته لا تتعلق بوضع كتاب شعبي يلقى الرواج على قدر ما تفقد منه الضوابط العلمية" وبالتالي يختار أن يطرح قضية أنثربولوجية خطيرة تتعلق بتحديد طبيعة الكائن الإنسي وهي قضية لا تهم المتفلسفين لوحدهم ولا الأكاديميين فقط بل تعود بالنظر إلى كل إنسان أينما كان بصرف النظر عن مستواه الثقافي والمعرفي. فكيف استطاع كاسرر أن يجمع في هذا الكتاب بين صرامة العلم وضرورات الانتشار؟ وعلى ماذا يدور الكلام في هذا المتن الصغير؟ وماهي نكتة الإشكال فيه؟ وماذا استعمل من عدة مفهومية من أجل معالجة هذا الإشكال؟وهل هناك حضور كثيف للمرجعيات العلمية والمقاربات الابستيمولوجية والمنهجية؟ والى أي مدى تضمن رهانات إتيقية؟ وبأي طريقة تمكن كاسرر من تعريف الإنسان؟ وهل أرضى التعريف الحديد الذي قدمه الدوائر العلمية في أمريكا آنذاك؟ وماذا حدث بينه وبين هايدغر في دافوس سنة 1929؟ وهل خلافهما يعود إلى عدم رضا كاسرر بمفهوم الدازاين الذي وشح به فيلسوف برلين هوية الإنسان؟

oumari4.jpg"لقد مات التأويل ونشأت التأويلات"
"إن الإقرار بأن كل فهم يتضمن حكما مسبقا هو إقرار يمنح المشكلة الهرمينوطيقية قوتها الحقيقية"[1]
ما من شك في أن قضية التأويل هي من أعقد المسائل وأكثرها إثارة للجدل عند القدماء والمحدثين على السواء وذلك لارتباطها بمحاور على غاية من الأهمية وتأثيرها في مواضيع حساسة يتداخل فيها الدنيوي بالمقدس والفقه بالسياسة والأخلاق بالعلم والتنظير بالتطبيق وأزمات السلطة بطموحات الرغبة.
ومن البين أن الحديث عن فكرة التأويل وتطور المفهوم والتطرق إلى مناهج البحث فيه من طرف مختلف الاتجاهات الفكرية مهما تفرقت مشاربها لم يعد أمرا مخفيا ومتعذرا أو مؤجلا بل صار حديث الساعة ومطلبا حيويا وحاجة أكيدة وذلك للأخذ بالأيادي المنتجة وإضاءة عقول الناس حتى يتمكنوا من فهم أمور دنياهم ويتدبروا شؤون عالمهم ولمساعدتهم في سعيهم للكشف عن مواطن الخلل في نظرتهم إلى أنفسهم والى من حولهم وتفادي الوقوع في الأخطاء التفسيرية لنصوصهم وأيضا من أجل شد أزرهم في عملية البحث عن حلول مناسبة لمشاكلهم الصعبة وتحدياتهم المستعصية.
ولا تحاول الهرمينوطيقا بماهي فن في التأويل الوصول إلى الفهم الصحيح للنصوص المقدسة كما يتبادر للأذهان فحسب بل هي تجعل من كل التجارب التي يخوضها الإنسان في حياته نصا وتعمل على تحويل هذه النصوص إلى أفعال وحركات ثورية في التاريخ ومقامات وجود وتتيح فرصة التأمل الناضج والعقلاني لكل دين وتقترح إصلاحا مناسبا للطرق التربوية والمناهج التفسيرية . كما أن هذه الصناعة الشريعة والفكرة اللطيفة تسعى إلى مواكبة التطور الثقافي وتتكيف مع التغير الذي يطرأ على نظرة الإنسان إلى الكون وتدعو إلى ضرورة الانفتاح على المستجدات وتشارك في كل توجه يقصد بناء الحضارة ويرتقي بالفكر نحو معايشة الواقع والتعبير عن جوهر التغيير المادي والنفسي والأخلاقي.

anfasseلقد أفضت موجات الحداثة المتتابعة الى تقدم هائل في العلوم الطبيعية لاسيما في القرنين التاسع عشر والعشرين ، ولم يعد من السهولة بمكان قياس قدرات الأنسان في السيطرة والتحكم بالطبيعة وتجييرها لصالحه .. فضلاً عما تحقق من تقدم ورقي في مضامير الحضارة والثقافة ..  يعد طفرة أفتراقية هائلة عن مرحلة القرون الوسطى .. أنجلت عن تطور نوعي كبير تمخضت عنه (( حياة أجتماعية مترفة تصوغها أنظمة قانونية ونظريات معرفية )) لكن هذا التطور الكبير بأدواته التكنولوجية الجبارة ، لم يخلق التوازن النفسي المطلوب للجنس البشري ، وبالتالي لم يوفر للأنسان بحبوحة السعادة المرتجاة .. رغم هذا الترف والثراء الفاحشين .. أن هذه الأنجازات العلمية كلما حققت تقدماً أكبر كلما أفرخت مخاطر تهدد سعادة الأنسان وتنغص سلامة البيئة .. ذلك أن الأنسان الحداثي أتجه بكليته الى العلوم الطبيعة ، وفي غمرة أنغماسه في مد التقدم التكنولوجي غفل أو تغافل عن المعارف الأخلاقية والفلسفية .. مما أوجب ضآلة في نمو العلوم الأجتماعية إذا ما قيست بالعلوم الفيزيائية .. الأمر الذي قضى بحدوث صدع بين الفلسفة والعلم .. ولعل عجز العلم عن أن يجعل من تقدمه خيراً عميماً للأنسان ، يجنبه آثاراً جانبية مؤذية للأنسانية ، أنما هو وليد ذاك الصدع .. يقول لويس دي بروليه : (( نشأ في القرن التاسع عشر حاجز بين العلماء والفلاسفة . فالعلماء ينظرون نظرة شك الى تأملات الفلاسفة التي كثيراً مابدت لهم وقد أعوزتها الدقة في الصياغة كما أنها تدور حول قضايا عديمة الجدوى ولاحل لها . أما الفلاسفة فلم يعودوا بدورهم مهتمين بالعلوم الخاصة لأن نتائجها كانت تبدو محدودة . ولقد كان هذا التباعد ضاراً بكل من الفلاسفة والعلماء )) .   

vivre-ensemble.jpg" لكي تتكون جماعة أخلاقية يجب أن يخضع كل الأفراد إلى تشريع عمومي واحد ويجب أن يعتبروا القوانين التي توحدهم بوصفها توجيهات من مشرع مشترك"[1].  عمونيل كانط
تعلن الأخلاق والقوانين والسياسة عن قواعد تتعلق بثلاثة سجلات متميزة : الأولى هي الحياة الخاصة بالوعي، والثانية هي الحياة في المجتمع، والثالثة هي الحياة في حضن جماعة مدنية ويعبر عن ذلك اللفظ الإغريقي بوليس الذي يعني مدينة أو دولة ومنه وقع اشتقاق لفظ السياسة. إن الأخلاق هي التي توجه وتتحكم في الحياة الخاصة ويعني أن نتصرف وفق ما يقتضيه الواجب ولا أحد يدفعنا إلى ذلك تحت الإكراه. في حين تتحكم القوانين والسياسة في التصرفات الخارجية للبشر إذ تتكفل القوة بإعادة وضعهم في الطريق المستقيم حتى ولو كان ذلك على غير ما يشتهون وعكس رغباتهم. لكن كيف يمكن التمييز بين القواعد القانونية والقواعد السياسية؟
إن القواعد القانونية تضبط العلاقات بين الأفراد والمجموعات فيما بينهم والصياغة العامة تكون على النحو التالي: "لا تسبب الأذى لغيرك". أما القواعد السياسية فهي على خلاف ذلك تضبط العلاقات بين الفرد والدولة وبين الفرد والمجموعة التي ينتمي إليها ونذكر منها دفع الضرائب وأداء الخدمة العسكرية والواجب المدني. من هذا المنطلق تحدد القوانين الأخلاقية والحقوقية والسياسية شكل الاجتماعية التي ينتمي إليها الأفراد ولو عدنا إلى أرسطو فإننا نجده يميز بين ثلاثة مجموعات طبيعية هي العائلة والقرية والمدينة- الدولة وكل واحدة من هذه المجموعات تمتلك غايتها الخاصة بها ولكن الهدف الأسمى للجميع والذي تعبر عنه بشكل جلي الجماعة السياسية هو خيرية العيش سويا.
إن قواعد الأخلاق والقوانين والسياسة ترسم حدودا لسجلات ثلاثة تضيع فيها حريتنا ، فالقانون يضمن بلا ريب أكثر الأشكال صورية من الحريات بما أنه يحرص على ضبط العلاقة بين الأشخاص وممتلكاتهم.  إن المبدأ الكوني للقانون يقتضي في أن يتطابق كل فعل بشري مع الحق بحيث يسمح لحرية كل فرد بأن تتوافق مع حرية الجميع وبالعكس كل فعل لا يمكن أن يتصالح مع الحرية العامة هو فعل غير عادل.