أنفاسهناك مشكلة متداولة بين دارسي المتن الأرسطي تتعلق بطبيعة الكتابة الفلسفية ذاتها، إذ من المعروف أن أرسطو كان يكتب بلغة مزدوجة: بعضها مخصص للعامة، يسيرة الفهم، يسهل تداولها على نطاق واسع؛ وبعضها موجه للخاصة، مكتوبة بلغة تقنية صارمة، سبل إدراكها غير ميسرة للجميع. النوع الأول يسمى بالكتابة الظاهرية Exotérique، بينما يسمى النوع الثاني بالكتابة الباطنية Esotérique أو  Acromatique.
يدخل كتاب الميتافيزيقا أو ما بعد الطبيعة ضمن كتابات أرسطو الباطنية، لذا سيظل مجرد "دروس" محفوظة في كراسات التلامذة على شكل أفكار ورؤوس أقلام وتوجيهات وإحالات.. الخ. إنها دروس يطغى عليها الطابع الشفوي، مما سيفقدها تماسكها الداخلي ووحدتها العضوية المفترضة في كل مؤلف لا يخرج إلى النشر إلا بعد مراجعات وتدقيقات وتنقيحات سواء على مستوى المعنى أو على مستوى التعبير.
نقلت لنا روايات قديمة بعضها يجنح إلى الخيال وبعضها إلى الواقع المشاكل التي اعترضت مقالات ما بعد الطبيعة، وكيف انتقلت من يد إلى يد قبل أن ترى النور أخيرا. يعود مؤرخو الفكر الأرسطي إلى استرابون Strabon وبلوتارك Plutarque لبيان مسار الميتافيزيقا، حيث بدأت رحلة مقالاتها مع تاوفراسطس Théophraste -أحد تلامذه أرسطو- الذي تولى مهمة تسيير شؤون الليسي  Lycée، بعد وفاة أستاذه. وتاوفراسطس هذا هو الذي سلم مخطوطاته ومخطوطات أستاذه إلى شخص يدعى نيلوس  Nélus، فحملها هذا الأخير إلى طروادة وتركها لورثته. ولما خاف هؤلاء الورثة من جشع ملوك برغام Pergame الذين أرادوا تكوين خزانة تنافس خزانة الإسكندرية، عمدوا إلى إخفاء تلك المخطوطات بطريقة عشوائية في قبو، مما ألحق بها أضرارا بفعل الرطوبة وبعض الحشرات. وفي عهد سيلا Sylla تم اكتشاف تلك المخطوطات، ومن بينها مقالات ما بعد الطبيعة التي وجدت بها إضافات في غير محلها وقراءات خاطئة للمتن الميتافيزيقي. بعد الاستيلاء على أثينا عام 86 ق.م من طرف سيلا Sylla، نقلت هذه المخطوطات إلى روما ووقعت بين يدي النحوي تيرانيون Tyrannion -صديق شيشرون- الذي عمل على ترتيبها وتبويبها ونسخها، ثم سلمها إلى المشائي أندوونيكوس الروديسي Andronicus de Rhodes ( الخليفة الحادي عشر لأرسطو على رأس الليسي). وهذا الأخير هو الذي أخرج النشرة النهائية لمقالات ما بعد الطبيعة بأخطائها وإضافاتها حوالي سنة 60 ق.م. ومن هذه النشرة الأولى، انحدرت كل النشرات اللاحقة حسب قول استرابون  Strabon.

أنفاس سنتناول مفهوم العقلانية في المجال الفلسفي و العلمي و السياسي, باعتباره انتصار للعقل و مولدا لإنسان جديد هو الإنسان العاقل و الحر الذي بشرت به الثورة العلمية الكبرى في القرن 17 وجسدته الثورات السياسية في أوروبا في القرن 18 و 19 .
سنحاول تتبع انتصارات العقل هذه من خلال [ ظهور ] مفهوم " القانون ".
I - ديكارت أو الإعلان الفلسفي عن مولد " العقلانية ":
يعتبر ديكارت – عند الجميع – مؤسس العصر الحديث, و فيلسوف العقلانية و التنوير, لأنه أول  من دعا بوضوح الى  ضرورة  تحطيم الأسس القديمة للمعرفة ( الحس )  و تأسيسها على أسس جديدة  ذهنية ( رياضية هذه المرة ).
هذه المحاولة الجزئية يصفها هو نفسه في " مقالة الطريقة " بقوله " بنشري مبادىء الفلسفة التي استخدمتها إنما افتح النوافذ و أدع ضوء النهار يدخل الى الكهف الذي انغلق فيه أصحابه " فليس أصدق تعبيرا من وصف العصر الوسيط برمته بالكهف المظلم المنغلق على أصحابه. و ليست وضعية ديكارت من عصره سوى أشبه بوضعية سجين أفلاطون المتحرر من كهفه ( و هو مثال و نموذج الفيلسوف ) , و ليست عملية التحرر هذه سوى عملية تبدأ في الإنسان ذاته نحو الإنسان كذاب , و لعلها تلك هي مزية ديكارت الكبرى التي مثلها في ميتافيزيقا ه بدءا بالكوجيتو كجوهر لذات نحو أفق هذه الذات و هو امتلاك الوجود كله باعتباره وجود هذه الذات المتحررة حيث " نصبح أسيادا للطبيعة و مالكين لها " كما يقول ديكارت نفسه , تدعمنا في ذلك القدرة الإلهية  الخلاقة و هذا ما نلمسه لدى ديكارت في كتابه " تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى " الذي نشره للمرة الأولى باللغة اللاتينية لغة خاصة, قاصدا بذلك إبقاءه ضمن حيز العلماء و رجال الدين .
و لعل هذا الكتاب هو ثاني كتاب يكتب اللاتينية و يوجه الى الخاصة من الناس بعد كتاب " مقالة الطريقة " الذي قدم فيه ديكارت بعض تطبيقات منهجه العلمي على علوم مثل البصريات – الهندسة – الآثار العلوية – و هذين الكتابين في الحقيقة جاءا ردة فعل و تفسير لحركة سحب كتابه الشهير " العالم أو رسالة في الضوء " من المطبعة سنة 1633 إبان محاكمة غاليلي في ايطاليا, ولعله بذلك حاول إخفاء خوفه و تقديم تفسيراته و اعتذارا ته لرجال الدين حتى لا يساء الظن به. و لعل ديكارت وحده يعلم أنه يفكر ضد الكنيسة بطريقة عقلانية مغايرة للتفكير السائد, و إلا لما خشي من الكنيسة أو لما اعتذر لرجال الدين.
فكيف فكر ديكارت بطريقة عقلانية مغايرة ؟ و ما هي أسس العقلانية الجديدة التي أسس لها ؟ لنعتمد فقط كتاب " التأملات " و نرى كيف يعكس بنائه و حركة أفكاره توجه عقلاني جديد يختلف عن كل ماهو سائد في ذلك العصر ؟ .

أنفاسالمدخل :
هذا السؤال يطرح أمرا واقعا اليوم ،يدعونا إلى التفكير فيه بضرب من العقلانية ،لذا فهو يفترض السؤال مسبقا لماذا نختلف ؟وفيما نختلف؟ لنعرف بعد ذلك كيف نختلف ؟ ثم إن هذه الأسئلة جميعا تقودنا إلى السؤال الفلسفي الأول :ما الاختلاف؟
عن هذا السؤال يجيبنا أرسطو في الكتاب الرابع من الميتافيزيقا معرفا الاختلاف بكونه
  "علاقة تغاير بين أشياء تبدو متماهية من وجهة نظر أخرى "(1)

       "Relation d’altérité ,entre des choses qui sont identiques  à un autre égard " Aristote-Métaph,IV,9,1018a.

  ويفسر السيد لالاند ذلك على أنه يعني عند الوسيطيين مجرد اختلاف عددي بين أشياء كثيرة تتميز بالنوع لا بالجنس,وهو ما سيعود إليه أرسطو في المرجع السابق حين يبين أن الاختلاف هو امتلاك خاصية تميز نوعا من نوع آخر لنفس الجنس .
      أما السيد لالاند(2) ,فمثله مثل باقي الفلاسفة الجدد ,يماهي بين الاختلاف والتضاد أو التناقض .فهو يفسر كلمة.« altérité على أنها خاصية ما هو آخر،ويجعلها نقيضا للتماهي و كل ما هو غير ذاتي. وسواء أكان الاختلاف تميزا بالجنس أو بالنوع فلا بد من الاعتقاد مع هيقل(3) بأن الاختلاف جزء   مكون    للوحدة ولا يمكن تصور الوحدة دون الاختلاف ,فلا يمكن أن أكون أنا ذاتي إلا متى وعيت بان  هناك آخر مقابل لي هو الذي من خلاله أعي ذاتي,"فلا يحصل الوعي بالذات إلا عبر الشعور   بالتضاد فلا أستعمل ضمير أنا ألا عندما أخاطب أحدا يكون أنت في كلامي"على حد عبارة اميل بنفنيست (4).فالاختلاف بهذا المعنى ,هو القدرة على أن أكون الأخر في الوقت الذي أكون فيه أنا نفسي ،أو القدرة على أن أكون أنا نفسي في الوقت الذي أكون فيه الآخر.
     فالاختلاف إذن تميز وتماهي ,تضاد وتشابه .    لماذا نختلف ؟
وما الذي يدفع بالإنسان إلى أن يكون الآخر إن كان هو ذاته , أو إن كان هوالاخر ما الذي يدفع به لأن يكون ذاتا ؟ هل الاختلاف طبيعة بشرية متأصلة فينا وقدر لا مهرب منه أم هو شيء نكتسبه ونتربى عليه في حياتنا ؟هل هو طبيعي أم هو تاريخي ؟ غريزي أم مؤسسي ؟
لقد أكدت اغلب الدراسات الانتربولوجية على أن" للإنسان تاريخ أو هو بالأحرى تاريخ "كما يقول سارتر , ولكن لا يعني ذلك أن ليس له طبيعة كما يدعي البعض .

أنفاس- في تعريف الدولة
- علاقة الدولة بالمجتمع المدني 
- فلاسفة العقد الاجتماعي
- هيجل
- ماركس

1 - مفهوم الدولة :
لو اعتمدنا الأصل الاشتقاقي في كلمة دولة فإننا سنقف عند اختلاف واضح بين التحديد العربي لهدا المفهوم و التحديد الغربي اللاتيني كما بين ذلك الدكتور فتحي التريكي ففي القاموس المحيط للشيخ مجد الدين الشيرازي نجد ما يلي " دال يدول "دولا و دالة صار شهرة و الدولة الحوصلة لانديالها.... وأدالنا الله تعالى من عدونا من الدولة والادالة " الغلبة " ودالت الأيام دارت و الله تعالى يداولها بين الناس و الدول لغة من الدلو وانقلاب الدهر من حال إلى حال " فهذا التحديد كما هو واضح إذن يذهب الى اعتبار الدولة أمرا متغيرا  بين الناس و متداولا بمقتضى الغلبة و الشهرة , ولعل مثل هذا التحديد هو الذي يوافق عليه ابن خلدون حين يقول في الفصل 4 من المقدمة بأن " الملك يحصل بالتغلب , و التغلب يكون بالعصبية واتفاق الأهواء على المطالبة , وجمع القلوب وتأليفها إنما  يكون بمعونة الله في إقامة دينه " وذلك أن الدولة حسبه ( الملك) لا تقوم بدون عصبية وغلبتها على العصبيات الأخرى " و العصبية متألفة من  عصبات   كثيرة تكون واحدة منها أقوى من الأخرى كلها فتغلبها و تستولي" ( الفصل 10 ) و العصبية عند ابن خلدون أنواع 3 أولها العصبية الطبيعية المنتجة للملك الطبيعي وثانيها العصبية متألفة من عصبيات السياسية و ثالثها  العصبية الدينية   وجميعها تحصل بالتغلب والإنفراد بالمجد لذلك ( يقول ابن خلدون فصل 23 ) " فليس الملك لكل عصبية وإنما الملك على الحقيقة لمن يستعبد الرعية ويجيء الأموال و لا تكون فوق يده يد قاهرة .. و هذا معنى الملك و حقيقته في المشهور و ما كان دون ذلك يعتبر ملكا ناقصا.. " غير أن الغلبة ليست دائمة ومستمرة للعصبية بل هي مرحلة أو طور من أطوارها لأن الدولة متغيرة بتغير حال العصية. لذلك نجد ابن خلدون يحدد للدولة أعمارا طبيعية كما للأشخاص( فصل 14 ) أو 3 أجيال الجيل الأول هو جيل سيطرة العصبية الثاني جيل تحول البداوة إلى حضارة ثم الجيل الثالث مرحلة الهرم فالدولة إذن في اللسان العربي تحدد بمحددين اثنين :
·       الغلبة
·       التغيير

أنفاس في المُلتقى العالمي للفلسفة الذي عُقِد بمدينة اسطنبول، ألقى الفيلسوف الإيطالي جانّي فاتيمو (Gianni Vattimo)، مُحاضرة بعنوان استفزازي (كلام فاتيمو) "هايدغر فيلسوف الديموقراطية". وللتدليل على ديمقراطية هايدغر فإنه أجرى مقارنة بين أفكار شيخ الليبرالية كارل پوپر (Karl Popper)، من خلال كتابه "المجتمع المنفتح وأعداؤه"، وبين أطروحات هايدغر انطلاقا من محاضرته "نهاية الفلسفة ومُهمّة الفكر".
وقد اعترف فاتيمو، منذ البداية، بأن الجَمع بين مفكر مثل كارل پوپر مشهور بتعصّبه للنظام الّليبرالي، وبين فيلسوف كاره للديمقراطية مثل مارتن هايدغر هو من الخلف بمكان « خصوصا وأن هايدغر لا يَبدو، طبعا، مفكرا ميّالا إلى الديمقراطية».
أين يَكمُن التوافق بين پوپر وهايدغر؟ يقول فاتيمو بأن « الأسباب التي حرّكت پوپر لمناهضة أفلاطون هي نفسها، وبالأساس، الأسباب التي حرّكت هايدغر في صراعه ضدّ الميتافيزيقا». فاتيمو يعترف، مرة أخرى، بأنه يُفكّر في صُلب المفارقات ويلتجئ إلى ما أسماه بالعنف التأويلي (violenza ermeneutica)، وهذا العنف التأويلي مُتأتٍّ، أساسا، من تقريبه بين مصطلحات ومفاهيم تبدو، للوهلة الأولى، بعيدة كلّ البعد عن بعضها: مثل عبارة پوپر "مجتمع منفتح"  بـ"حدث" (Ereignis) الهايدغارية. ولطمأنة القارئ الرّيبي يقول: « إننا لا نخون أغراض پوپر ولا هايدغر، على الرغم من أنه لا أحد منهما يقبل بهذا العنف التأويلي الطفيف».
فاتيمو يؤيّد موقف پوپر من أفلاطون حينما اعتبره أحد الأعداء الخطرين للمجتمع المنفتح، ذلك لأنّ أفلاطون، كما بيّن ذلك پوپر، لديه « تصوّر مَاهَوي للعالم (concezione essenzialista del mondo)». وطبقا لهذه النظرة فإن كلّ ما هو واقعي يَخضع لقانون مُعطَى كبنية ثابتة للوجود، وبالتالي فإن المجتمع ذاته عليه أن يَنصاع إلى ذاك التصوّر الماهوي. وبما أن الفلاسفة فقط هم الذين يَستطيعون تَعقّل ذاك النظام الدائم للأشياء، فإن مُهمّة قيادة المجتمع تعود إليهم بالدرجة الأولى. هذه المهمّة التي يزعمها الفلاسفة ـ اليوم العلماء وأصحاب الإختصاص ـ مرتبطة وثيق الإرتباط بالإقتناع المبدئي التالي: ألا وهو أنّ بالنسبة للفرد والمجتمع ينبغي عليهما أن يتطابقا دائما مع نظام مُعطى موضوعيا يَصلح أيضا كمِعيَار (Norma) أخلاقي؛ الوحيد الممكن. فاتيمو، على لسان پوپر، يُمعن في المفارقات والإستفزاز، يقول بأن هناك مبدأ محوريا في الحقل السياسي ـ التشريعي مفاده أن « "السلطة، وليست الحقيقة، هي التي تسنّ القوانين"  (auctoritas non veritas facit legem)»، هذا المبدأ ـ يُضيف فاتيمو « كان دائما عُرضة للنقد العقلاني ذي النفس الميتافيزيقي». فالعقلانيون، حسب هذا الطرح، يتعاملون مع أمور السياسة بذهنية علمية، راغبين في التوصل إلى حقائق نهائية وادراك الأشياء كما هي في ذاتها. لكن، حسب أطروحة فاتيمو، هذا هو الخطأ الأكبر الذي يداهم الممارسة السياسية، ذلك لأنه « كُلّما أولِجَ مطلب الحقيقة في السياسة، إلاّ وبرز أخطر أنواع التسلّط (الاستبداد autoritarismo)، أي الإنغلاق الذي حذّر منه پوپر».

أنفاسيخلد الفلاسفة بمفاهيمهم، و العلماء أيضا، بل إن العالم يتحول في آخر المطاف إلى إنسان مقترن بمجموعة من المفاهيم صيغت في شكل قوانين. و يخلد المفهوم الفيلسوف باعتبار المفهوم في جوهره تورطا و ارتطاما بالعالم و قضاياه، و بالضبط بقضايا الإنسان في علاقته بالإنسان. و التورط و الارتطام قد يكونان بالمعنى الإيجابي و قد يكونان بالمعنى السلبي، و السلبي و الإيجابي يدركان طبعا انطلاقا من شرط من يرى و يدرك. و حين يتمكن الفيلسوف من بناء مفهوم ما بهذا المعنى) وهي عملية في غاية الصعوبة و إلا لكان كثير من الناس فلاسفة (، يولد المفهوم و ينفصل عن صاحبه، و يصبح ملكا لكل قادر على التورط أو إعادة التورط به. و هنا يكمن سر تخليده للفيلسوف الذي أبدعه. أما سر تخليد المفهوم للعالم، فالواضح أنه أشسع من سر تخليده للفيلسوف خصوصا حين يتعلق الأمر بالمفاهيم المرتبطة بقضايا الإنسان، إذ إلى جانب كون المفهوم هنا تورطا و ارتطاما بالعالم و قضاياه يستثمره آخرون، فإن المفهوم في العلم يعتبر أداة للكشف و الاستقراء و النبش و السبر و التفكيك )تفكيك الوقائع طبعا( ...، يستمر اعتمادها) الأداة( بالتناسب مع حجم قوتها و فعاليتها، وما دام العلم لم يتمكن بعد من بناء مفهوم آخر أكثر قوة و فعالية.
و القارئ الذي تابع و تفحص الأعمال العلمية الكبرى لعالم الاجتماع الفرنسي الشهير بيير بورديو Pierre Bourdieu ، لابد أن يلاحظ كونها تمحورت حول مفاهيم كبرى اخترقت قوتها الثقافات و التخصصات و الحدود و اللغات، و باتت ملكا للكثيرين خلال حياته و اليوم بعد رحيله )أليست ضامنة لخلوده؟(، و نخص بالذكر مفاهيم "إعادة الإنتاج"La reproduction، و "العنف الرمزي"La violence symbolique، و "الهابيتوس" Habitus،) و مما له الكثير من المعنى أن لا نعثر له على مقابل متماسك في العديد من اللغات و يتم استعماله على نطاق واسع بلغته الأصلية (، و "الرأسمال الرمزي"Capital symbolique ، و "الخيرات الرمزية"Biens symboliques ، و "سوق الخيرات الرمزيةMarché des biens symboliques  ، و "الطبع"Inculcation ، و"النبلاء الجدد"La nouvelle noblesse، و"الميكروكوزم"Le microcosme  و "الحقل"Le champ...
و ما يهمني أساسا في هذه الدراسة هو هذا المفهوم الأخير، أي مفهوم "الحقل".و الحال أنه في غاية الصعوبة الإحاطة بكل المفاهيم التي أبدعها و تورط بها بورديو لأن لكل منها سياق تورطه و منطقه و رهاناته و سيرورة انبنائه .
مفهوم "الحقل" عند بورديو:    

أنفاس"ينبغي أن تظهر عبقرية الفيلسوف في ميزة أخرى غير التي تجعله غامضا ومبهما في نظر معظم الناس"  جورج غسدورف
 
مللنا من  انتظار قدوم الفيلسوف ومن طرح سؤال هل يوجد لدينا فلاسفة الآن أحياء في حضارة اقرأ ؟ وثرنا على من لا يعترف بقيمة هؤلاء المشتغلين بالفلسفة والقضايا الفكرية والمتناثرين في كل الدول العربية و اللاجئين في العواصم الغربية والذين يمارسون التنظير المعرفي والتحليل العلمي للواقع ويمتلكون رؤى مستقبلية فذة. ولكن ما أحوجنا الى إعادة طرح السؤال وتدقيق الصياغة حتى تكون أكثر دلالة ويكون الطرح وجيها ومقبولا فنقول: كم يمتلك هؤلاء الفلاسفة من قراء وجمهور ومنتظرين متلهفين لكتاباتهم ومقالاتهم ومقابلاتهم التلفزية؟
الجواب الذي يعترضنا أن عدد قليل من القاعدة الاجتماعية العريضة هو فقط الذي يكترث بهم ويركز اهتمامه عليهم ويتابع ما ينتجون من معارف وما ينشرون من أفكار جديدة. ولذلك فان هؤلاء الفلاسفة العرب ليست لديهم شعبية تذكر وشهرتهم هي شهرة نخبوية لا غير والإجماع حولهم لم ينعقد وأحيانا يؤلفون الموسوعات ويكتبون المجلدات ويؤثثون المراكز ويملؤون الكراسي في الجامعات ويحالون على التقاعد ويتوفون دون أن يسمع بهم أحد ودون أن يكون ما كتبوه قد قرأ ونوقش على الملأ وبالتالي دون أن يستفيد مجتمعهم من حضورهم وحراكهم الفكري ودون أن تؤثر أفكارهم في عصرهم سلبا أو إيجابا وتهديما أو تأسيسا. وتوجد عدة أسباب وراء هذا التباعد والإهمال أولها النظرة الخاطئة التي يتعامل بها الرأي العام مع الفلسفة والمشتغلين بها وعدم مجازفة هؤلاء بصنع الرأي العام وتوجيهه نحو تقبل الأفكار الفلسفية ولفت انتباههم إليهم، السبب الثاني هو غياب روابط عضوية بين الفلاسفة وقضايا مجتمعاتهم وعدم تواجدهم في مؤسسات المجتمع المدني وغيابهم عن مراكز صنع القرار وخاصة الأحزاب والنقابات والجمعيات الحقوقية من أجل الإقناع والتأثير على المترددين  وتحقيق الإضافة النوعية في تلك المجالات،السبب الثالث هو انغماس هؤلاء العلماء في القضايا الفلسفية المجردة واعتناءهم ببحوثهم الأكاديمية وإيمانهم بأن الفلسفة حرفة وتخصص ينأى بنفسه عن الشأن العام مما يخلق جو من التصادم مع عدة أطراف ونفور عدة جهات ثقافية ودينية واقتصادية منهم. السبب الرابع وهو حاسم في رأيي وهو تعامل السلطات السياسية مع الفلسفة والفلاسفة بنوع من الإقصاء والتهميش والمنع والاحتقار وفي بعض الأحيان بنوع من التوظيف والاستغلال والاحتواء والاستقطاب وذلك لإرضاء السواد الأعظم الذي يعيش وفق ما يقوله الرأي بينما الفلسفة تأسست أصلا لمداهمة هذا الرأي والدعوة الى الارتفاع عنه نحو  التعقل والتبصر ثم لإرضاء فئة الفقهاء التي تركز عليها السلطة السياسية لإضفاء المشروعية على ممارساتها وللمحافظة على الإجماع والتأييد ونحن نعلم أن الفقهاء قد ناصبوا الفلسفة والفلاسفة العداء لأسباب نفسية مصلحية ترتبط بصراع القوى أكثر منها أسباب مبدئية وقيمية ترتبط بالحقيقة والثقافة.

أنفاسمقدمة:‏
تهتم هذه الدراسة بمتابعة موضوعات فلسفية تناولها ثلاثة من الفلاسفة الأساتذة، عاشوا في عصور مختلفة، ولكنهم واجهوا مشكلات فلسفية ـ اجتماعية متشابهة، فطرحوا لها حلولاً متشابهة.‏
ونظراً لاتساع الموضوعات التي تناولها كل فيلسوف منهم، خلال تقويمه لمذهبه الفلسفي، الأمر الذي يصعب ـ على دراسة محدودة الأغراض ـ الإحاطة بها، وإيفاؤها بما تستحقه من اهتمام ودراسة. وبما أن فلسفة الفارابي، في الأساس، هي محور هذه الدراسة الرئيس، لذلك سنقتصر على تناول الموضوعين التاليين:‏
1 ـ بيان أثر جمهورية أفلاطون في آراء أهل المدينة الفاضلة، للفارابي.‏
2 ـ بيان مدى التشابه بين نظرية الفيض لدى كل من أفلوطين والفارابي.‏
وقبل البدء بتقديم هذين الموضوعين تبدأ الدراسة بتقديم الفلاسفة والتعريف بهم، وفقاً لزمن ظهورهم، على النحو التالي:‏
ـ أفلاطون.‏
ـ أفلوطين.‏
ـ الفارابي.‏
1 ـ أفلاطون:‏
ولد أفلاطون في العام 428 ق.م لأسرة تميزت بالنسب العريق، ونشأ نشأة شباب أثينا الأرستقراطي، وتعلم على السوفسطائيين وسقراط(2).‏
أسس أفلاطون مدرسة في بستان "أكاديموس" فسميت بالأكاديمية التي جاء تأسيسها حدثاً هاماً في حياته وحياة الفكر الغربي بأسره(3). إذ ظلت قائمة ما يقرب من عشرة قرون إلى أن أمر بإغلاقها الإمبراطور الروماني "جوستنيان" عام 549م(4).‏
كان أفلاطون يهدف من تعليمه في الأكاديمية تكوين فئة من الفلاسفة المستعدين لنشر نظريات اجتماعية ـ سياسية في أنحاء بلاد اليونان.‏
تكون في الأكاديمية مذهب سياسي نظري(5)، أخرج سياسيين ومشرعين، وكان لأفلاطون محاضرات يلقيها في الأكاديمية، ومؤلفات أخرى كتبها للجمهور وتعد محاورة الجمهوريَة أهم كتب أفلاطون لما تتضمنه من نظريات مختلفة ارتبطت معاً لتكون نظرة لحياة الإنسان، كان لها في تاريخ الفلسفة، فيما بعد، تأثير لم ير مثله كتاب من كتب الفلسفة.‏

أنفاس إن دعاوي " نهاية المثقف "، في اطار ما يعرف بخطاب النهايات، لم تفعل سوى أن أكدت، ربما بقوة، على ضرورة الثقافة والمثقفين، ويكمن مصدر هذه الضرورة في ارتباط الثقافة بالهوية خاصة في الثقافات "المغلومة"   "والمهددة " مثلما نجد في العالم العربي والإسلامي. وتتأكد مشكلة الهوية، وبشكل جلي، على صعيد العودة إلى التراث الذي يعد "قضية القضايا"، ويشرح ادوار سعيد في كتابه "الثقافة والامبريالية "ان الثقافة "مصدر" من مصادر الهوية "، اضافة الى انها "مصدر صدامي " كذلك. وهو (أي ادوار سعي) يستخلص هذا المعنى " للثقافة " من حالات "الرجوع " الى الثقافة( ذاتها) والتراث(1).
ومن هنا فإن التراث لا يمثل حافزا من ناحية نسقه النظري الخالص أو مجاله التاريخي المحدود. هناك الفكر العربي،"إشكالاته المتعددة " و"ايديولوجيته المعاصرة " و" نزعاته المادية " و"ثابته ومتحوله " و"وثورته وعقيدته "... الخ، بكلام أخر: هناك الحاضر الذي يلون قراءة التراث أو المجال التراثي المشروط بمقتضياته التداولية الأساسية. الحاضر الذي يؤثر في علاقات القناص الموجبة التي تصل ما بين الماضي والحاضر، أو ما بين تاريخية القارئ وتاريخية المقروء. ثم إن هذا الحاضر. أو "تحدياته "، هو الذي يجعل العودة إلى التراث ذات "معنى ومعنى درامي" كما يقول محمد عابد الجابري أحد أبرز المشتغلين على التراث (2). وفي هذا المنظور فان ما أبدع رجالات التراث، دون أن نغفل ما تعرضوا له من قمع واضطهاد، هو ما عجزنا عن الإتيان بمثله في وقتنا الحاضر الذي اشتد فيه "استئسار الإبداع " و"تحقير العقل "، ومن هنا يمكن أن نفهم تضارب المواقف والنتائج على مستوى قراءة التراث، وعلى مستوى مكانته ذاتها ضمن لائحة القضايا التي تستأثر بالفكر العربي المعاصر. وفي جميع الحالات فإن الموقف الذي يدعو إلى "القطيعة " مع التراث بدعوى "التاريخانية " أحيانا والاندماج في العصر وحركته التقدمية أحيانا أخرى. يظل وعلى أهميته، "ضئيل " التأثير مقارنة بدعاوي العودة للتراث من أجل "تمثل " أفكاره التي نعتقد أنها "تجيب " على أسئلة الهوية / الحاضر. من الجلي إذن أن التراث ليس مشكلا نظريا أو معرفيا. وإنما هو مشكل معقد تتداخل فيه عوامل عديدة مما يجعل من القراءة فعلا تأويليا مركبا دون أن نغفل هنا مدى "التباس " هذا الفعل بالأطر الثقافية والتاريخية لدارسي التراث. بالإضافة الى المتغيرات العالمية التي تتخل بدورها في توجيه القراءة، قراءة التراث التي تعنينا هنا.

أنفاستمهيد:
 يعد ألتوسير L.Altusser من أهم النقاد والفلاسفة الذين عرفتهم فرنسا في النصف الثاني من القرن العشرين الى جانب ميشال فوكو M.Faukault وجاك دريدا J.Derida وجاك لاكان J.Lacan وقد عرف ألتوسير بمحاولاته النظرية المتميزة، الهادفة الى إخضاع الماركسية لنسق المقاربة البنيوية، ومن ثم تخليصها من طابعها الايديولوجي التعميمي.
والحقيقة أن ألتوسير لم يكن سباقا الى هذا النهج، فقد سبقه إلى ذلك مواطنه لوسيان سيباغ L.Sebag الذي تميزت مقارباته بالجذرية، مما أدى به الى طرده من الحزب الشيوعي الفرنسي سنة 1965، ومن جملة ما طرحه سيباغ اعادة قراءة الماركسية بعيون بنيوية، وإنكار مبدأ الحتمية في النظرية الماركسية، وعدم اعتبار العامل الاقتصادي أساس الحركة التاريخية، إضافة الى الاعتراف بدور الأنظمة الايديولوجية (الفكر، الدين، الثقافة،...) في حركة التاريخ(١).
أنجز ألتوسير كتابين هامين في سياق قراءته الجديدة لماركس، وهما «قراءة رأس المال» Lire le Capital و«من أجل ماركس» . Pour Marx ويرى عمر مهيبل ان ألتوسير نزع الى هذه القراءة بدافع سببين:
1 - شعوره بالنقص النظري للفلسفة الماركسية في فرنسا، بفعل انصراف الماركسيين الفرنسيين الى السياسة.
2 - الرد على النزعة الانسانية التي روج لها بعض الماركسيين الفرنسيين أمثال جارودي  R.Garaudy ، والتي رأى فيها ألتوسير إفقارا للماركسية، وتجاوزا لطابعها العلمي.(٢)
القراءة المنهجية لرأس المال:
يعد منهج ألتوسير من المناهج البنيوية المغرقة في الصرامة العلمية، لقد انتهى الى تقسيم مسار ماركس الفكري الى مرحلتين كبيرتين:
مرحلة الشباب التي كان فيها متأثرا بالفلسفة الكلاسيكية الألمانية، ومرحلة الكهولة والنضج التي قطع فيها ماركس مع ماضيه الايديولوجي والمثالي، ليبلور مقاربة علمية، تبدو بصورة واضحة في كتابه «رأس المال».
من خلال هاتين المرحلتين، يبدو ماركس قد حقق قطيعة ابستيمولوجية ونقلة معرفية من الممارسة الايديولوجية الانسانية الى الممارسة العلمية والنظرية، ومن التأثير الهيغلي- الفيورباخي الى الوعي الأصيل بضرورة قراءة الأشياء قراءة نسقية، تكشف عن بنيتها الخفية ونظامها الهيكلي، بدل الاكتفاء بالتأمل الفلسفي.

أنفاس لم يخلف الفيلسوف الالماني مارتن هايدجر مبحثا في علم السياسة. غير انه بسبب السياسة نفسها أمسى موضوع جدل لم ينقطع منذ ما يربو على نصف قرن. فهايدجر، وكما لا يخفر، كان نازيا، بل وعلى ولاء النازية لم يتورع بسببه عن الوشاية بزملاء له في الحقل الاكاديمي، وانكار فضل آخرين رعوه في مطلع حياته الفكرية واسبغوا عليه من الاهتمام ما يحتاجه كل ذي موهبة. ولم يكن انكار الهؤلاء او وشايته بأولئك الا لكونهم يهودا او لانهم لم يظهروا من الولاء "للامة الالمانية " ما لم يتوان هو عن  اظهاره.
واذ تسوغ هذا المفارقة امرا فإنها تسوغ النظر الى المسافة الفاصلة ما بين إعراض الفيلسوف عن الكتابة في علم السياسة على غرار ما ذهب اليه عدد كبير من الفلاسفة وما بين انضوائه عضوا في الحزب النازي، كمبعث جملة من الشكوك والتساؤلات لم تبرح تظهر كلما أشير إليه من قريب او بعيد: امن الاحق الربط ام الفصل ما بين الموقف السياسي لهايدجر وما بين فلسفته؟ فهل كان للسياسة موقع في فلسفته؟ وما طبيعتها وعلى اي وجه تكون وما اثرها العام على مشروعه الفلسفي، وهو، على ما يزعم، صاحب مشروع فلسفي راديكالى؟ ولم أعرض الفيلسوف عن وضع مؤلف في السياسة طالما انه لم يتوان عن الالتزام بحزب ساسي؟
سؤال الكون
والحق فإن الفيلسوف الالماني الكبير لم يستنكف من الكتابة في السياسة او في اي من حقول المعرفة الاخرى كتابة مستقلة الا لان في ذلك استباقا للسؤال الاساسي الذي شاء العودة اليه من جديد، أي سؤال معنى الكون، او ما ه معنى ان تكون؟
ولقد رأي هايدجر ان ثمة مفهوما لكون كافة الكائنات يكمن في مجمل ادراكنا للواقع. صير الى نسيانه عن قبل الفلسفة الغربية منذ افلاطون وارسطو والانشغال عنه بما ينشق عنه من اسئلة اخرى.وكان ارسطو قد ميز ما بين معان كثيرة للكون كثرة الكينونات المتوافرة بما اشارع الظن بأن الكون هو ان تكون هيوليا فضلآ على المقولات التسع الاخرى. التي ارسي الفيلسوف اليوناني القديم اسسها، والصفات الملازمة للهيولى. وعلى منوال ارسطو سارت الفلسفة الغربية متناسية البحث عن معنى موحد لكون سائر الكائنات.
وبخلاف الفلسفة الانطولوجية التقليدية التي سلمت بداهة بأن ما يعين او يعرف كون الشيء، او كيانه. هو جوهره الموضوع الثابت، رأى هايدجر ان ثمة تداخلأ ما بين الذات المفكرة والواقع. الموضوعي بما خلص به الى القول ان نظرنا هو الذي يعزو الدلالة الى الموضوع، ولكن شريطة ان يكون الموضوع قابلأ لحمل هذه الدلالة. فعلى هدى فلسفة علم الظهور (الفينومينولوجيا) التي امتاز بها استاذه ادموند هوسيرل.