أنفاسيبدو أن الهم المركزي الذي يشغل الأستاذ طه عبد الرحمان هو التفكير في كيفية الخروج من دائرة التكرار والاجترار والتقليد والنقل إلى زمن الإبداع الفلسفي. ذلكم الإبداع الذي زان الإسهام الفلسفي العربي في اللحظات المشرقة من تاريخنا الفكري.
         هذا الإبداع يريده الأستاذ طه على ثلاث مستويات متداخلة:
1- مستوى فهم التراث
2- على مستوى الكتابة الفلسفية
3- على مستوى الترجمة
        1 – على مستوى فهم التراث يلاحظ الأستاذ طه بأن المعالجات التي اشتغلت بالتراث على إسقاط مفاهيم منقولة من التراث الفكري الغربي، جرى نقلها دون تمحيص ودون تبيئة، ودون مراعاة للمقتضيات الأساسية التي يفرضها المجال التداولي العربي والتي هي العقيدة واللغة والمعرفة.
وقد أدى هذا النقل إلى معالجات إيديولوجية قوامها النظرة التجزيئية للتراث، وتغليب الاشتغال بالمضامين على فهم الآليات. بينما يدعو الأستاذ طه إلى النظرة التكاملية للتراث نظرة معرفية تستهدف كشف الآليات كطريق إلى فهم المضامين. فهو يعارض المحاولات السابقة في هذين العنصرين: التجزيئية والنزعة الإيديولوجية المسيسة. لكن معارضته الكبرى تتجه لا فقط نحو هذه الطرائق، بل نحو طبيعة وماهية نهج المقاربة ذاته. فهو يدعو إلى إقامة ابستمولوجيا ذاتية مستقاة من التراث ذاته، وكأن الطريق الأمثل إلى فهم التراث هي المرأة الداخلية للتراث نفسه.
وقد سبق لي أن أبديت في قراءة سابقة لكتاب "تجديد المنهج في تقويم التراث" ملاحظات تساؤلية عن مدى علمية دعوى قراءة وتقويم التراث انطلاقا من مرآته الخاصة.
قد تكون هذه القراءة الداخلية ممكنة، بل ضرورية في مستوى أول، لكن قراءة هذا التراث وتقويمه تقويما علميا تكامليا لا يمكن أن تكون مهمة وافية وعصرية إلا عندما تقرؤه على ضوء المستجدات التي حملتها العلوم الإنسانية المعاصرة من لسانيات وسيميولوجيا وعلم النفس وأنثروبولوجيا... إلخ.

أنفاس"إن عقلانية باشلار ما فوق عقلانية. وهو يعرف كيف يُعلم العلم والحلم معاً".جان فال
مقدمة:
بدايةً، لا بُد من الاعتراف باستحالة الإحاطة بمشروع باشلار (Gaston Bashlard) المعرفي بجوانبه الإبستمولوجية، والعلمية، والتاريخية، والشاعرية في مقالة أو حتى في كتاب، ولكننا سنحاول في هذه المقالة عرض خيط رفيع من هذا المشروع العابر لجدلية: العلم والفلسفة، الاتصال والانقطاع، العقل والوجدان، الخيال والواقع، الحدس والتجريب، الموضوع والذات، وذلك بهدف تقديم مقاربة مغايرة لموضوع المعرفة العلمية، هذه المعرفة التي يُمكن رؤيتها من خلال منظورين: الأول، منظور عقلي-تجريبي، حيث المعرفة العلمية تخضع للتجربة والقياس المنطقي، وكل ظاهرة قابلة لأن يُعبَّر عنها بمعادلة رياضية دقيقة، وقد أفرز هذا المنظور اتجاهات تقتنع بموضوعية المعرفة العلمية وإمكانية فصل المعرفة عن الذات العارفة، ويُعد جاليليو (Galileo) وديكارت (René Descartes) من الآباء الروحيين لهذا المنظور، والثاني منظور يرى أثر العوامل النفسية والشروط الاجتماعية والمعتقدات الشخصية على النظريات العلمية، حيث أن هناك عناصر من الخيال والحدس تساهم في عملية تكوين المعارف العلمية أو صياغتها، ويُعتبر باشلار أهم دليل على هذا المنظور.إذن، في هذه المقالة سنتطرق إلى المشروع الباشلاري، كمشروع علمي- معرفي-فلسفي، تأسس على عقلانية علمية حاورت تجريبية بيكون (Francis Bacon) ووضعية كانط (Immanuel Kant)، متنقلاً من عقلانية تطبيقية إلى عقلانية صوفية انفتحت هذه الأخيرة على أشعار بودلير (Charles Pierre Baudelaire)، وريلكية (Rainer Maria Rilke)، ورومانتيكية نوفاليس (Novalis).  لقد وضع باشلار مشروعه في مراحله الأخيرة تحت راية التحليل النفسي وطاقات الشعر العالية.  ومن يعرف باشلار عالماً عقلانياً من خلال قراءات مؤلفاته الأولى: تكوين العقل العلمي، فلسفة اللا، العقلانية التطبيقية،... الخ، قد يستغرب من هذا الرجل العقلاني وضع مشروعه بعيداً عن عقلانية القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بكل يقينياتها، والدخول فيها إلى مختبرات الشعر في كل ما تحمله من لايقين، ولكن نظرة باشلار للعقلانية تختلف عن نظرة عصر التنوير والفلسفة الوضعية، التي اعتقدت بفصل العقل عن اللامعقول، بفصل العلم عن الأدب، وقللت من دور الحدس والخيال في الوصول إلى المعرفة، ولم تعترف بالعلاقة الجدلية بين الوعي واللاوعي، وبين الحلم والواقع، على العكس فباشلار يرى أن تركيبتنا النفسية يشتبك فيها الواقع بالحلم، والوعي باللاوعي، والعقل بالخيال، لذلك فهو كثيراً ما كان يعثر على "نظرة ذات أعماق متكافئة من عنصري العقل والخيال، فالعلم والشعر لدى باشلار هما حدسان كامنان في الإبداع البشري، وهما الرغبة الكامنة لإضفاء معنى وجمال ما على العالم" (محمود، 2005: 7).  ولهذا، كان مشروع باشلار في مراحله الأخيرة يهدف لتوجيه العقل نحو المباهج الأخرى للرضا الفكري-مباهج العلم- تأسيساً على تحليل نفساني للمعرفة الموضوعية، حيث يُعتبر العلم بالنسبة له جمالية العقل، فلا فصل بين الواقع والحلم، بين الأدب والعلم، بين العقل والوجدان.

أنفاستمخضت حقوق الإنسان و التي تبدو اليوم، في غالب الأحيان، وكأنها مسألة بديهية وتلقائية، عن تحول عميق طال مفهوم طبيعة الحق. والذي امتد عبر مدة طويلة، منذ أفول العصور الوسطى إلى الثورة الفرنسية. هذا التحول هو الذي ولد، في جميع الميادين، ما يعرف بالحداثة.
في المجال الحقوقي، ما هي الخطوط العريضة، لما كان عليه مفهوم الحق قبل ً الحداثة ً؟ إن ميشال فيلي، وهو نموذج للمفكر أو الفقيه الروماني التائه في نهاية هذا القرن ( الروماني الذي، ربما، أعيد تكوينه جزئيا، لكن ذلك لا يغير في شيء من طابع تفكيره الروماني ) يقول إن الحق، حسب التصور التقليدي الذي نضج في روما بصفة خاصة، هو معرفة بالوقائع وقياس لها، و علاقة 1 **. وهذا الحق يوجهه قاض محايد، نزيه و متمثل لفكرة العدالة. فالحق ليس مطلبا ذاتيا بكل وأي شيء كان. كما أنه ليس أبدا - كما ُيعتقد اليوم – أمرا صادرا عن ً السيد ً و نتاجا للإرادة.  إنه اكتشاف بارع ومتأن   ودقيق للنسبة القائمة بين كمية الأشياء الموزعة و الكيفيات المختلفة للأفراد، ولتلك القائمة بين الأشياء المتبادلة. إن الحق هو تحقيق لعدالة تعرف كلاسيكيا بكونها تقوم على إعطاء كل ذي حق حقهius suum cuique tribuere  . وهو أمر تقوده الحكمة العمليةPrudence؛ وهي تدبير عملي يتعلق بقاعدة الاختيار، والذي لا ينصب على الاختيار بين خير وشر مطلقين، بل نسبيين و ملموسين. ولتحقيق ذلك، لا مجال هنا للصيغ الفضفاضة. بل يتطلب الأمر حضور معنى الوسط العادل ورأي القاضي المستنير بالمناظرة و التشاور، حيث يتطور الجدل لينتهي عبر الآراء المتضاربة إلى اكتشاف حل محتمل. وهو حل لا يدعي بلوغ كمال وهمي أو مفارق، بل يعبر فقط عن إرادة متواضعة للتطابق مع الواقع.
لا شك أن الإنسان كان حاضرا في تفكير القدامى، ككائن متميز باللوغوس، أي بالنطق والعقل والقدرة على الاختيار. ومتمتع بكرامة ذات قيمة سامية، رغم أن العبودية كانت أمرا مسلما به. لكن ما كان غريبا عن الفكر القديم، هو فكرة الحقوق الذاتية، أي تصور حق أساسي مرتبط بالفرد و مستنبط من طبيعته2…

أنفاس" لقد أثارت طبيعة هذا التيار استغرابي منذ أن علمت بها، وشعرت بقليل من السأم، وهو أمر يجب أن أعترف به، وأنا أسمع عدداً من الخبراء الفطنين يكررون أمامي: "إننا نعرف ما يرفضونه، لكنهم لا يعرفون ما يريدونه". ميشيل فوكو
مضى الآن على وفاة الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو(1926-1984) أربع وعشرون سنة وهو ما يزال يتربع على عرش الساحة الفكرية وينصب على رأس الاهتمامات الفلسفية في الدوائر الأكاديمية ولكن مقاله عن ما حصل في إيران من منعطف تاريخي الذي كتبه منذ ثلاثين سنة (1978) مازال يفيض بالمعاني ويزخر بالدلالات وأظن أنه لم يقرأ قراءة وافية كافية ولم يقدر حق قدره والمرات القلائل التي ذكر فيها استغل للمساندة والتبرير وتلميع الصورة والتباهي بالحصول على اعتراف من الآخر بعظمة الأنا أو لإثبات قدرة الغرب على إنتاج مثقفين عضويين ينتمون إلى المجتمع المدني العالمي ويمثلون الجانب الإنساني ويساندون القضايا العادلة في العالم النامي .
 لكن الأسئلة التي تطرح نفسها هنا هي التالية: كيف يدافع أحد أهم دعاة التحررية والمثلية الجنسية على الثورة الدينية ويتسامح مع عودة الأنظمة الثيوقراطية التي حسمت الحداثة الغربية المعركة معها منذ الثورة الفرنسية وإبعاد سلطة الكنيسة عن التدخل في الشأن العام؟ وألا يوجد تناقض بين السياسة الحيوية التي ينظر لها فوكو في كتاباته المتأخرة والروحانية السياسيةpolitique spirituelle التي صعدت في الجامعات الإيرانية؟ ألا يحاول فوكو الانتصار إلى النزعة الثقافية التي تمثلها فرنسا ضد النزعة الاقتصادية التي تجسدها أمريكا؟
البعض يفسر سر افتتان فوكو بما حدث في إيران بكونه كان ضحية غواية الصورة الشبقية التي قدمها الاستشراق عن سحر الشرق وجماله وتعدد مجالات تحقيق الرغبة وتنشيط الخيال وإطلاق عنان الغرائز فيه ولكن الحقيقة هي أبعد من ذلك بكثير إذ يطبق فوكو هنا منهجه التشخيصي ويستعين بمسبره الأركيولوجي ومنهجه البنيوي من أجل قراءة الواقع الاجتماعي والمستقبل السياسي لأكبر دولة نفطية في الشرق تحاول التحرر من هيمنة شيوعية السوفيات وامبريالية الأمريكان.

أنفاس"المرأة لا تُولد امرأة
وانما تُصبح إمرأة"

         سيمون دى بوفوار
كتب فولتير يقول: "إن تقدم العقل بطيء بينما جذور الأفكار الفاسدة ضاربة فى العمق". هذه الجذور هى تحديدا ما أود أن أعرض له فى صدر هذا المقال وألفت النظر إليه، طالما أن أمر انتزاعها غير ميسر. والمسألة ـ كما سوف نلاحظ ـ تتطلب منا البحث والخوض فى أفكار وتصورات دفينة فى أذهاننا  ـ معشر البشر ـ تتعلق بالمرأة وعلاقتها بالرجل، فضلا عما تتطلبه من مناقشة جادة لمكانة المرأة فى الفكر الأنسني الذى لطالما تمنيت أن يجد له ملاذا آمنا فى ربوعنا، باعتباره السبيل ـ ربما الوحيد ـ المتاح أمامنا للعودة إلى التاريخ(1).
أقول إن السعى الحثيث للتعرف على الأفكار والتصورات الدفينة فى أذهاننا، والتي تتعلق بالمرأة وعلاقتها بالرجل، والتى تشكل فى الوقت نفسه ميراثا،  يُعتد به فى رسوخه وصلابته، لابد وأن يشكل البداية المنطقية لمقال كهذا. فلنلتمس إذن إجابة شافية على السؤال التالي: كيف بنى العقل البشري فكرة النوع؟
ولكن..كيف السبيل لمثل تلك الإجابة الشافية؟! إنها تتطلب بالضرورة قدرا من الرصد والتحليل، لا يمكن أن يسمح به الحجم المقرر سلفا لهذا المقال، فالأرجح أننا فى حاجة لدراسة تُخصص بأكملها لذلك الغرض، أتمنى أن تُتاح لي الفرصه لانجازها فى المستقبل! وحتى ذلك الحين، أرانى قانعا بأن المخرج الوحيد من هذا المأزق هو الاكتفاء بعرض أحد النماذج التفسيرية، بشرط أن يعبر في مجمله عن المحاولات المبكرة لبناء العقل البشرى لفكرة النوع، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، لابد للنموذج المُختار أن يكون فلسفيا مدعما بالأسانيد العقلانية، تتفق فيه العديد من الأفكار الفطرية للشعوب البدائية حول هذا الموضوع..!
لقد وضع لنا الفيلسوف اليوناني أرسطو واحدا من أقدم وأبرز النماذج التفسيرية لعملية التناسل وتحديد النوع. وهو نموذج فلسفى مدعم بالأسانيد العقلانية، تتفق فيه العديد من الأفكار الفطرية للشعوب البدائية حول هذا الموضوع. إضافة إلى أن نمط التفكير الأرسطي ليس فى واقع الأمر غريبا عن خطابنا الحديث، لاسيما العلمي منه، فمازلنا حتى الآن نجهل على وجه اليقين مكمن القدرة على تحديد النوع!! وقد استند كاتب هذه السطور فيما يقول للكتاب الرابع من مؤلفات أرسطو "عن الجنس الحيوانى"، الذى كتبه، ما بين عامي 330 و322 ق.م. وفيه ينطلق أرسطو من فكرة تضمنتها أعمال من سبقوه(2).

أنفاسبين الفلسفة والادب والفكر من اواصر التواصل وشباك التواشج مالايلغي نقاط التفاصل وعلامات التفرد وسمات التمايز .تمتد جذور الخصومة بين الفلسفة والادب في الفكر الغربي الى العصور القديمة .. في عهد الاغريق ، عندما ربط افلاطون المعرفة بالفلسفة فيما وسم الشعر بالانفعال والعاطفة وجعله نقيض الفلسفة وعدوها اللدود .. وفي القرن السابع عشر ومع ظهور النزعة العلمية والاكتشافات الجديدة .. بان جلياً ان الفصل بين الفلسفة والادب كان قد تجسم على يد الفيلسوف الفرنسي ديكارت الذي جاهر بعداوة شديدة للشعر والشعراء حتى قيل فيـه انه : (( حز عنق الشعر )) كما هاجم توماس لف بيكوك في كتابه (( عصور الشعر الاربعة)) الادب وعده نشاطاً متخلفاً لاينتمي الى روح العصر الذي تهيمن عليه المعرفة والعقل والتنوير وحاكى وجهة نظره هذه الفلاسفة النفعيون مثل جون ستيوارت مل .
وفي القرن التاسع عشر ومع انبهار الانسان بالانجازات العظيمة للثورة الصناعية وظنه انها البلسم لادواء البشريـة ومعضلاتهـا .. فقد القـى العالم الانكليزي توماس هكسلي (1825-1895) خطبة نعى فيها على الادب .. وعد من الحمق والشعوذة وجوده في عصر العلم والتنوير والعقلانية .
اما في القرن العشرين .. فقد استمرت النظرة المضادة للادب رافضة أي تطابق فلسفي مع الادب .. وقد طرح جورج بواس في محاضرة له بعنوان (( الفلسفة والشعر)) هذه النظرة بصورتها الفظة : (( تكون الافكار في الشعر عادة ممتهنة وغالباً زائفة )) .. فيما كان يرى ت.س. اليوت أنه : (( لاشكسبير ولا دانتي قاما باي تفكير حقيقي )) ! .. لانه كان يظن ان لهما احساسا مرهفاً ولكن دون فكر .. في الوقت الذي كان يعتقد فيه بان الانسان عندما يكون مفكراً فانه يكون بعيداً كل البعد عن القلب والعاطفة والوجدان ! .. وهكذا كان الفكر يطغى ويتلفع بسربال المادة .. بينما ساد شعور بوهن القلب وضعف العاطفة وسبات الخيال .. وقد تنبه الفيلسوف الالماني (( نيتشه )) .. الى خطورة ذلك – على حد اعتقاده – وعدها معضلة العصر المتمثلة في (( هيمنة الفكر على العاطفة )) .. وقد عزا ذلك في كتابه (( ولادة التراجيديا)) الى الفكر التحليلي الذي يمثله سقراط في الفلسفة ، فيما يمثله في الادب (( يديس)) .. ودعا (( نيتشه )) الى حل هذه المعضلة من خلال العودة الى ما يعتمل في انفسنا من عناصر بدائية للارتشاف من نبع العاطفة .. حتى ولو ادى ذلك الى تحطيم الفكر التحليلي .

أنفاسلقد اعتبرت مسألة الميتافيزيقا والشعر من أهم المسائل التي تناولها الفلاسفة بداية من أفلاطون وأرسطو وصولا إلى  مارتن هيدغر و هانس جورج غادامير، حيث عرفت العلاقة بينهما لحظات صراع وعداء، ولحظات التقاء وحوار، إلا أننا قد نجد وراء الصراع الظاهري مؤشرات و معالم غير مرئية توحي بالارتباط و التكامل، وبذلك فإن الصراع بين الميتافيزيقا والشعر يبدوا أقرب إلى صراع طرفين متكاملين، فالتجربتان لا تنيان تتقطعان و تتوازيان، بل وأحياناً تختلطان، حيث أن الشعر والميتافيزيقا صورتان إنسانيتان للتعبير عن الوجود، كما أن منطلقهما هو الإنية المتفاعلة روحياً وعقلياً مع ذلك الوجود.
هكذا شغلت العلاقة بين الميتافيزيقا والشعر ، و مدى التأثير الذي يمكن أن تحدثه كل منهما في الأخرى ، خدمة لكل منهما  خاصة، وللفكر الإنساني عامة، الباحثين في الماضي وفي الحاضر.
يضاف إلى ذلك الارتباط شبه العضوي الذي ظل يربط، و لمدة قرون ، كل من الشعر ومن الفلسفة عامة، و الشعر والميتافيزيقا خاصة..،  وهو الارتباط الذي تؤكده الفلسفة اليونانية (هيرقليط الأفيزي" Héraclite، (ت:530 -475 ق.م تقريباً)، مثلما تؤكده الفلسفة الإسلامية في عصورها الذهبية (ابن سينا، (ت:1037))، فبين الشعر والميتافيزيقا تساوق وقرابة، فرغم اختلافهما شكلاً فَهُمَا يتحالفان كنهاً و جوهراً ووظيفة.
إن الفصل بين الشعر و الميتافيزيقا هو أمر مُفْتَعَل، ذلك أن جِنسيْ الخطاب الذي نطلق عليهما أسميْ  الشعر و الميتافيزيقا هما جنسان مقترنان منذ كانت البداية الإغريقية للأشياء وكينونتها المقترنة هذه ترسم تاريخ الفكر الإنساني.
و إذا كان "أفلاطون" قد انتقد الشعر المحاكي في بعض كتاباته، فإنه عاد ليمجده ويوظفه في العديد من كتاباته تماماً مثلما فعل هيدغر الذي وجد بالرغم من نقده للميتافيزيقا والشعر فيهما وفي النهاية الترياق المضاد للتقنية و لنزعتها اللاإنسانية.

أنفاستشيد الحداثة على أقانيم محددة تشكل نظاماً فكرياً واحداً ينتج الفعل الأداتي الصارم في التطبيق ضمن عنايتها بالعالم الواقعي .. الذي تعمل على دراسته بصفته موضوعياً ( مادياً ) .. قائماً لذاته ومستقلاً عن العقل على ضوء تحليل المفاهيم .. وهي إذ تفعل ذلك فإنما تسعى للوصول الى اليقين ودراسته لأنها ترى أن لكل شيء جوهراً كضرورة لوجوده .. وهي إذ تقوم على تأصيل الثنائيات الضدية ضمن صدام مرير بين ( إرتدادات الماضي .. وإشرئبابات المستقبل ) فإنها تقول بوجود قيم أفضل من بين مجموعة قيم مختلفة .. فالحداثة القائمة على فلسفة الذات ونفي الآخر .. أنتجت وسائلها ، الصدام الإستعماري المعروف بين التمركز الغربي من جهة والثقافات الغيرية من جهة ثانية . لأن الحداثة تفهم نفسها – التمركز الغربي – على أنها قطيعة مع الماضي الآخر / الشرق .. في حين أن هذا الشرق لا ينفك من الحضور في الثقافة الغربية بشكل من الأشكال .. أما إستخدام التراث من الطرف الآخر ضد الحداثة فهذا الإستخدام غير منتج وعقيم . الأمر الذي حدا بفلاسفة الإختلاف لتوجيه نقودات لاذعة لـ (( فلسفة الذات والهوية )) بإعتبارها أداة لتهميش (( الآخر سواء كان هذا الآخر كتابة ( دريدا ) أو رغبة ( دولوز ) أو حمقى ( فوكو ) . )) في عملية زحزحة لمفهوم ( الذات ) الكلية المتوحدة عن مركزه لإحلال مفهوم آخر هو مفهوم الذات المتموضعة .. المتشظية والتي يعاد بناؤها بإستمرار.. في عملية إنتاج مفاهيم جديدة لا تؤمن بإستقلال الواقع عن العقل .. بل تدرسه دراسة خلاقة لأنها تعد العالم ( بناءات عقلية ) .. لاوجوداً موضوعياً . ان دعائم ما بعد الحداثة تقوم على اساس تفضيل إنتشار ( الإختلاف ) أكثر من إنتاج الثنائيات الضدية .. وفيها يتم   التعامل آركيولوجيا لاستيلاد الاخر المقصي .. يقول جيل دولوز : (( إن الآخر ليس هو ذلك الموضوع المرئي ، وليس ذلك الاخر . إن الاخر بنية الحقل الحراكي كما إنه نظام من التفاعلات بين الأفراد كأغيار . فحين تدرك الذات شيئاً ما فإنها لا تستطيع أن تحيط به في كليته إلا من خلال الآخرين ، فالآخر يتمم إدراكي للإشياء )) .

أنفاسللنظر الى أبعاد معينة بغية فهمها يتطلب الأمر مقاربتها من منظور مقارن يبلور رؤانا المركبة عندما يتم تشغيل هذا المنظور لإستدعاء علائق المعنى في إطار النظرة النقدية وجدليتها المصوبة نحو التضاد والإختلاف ذلك ((فإن المعاني يمكن أن تفهم على نحو وافٍ فقط في ضوء الإشارة الى التضادات والإختلافات المحددة التي تزيح المعاني المرتبطة بها )) .. ولكي نستحضر ما بعد الإنسان لابد من إستجلاء مفهوم ما بعد الحداثة في سياق التجاذبات النقدية مع إطروحة الحداثة وما قبل الحداثة من تطورات فكرية أسست في ما بعد لما وصلت اليه الموجة العولمية من آلية فكرية في العالم مع دينامية إجتماعية في العالم الغربي ..
يمكن القول أن الكائن الإنساني كان محكوماً ومحدداً بالفكر اللاهوتي الذي يركز على الحياة الأخروية ، ويشل من إرادة الإنسان بوصمه بالإثم والذي يتطلب منه صرف كل همه في سبيل التطهر إنتظاراً ليوم الدينونة لمحاسبته على عمله الدنيوي المدنس .. ثم حكم الإنسان بالفكر الماورائي الذي يرى أن وجوده وأفعاله مخلوقة له من قبل القوى القصوى على حد وصف أرسطو أي قوى خارجة عن إرادة الإنسان وإمكاناته .
       بعد ذلك ومع بزوغ عصر النهضة الأوربية والتطورات التاريخية الكبرى حل الفكر الحداثي الذي يبنى على أساس أن الإنسان جوهر فكري هو عين ذاته .. يفكر بعقله المستقل ، له وعيه الناضج ويمارس سلطته على الطبيعة والأشياء بملئ إرادته ومطلق حريته . وقد ترافق المد الحداثي مع نشوء العلمانية التي إرتبطت بظهور البرجوازية حيث حررت الإنسان من هيمنة الكنيسة ، فالعلمانية هي : (( الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية دون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض )) حسب تعريف جون هوليوك ( 1817 – 1906 ) ، حيث نما الفكر البراغماتي الذي هدف أولاً الى تعظيم الإنتاج كهدف لوجود الإنسان الذي إنتهى الى موجات إستعمارية في الخارج وقيام الدول القومية في الداخل مبتناها الفصل بين العلم والأخلاق .. وفي مرحلة لاحقة أعتبر الإستهلاك هو الهدف النهائي لوجود الإنسان فيما لاح في الأفق من أن آلية السوق (( الخالية من القيم )) صارت تهدد سيادة الدولة القومية وكذلك تهددها مشكلات تفكيكية (( مثل ظهور النزعات الأثنية )) فيما تم إستبدال النموذج الإستعماري العسكري بنماذج أخرى كالإستعمار الإقتصادي والثقافي .. الخ

أنفاس"النهر للمنبع لا يعود
النهر في غربته يكتسح السدود"

                  عبد الوهاب البياتي

بداية أراني متفقا مع قول الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت بفطرية العقل، وكونه أعدل الأشياء قسمة بيننا معشر البشر، فديكارت يقول فى مؤلفه الشهير "مقال عن المنهج"(1): "العقل هو أحسن الأشياء توزعا بين الناس (بالتساوي). إذ يعتقد كل فرد أنه أوتى منه الكفاية، حتى الذين لا يسهل عليهم أن يقنعوا بحظهم من شيء غيره، ليس من عادتهم الرغبة فى الزيادة لما لديهم منه. وليس براجح أن يخطيء الجميع فى ذلك، بل الراجح أن يشهد هذا بأن قوة الإصابة فى الحكم، وتمييز الحق من الباطل، وهي فى الحقيقة التى تسمى بالعقل السليم أو النطق، تتساوى بين كل الناس بالفطرة، وكذلك يشهد بأن إختلاف آرائنا لا ينشأ من أن البعض أعقل من البعض الآخر، وإنما ينشأ من أننا نوجه أفكارنا فى طرق مختلفة، ولا ينظر كل منا فيما ينظر فيه الآخر، لأنه لا يكفى أن يكون للمرء عقل، بل المهم هو أن يُحسن استخدامه. وإن أكبر النفوس لمستعدة لأكبر الرذائل مثل استعدادها لأكبر الفضائل. والذين لا يسيرون إلا جد مبطئين يستطيعون حين يلزمون الطريق المستقيم أن يسبقوا كثيرا من يعدون ويبتعدون عنه".
ولندلف من مقولة ديكارت إلى القول بأن نصيب الإنسان العربي من العقل ليس أقل من نصيب غيره من إخوته فى الإنسانية، ولو ألقى تجار الآلام فى روعه غير ذلك. فالأرجح ـ كما أسلفنا ـ أن العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس. وعليه يصير مقبولا، ونحن بصدد الحديث عن العقل العربي، ألا نفرق بينه وبين غيره من عقول أمم الأرض. فالعقل الذى يسكن أجسادنا معشر البشر واحد، سواء كان صاحبه عربيا أو أفريقيا أو أوروبيا أو آسيويا أو أمريكيا! كل ما فى الأمر أننا معشر العرب نوجه أفكارنا فى إتجاهات خاطئة ونسلك طرقا جدبة، ناسين أنه لا يكفى أن يكون للمرء عقل، بل المهم ـ كما قال ديكارت ـ أن نُحسن إستخدامه، فهو بوصلتنا فى طريق الحياة، إن ضل ضللنا وإن أصاب أصبنا!

أنفاس"لأن يحيى المرء بدون تفلسف هو حقا كمن يظل مغمضا عينيه لا يحاول أن يفتحهما: والتلذذ برؤية كل ما سيكشفه البصر لا يمكن أن يقارن بالرضى الذي ينال من معرفة الأشياء التي تنكشف لنا بالفلسفة". ديكارت  
لم يشهد تاريخ  الفكر في عصر من العصور فلسفة بلغت من النفوذ والسيادة على الأفكار وذروة العقلانية والتنوير ما بلغته فلسفة ايمانويل كانت في القرن التاسع عشر. يعتبر هذا الفيلسوف الألماني فيلسوف النقد الأكبر في تاريخ الفكر الإنساني، ومؤسس العقل الأوربي بدون منازع وربما العالمي الحديث كله. ومع ذلك من الصعب جدا أن تكتب سيرة إيمانويل كانت ـ والعهدة على الشاعر الفكه الظريف هاينرش هاينه لأنه لم يكن له حياة ولا سيرة حياة.  وقد وصف الأستاذ عباس محمود العقاد، الرجل بآلة مفكرة، آلة عظيمة بلا شك ولكنها آلة كسائر الآلات: تسير بميعاد وتقف بميعاد. وتأكل وتشرب وتنام وتستيقظ وتقرأ وتكتب وتتريض بميعاد. وكانت رياضة كانت المشهورة هي نزهته اليومية بعد الظهر.كان يخرج في الساعة الرابعة بالتمام والكمال لا يقدم دقيقة ولا يؤخر دقيقة ومهما كان حال الطقس، غائما، ماطرا، عاصفا ..وفي كل الفصول و امتلأ الطريق بالسابلة أم صفر وكان الناس في الطريق  الذي سمي بعد ذلك باسم الفيلسوف على يقين من أن صاحبهم لن يخل بالموعد لأي سبب. وإذا  ظهر في الطريق أومأ بعضهم إلى بعض وأخرجوا ساعاتهم وضبطوها. تروي كتب الأدب والسير أن كانت أخل بموعد نزهته اليومية مرتين.في المرة الأولى عندما سمع بصدور كتاب التربية للفيلسوف الفرنسي روسو والمرة الثانية عندما اندلعت الثورة الفرنسية. لقد كان كانت رجلا غريب الأطوار حقا.  وندر أن غادر مدينة كونجسبرغ ولم ير في حياته جبلا ولعله لم ير البحر قط  عن كثب. وصحيح أن الرجل كان آلة في أسلوب معيشته وعاداته الروتينية ولكنه لم يكن آلة في عقله ونفسه وروحه.فقد كرس حياته المديدة كلها للفكر والفلسفة،ولم  يتزوج ولم يخطر في باله موضوع الزواج إلا مرتين ولم يبلغ منهما حد المكاشفة، والسبب في ذلك لأنه كان فقيرا فوقف في المرتين عند التفكير والتردد والموازنة بين دخله ونفقات الزواج ومسؤولية العائلة. وبعد ذلك لم يفكر في الزواج وحين يطرح عليه السؤال في هذا الموضوع كان يغير مجرى الحديث ولا يتلقاه بقبول حسن ويعتبر ذلك تدخلا في شؤونه الخاصة. كان كانت يستمتع بالحديث مع النساء المثقفات. وقد ورد في إحدى رسائله إلى إحدى النساء حين دعاها إلى لقاء آخر «وإني أبعث إليك بقبلة، وأرجو أن يكون الهواء متعاطفا، حتى لا تفقد القبلة حرارة عاطفتها».