
يبرز اهتمام ابن رشد بالواقع العربي والأندلسي منه خاصة، وبصورة لافتة للنظر، عندما ينتقل مع أفلاطون إلى تحليل أنواع "السياسات" -وهي ما نعبر عنه نحن اليوم بأنظمة الحكم- والمقارنة بينها، وبيان كيف تتحول الواحدة منها إلى الأخرى، وتحليل شخصية الرئيس في كل منها، ثم مقارنة سلوك و"طباع" هؤلاء الرؤساء وكيف يتحول الواحد منهم من صنف إلى آخر. هنا يطنب ابن رشد مع أفلاطون، بل أكثر منه، منبها إلى نماذج من الحضارة العربية ومن الأندلس بلده بصفة خاصة، عاملا هكذا على تبيئة "السياسة" عند العرب مع "السياسة" عند اليونان…
وهكذا فمنذ بداية المقالة الثالثة التي خصصها لهذا الموضوع، وعند الكلام عن شروط رئيس المدينة الفاضلة، يستحضر فيلسوف قرطبة وقاضي قضاتها التجربة الحضارية الإسلامية فيقرر، خارج أفق أفلاطون، أنه: "قد يتفق أيضا أن يكون رئيس هذه المدينة ممن لم يصل إلى هذه المرتبة الرفيعة، مرتبة الرئيس الأول (النبي أو الفيلسوف)، ولكنه يكون عارفا بالشرائع التي سنها الأول" (النبي)، وتكون له القدرة على استنباط "ما لم يصرح به الأول، فتوى فتوى، وحكما حكما، وهذا النوع من العلوم هو المسمى عندنا بصناعة الفقه؛ كما تكون له القدرة على الجهاد. وقد يتفق أن لا تجتمع هاتان الصفتان في رجل واحد، بل قد يكون أحدهما مجاهدا دون أن يكون فقيها أو العكس، فهما بالضرورة يشتركان في الرئاسة، كما كان عليه الأمر عند كثير من ملوك الإسلام".
وبصدد تحول السياسة الفاضلة إلى سياسة الكرامة (=طلب الشرف والمجد) يستحضر التحول الذي حصل في الإسلام مع دولة معاوية فيخاطب قارئه قائلا: "وأنت تقف على الذي قاله أفلاطون في تحول السياسة الفاضلة إلى السياسة الكرامية، من سياسة العرب في الزمن القديم، لأنهم حاكوا السياسة الفاضلة (زمن الخلافة الراشدة) ثم تحولوا عنها أيام معاوية إلى الكرامية. ويشبه أن يكون الأمر كذلك في السياسة الموجودة اليوم في هذه الجزر" الأندلس.
وفي نهاية حديثه عن المدينة الكرامية يعقب قائلا: "فهذا النوع من الاجتماعات هو اجتماع الكرامة، يندر أن يوجد في أمة بسيطة. ولذلك يصعب أن توجد مثل هذه المدن. ولتعلم أن هذا النوع من السياسات ساد عندنا كثيرا".