انفاسظاهرة غريبة خرجت إلى النور في فرنسا منذ أربع إلى خمس سنوات، وهي لا تكف عن التنامي على مدى الأشهر: ألا وهي ظاهرة المقاهي الفلسفية. ما ينوف على مئة وخمسين من هذه الأماكن تنتشر في أنحاء فرنسا، ويجتمع فيها أشخاص من الأعمار والمشارب كافة ليتناقشوا حول الوجود والحب والموت، الرغبة والكلام، السلطة والحداثة. ولقد احتدم نقاش عاصف في قلب المؤسسة الفلسفية، وبين الأساتذة، بخصوص هذه الظاهرة، بعضهم انغمس في هذه المسألة بوصفه مشاركاً أو مديراً لبعض النقاشات، ولكن معظمهم اتخذ موقف المبتعد عن هذه الأماكن أو الكاره لها أو المندد بها بحماسة. فهؤلاء يرون أن صفة "فلسفي" لا تناسب أبداً تمريناً يبقى في جوهره "حديث مقهى". منذ عدة سنوات ومؤلف هذا المقال، وهو فيلسوف بنشأته، ينشط داخل هذا المقهى الفلسفي ويسعى هنا إلى أن يستوعب هذه الظاهرة في المجتمع الذي يشمل فرنسا بصورة خاصة، مع بعض الامتدادات هنا وهناك، وبصورة رئيسة في بعض البلدان الفرانكوفونية.‏
لمحة تاريخية عن المقاهي الفلسفية:‏
يبقى المظهر الأكثر إدهاشاً في هذه الظاهرة عفويتها. وقد استندت في نشأتها وتطورها إلى المصادفة والاستقلال أكثر من استنادها إلى أي قرار مدبر أو منظم. لابد هنا من التنبيه إلى دور وسائل الإعلام؛ إذ إنها أسهمت بكل تأكيد في إحداث موضة. في عام 1992، روى مارك سوتيه Marc Sautet، وهو أستاذ في فلسفة العلوم السياسية، في مقابلة إذاعية، ومن باب الدعابة، أنه يلتقي مع بعض الأصدقاء صباح كل يوم أحد في أحد المقاهي، في ساحة الباستيل في باريس، لكي يتفلسفوا. وكم كانت دهشته كبيرة عندما رأى يوم الأحد التالي عدداً كبيراً من الأشخاص يقصدون ذلك المكان لكي يشاركوا في تلك النقاشات اللاشكلية. وبما أن العدد أخذ يتزايد أسبوعاً بعد أسبوع. فقد صار من الضروري إيجاد بعض قواعد العمل لئلا تغدو تلك التجمعات مجرد هذرٍ فارغ.‏

وهكذا ولد المقهى الفلسفي. وبدءاً من عام 1995، رأت النور في باريس تجربتان أو ثلاث، وقد حفزتها مبادرات شخصية منقولة نوعاً ما عن التجربة الأولى. وفي ذلك الحين اهتمت الصحافة بالموضوع؛ الأمر الذي أثار أولاً بأول عدة محاولات عفوية حتى وصلنا إلى الوضع الحالي .

ويرتكز مبدأ إحداث المقاهي الفلسفية بصورة عامة على مبادرة شخص، إما لأنه شارك سابقاً في هذا النشاط في أثناء مروره بباريس أو بمكان آخر ولا يوجد شيء مشابه لذلك في منطقته، أو ببساطة لأنه يشعر برغبة في أن يقوم بذلك من نفسه، أو أيضاً لأنه سمع بذلك في الصحف أو على التلفزيون، وقرر أن يجرب حظه. معظم مدبري هذه النقاشات ومديريها هم أشخاص يشعرون بأنهم يمتلكون في آنٍ واحد هوية فكرية وميلاً اجتماعياً معيناً. كما أن بعض المبادرات الأكثر تنظيماً، والقائمة بصورة خاصة في المدن أو البلدات المتوسطة أو الصغيرة، قد عمدت إلى تنظيم هذا النشاط، وذلك باعتماد مدير له يقوم بتحكيم النقاش، وهو بصورة عامة مدرس فلسفة.

لم يكن الاستقبال الذي حظي به ديكارت في الثقافة العربية الحديثة استقبالا عاديا. فقد لاقى فطره عناية واهتماما عز نظيرهما بالنسبة لأي فيلسوف غربي آخر، باستثناء كارل ماركس ربما. إذ اقترن اسمه بصفة كونه "إمام وأب الفلسفة الحديثة"، و "أكبر الفلاسفة المحدثين" إلى غير ذلك من النعوت التبجيلية، مما يشي بأنه كانت قد تشكلت في الوسط الثقافي المصري من أوائل هذا القرن فكرة مفادها أن ديكارت هو مفتاح الفكر الحديث، الذي يشكل الإطلاع عليه ضرورة تقتضيها متطلبات روح النهضة التي أطرت فكر النخبة المصرية الناهضة في بدايات القرن.
ولعل ما يسر حسن استقبال ديكارت في بيئة ثقافية لم تخل يوما من حذر وتوجس من الفلسفة، على الرغم من المناخ النهضوي العام في مصر، ومن الصورة المشرقة التي تشكلت عن ديكارت، هو معرفة الكتاب والنخبة الثقافية العربية بآراء ديكارت في البرهنة على وجود الله، إذ يشير الدكتور عثمان أمين إلى أن الشيخ محمد عبده كان قد أشار إليها واعتمد عليها في السنوات الأولى من هذا القرن.

يرجع ظهور اسم ديكارت في الصحافة العربية إلى السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر في كل من مصر والشام. فقد نشرت مجلة "الهلال" في مصر، في أوائل كانون الثاني (يناير) 1897 جوابا على سؤال لأحد قرائها، يسأل فيه عمن هم الكارتازيون وفي أي عصر كانوا ومن هو المؤسس الحقيقي لمذهبهم، وعلى أي أساس بني مذهبهم، تقول فيه المجلة إن الكرتازينيين أو الكارتازيين هم أتباع فلسفة ريناتوس كارتاسوس وهو فيلسوف فرنسوي يعرف باسم ديكارت. ثم تواصل المجلة عرض بعض أفكار ديكارت، أما الكتب العربية الأولى التي بزغ فيها اسم ديكارت وتحدثت عن فلسفته فتعود بدورها إلى السنوات الأخيرة من القرن الماضي فنذكر من بينها كتاب الفلسفة للقس بوتيير الذي ترجمه جرجس صعب سنة 1883 ببيروت، وكتاب "الفلسفة" للأب جرجس فرح الصغير سنة 1893 بالاسكندرية، وكتاب "الفلسفة الحديثة" لأنيس أفندي الخوري سنة 1914 بالاسكندرية وكتاب "مبادئ الفلسفة" بالاسكندرية لزكريا أحمد رشدي، وكتاب "تاريخ الفلسفة منذ أقدم عصورها إلى الآن" المطبوع بالقاهرة لصاحبه حنا أسعد فهمي، في هذه الفترة تقريبا.

انفاسفردريك نيتشه لم يكن فيلسوفا بالإحتراف، ولم يتردّد أبدا على كلية الفلسفة في حياته الدراسية. والكلّ يعلم أنه كان، أولا وقبل كل شيء، فيلولوجيا مختصّا في الدراسات الكلاسيكية. علم الفيلولوجيا الكلاسيكي هو علم يعنى بدراسة الآداب القديمة ولغاتها (اليونانية واللاتينية) دراسة تاريخية نقديّة؛ علم يعتمد التدقيق في النصوص والتحقيق فيها والمقارنة بين المصطلحات والعبارات وتاريخ تطوّرها والتغيّرات التي طرأت عليها عبر العصور. وهو اختصاص ذو مناهج محدّدة ومبادئ عامة مُعترف بها ومُجمع عليها من طرف الدارسين المختصين. وهو أيضا علم لا يدّعي لنفسه تجاوز حدوده ولا الدخول في نزاع مع العلوم الأخرى. مَن يكتب في الفيلولوجيا عليه أن يتمسك بقواعد ذاك العلم وبمناهج البحث التي أُرسيت منذ عهود، وأن يستثمر ما آلت إليه البحوث السابقة والمعاصرة.
عدم تمكّن نيتشه من الفلسفة يظهر بوضوح من خلال كتاباته التي تشكو النقص في التوثيق وغياب الإستشهاد بالمراجع والتسرّع في الأحكام والنثر المشبّع خطابة وشعريّة. ولكن الأكثر خطورة هو أن نيتشه أخلّ حتى بالعلم الذي اختص فيه أي الفيلولوجيا: فعلا، كتاب نشأة التراجيديا " Die Geburt der Tragödie" هو كتاب فيلولوجي حالم ومتوهّم. لقد خرق بذاك العمل، وهو رجل متخصّص، يدرس ذاك العلم في مؤسسة جامعية عريقة، كل المعايير والمناهج التي انبنت عليها الفيلولوجيا.
شنّ حربا شعواء على أعلام الفلسفة اليونانية الكلاسيكية وبالأخص منهم سقراط واتهمه بقتل التراجيديا هو والكاتب المسرحي يوربيدس الذي استمدّ، حسب زعمه، تعاليمه من سقراط وأدخل العقل والمنطق في أعماله المسرحية. وهي حملة بدأها قبل صدور نشأة التراجيديا في مجموعة من المحاضرات ألقاها في فترة لا تبعد كثيرا عن فترة صدور كتابه نشأة التراجيديا. هذا علاوة على أقوال مربكة وأفكار ناشزة وتُهَم خطيرة، رُكّبت على كَاهل رِجَال مِن العالم اليوناني وعلى فيلولوجيين معاصرين له وسابقين عليه. وهي أقوال ينقصها التوثيق وغير مدعّمة بشواهد تاريخية دقيقة كما هو معمول به في أي مبحث علمي يستحق هذه التسمية.

كتابان اثنان كانا لهما أثر كبير ومحدِّد في حياته الفكرية :

أنفاسأنفاسفي أواخر الحرب العالمية الأولى خرج إلى الوجود كتاب يحمل العنوان المشئوم التالي : أفول، أو غروب الغرب. لاشبنغلر (spengler) لا يفهم من الغرب ما تعودنا أن نطلق عليه الحضارة الغريبة، أي تلك الحضارة التي انبثقت من اليونان، بل يفهم منه الثقافة التي بزغت بأوربا الشمـالية حـوالي ق 1000م. وتشمل علاوة على ذلك، الثقافة الغربية الحديثة. لقد تنبأ، إذن بأفول الحداثة أو بغروبـها، ويعتبر كتابه وثيقة دامغة على أزمة الحداثة. وحقيقة وجود هذه الأزمة أصبح اليوم جليا حتى لذوي الأفهام الضعيفة. ولكي نفهم أزمة الحداثة يجب أن نفهم بادئ ذي بدء خاصية الحداثة.
تتجلى أزمة الحداثة أو تكمن في واقع كون الإنسان الغربي الحديث لم يعد يفهم ما يريد ولم يعد يعتقد أن بإمكانه أن يعرف ما هو خير وما هو شر، ما هو صحيح وما هو خاطئ. وإلى بضعة أجيال خلت كان من المسلم به عادة أن بإمكان الإنسان أن يعرف ما هو صحيح وما هو خاطئ، ويعرف النظام الاجتماعي العادل أو الحسن أو الأحسن. وباختصـار يعرف أن الفلسفة السياسية ممكنة بل وضرورية. هذا الاعتقـاد فقد نفوذه في زماننا. ووفقا لرأي سائد فإن الفلسفة السياسية مستحيلة : لأنـها كانت حلما، قد يكون حلما رفيعا، لكنه يبقى حلما على أية حال. وفي الوقت الذي يوجد فيه اتفاق واسع حول هذه النقطة فقد اختلفت الآراء حول سبب قيام الفلسفة السياسية على خطأ أساسي. وفقا لرأي واسع الانتشار فكل المعارف التي تستحق اسم معارف هي معارف علمية. لكن المعارف العلمية لا تبرهن على أحكام القيمة بل تقتصر على الأحكام الواقعية. بيد أن الفلسفة السياسية تفترض مسبقا بأنه يمكن البرهنـة عقلانيا على أحكام القيمة. ووفقا لرأي آخر أقل انتشارا لكن أكثر دقة، فإن التفرقة السائدة بين الوقائع والقيم لا يمكن الدفاع عنها: لأن مقولات المعرفة النظرية تنطوي بداهة وبهذه الطريقة أو تلك، على مبادئ التقييم. لكن مبادئ التقييم تلك، إلى جانب مقولات الفهم، فهي كلها متغيرة تاريخيا ومن عصر لآخر. ولهذا السبب يستحيل الجواب بطريقة معترف بـها كونيا عن مسألة الصحيح والخاطئ أو مسألة النظام الاجتماعي الأحسن، وبطريقة صالحة لكل الفترات التاريخية، كما تستوجب الفلسفة السياسية.

إن أزمة الحداثة، إذن، هي في المقام الأول أزمة الفلسفة السياسية الحديثة. يبدو هذا الأمر غريبا : لماذا يلزم أن تكون أزمة ثقافة ما، في المقام الأول، أزمة مبحث أكاديمي واحد من بين عدة ؟ لكن الفلسفة السياسية ليست أساسا مبحثا أكاديميا : لأن معظم فلاسفة السياسة العظام لم يكونـوا أساتذة جامعيين.

انفاسولعل معنى هذا أن الحيوية هي الفلسفة الحقيقية فعلا والمتميزة حقا التي تسند وتدعم البحث العلمي في علوم الإحياء، الفلسفة التلقائية النهارية للممارسة العلمية في البيولوجيا، ولكن الفلسفة التي لا تفتأ تتغير وتتحول في رؤيتها ومقولاتها بالترابط التام والعضوي مع تطور الممارسة العلمية نفسها. ولربما أن هذا هو الذي لم يدركه بعض كبار البيولوجيين في زماننا حينما رفضوا الحيوية جملة وتفصيلا كميتافيزيقا.
يود هذا المقال أن يعرض بالتحليل لأحد مفاهيم فلسفة التفكير البيولوجي، وهو مفهوم الحيوية. فلسفة التفكير البيولوجي، أي المبدأ العام أو نظام المبادئ النظرية التي تؤطر وتوجه الممارسة العلمية للبيولوجيا في إنتاجها للمعرفة بظواهر الحياة. إلا أن الحيوية قد عرفت، في تاريخ الفكر البيولوجي، وضعا هامشيا اعتبرت فيه عموما على أنها لا تعدو أن تكون مجرد ميتافيزيقا (أي أوهاما فارغة) بالية عديمة الجدوى بإطلاق في فهم وتفسير الحياة. وإذا كان هذا الموقف الفلسفي، لأنه فلسفي بمعنى ما، قد شكل طويلا قناعة راسخة عند مؤرخي البيولوجيا، بل حتى عند البيولوجيين أنفسهم، فإنه قد تعرض اليوم لإعادة نظر جذرية، نقدية تقويمية، أزالت عنه المسبقات التي لحقت به، وكشفت عن مضامين الأوصاف التحقيرية التي ألصقت به؛ ومن ثم بيان فعاليته والأهمية القصوى لدوره في تاريخ علم الحياة وممارسته.

ولكن، لم يكن لهذا العمل النقدي التقويمي أن يكون ولا أن يتم إلا ضمن رؤية لتاريخ التفكير البيولوجي تقوم على النقيض المطلق من الرؤية التي جعلت من الحيوية بالذات مجرد خيالات لا غير. إنها رؤية التاريخ الإبستمولوجي للعلوم كما بلور مفهومه جورج كانغلهم. فالحيوية، من هذا المنظور، هي حقا وفعلا فلسفة المعرفة البيولوجية، ضد الغائية والإحيائية والآلية وكل اختزال للحياة إلى ما ليس من الحياة في شيء. لذلك سيعتمد هذا التحليل على ما نعتقد أن أعمال كانغلهم صيرته، بخصوص هذا الموضوع، متجاوزا وغير قابل للتفكير.

انفاسمن "غرائب الفلسفة" التي يذكرها الفيلسوف الفرنسي إتيان صوريو، في آخر كتبه، حادثة طريفة وقعت له عندما كان يدرس الفلسفة بجامعة ليون؛ فقد زاره شخص على وشك التقاعد من عمله العسكري، كمساعد في قوات المشاة، يريد أن يتعلم الفلسفة. ويسأل الأستاذ هذا الطالب الغريب، عن الدراسات التي تلقاها في هذا الميدان. فيجيب: "لقد حفظت كتاب المونادلوجيا". وفجأة، وبكل تمكن واعتداد، شرع يتلو عليه: "المونادة التي سنتحدث عنها ما هي إلا جسم بسيط، وبسيط تعني بدون أجزاء"… لقد حفظ الرجل عن ظهر قلب، على الأقل، بداية كتاب ليبنتز في المونادلوجيا.
بقدر ما يدعو هذا الموقف إلى الضحك فإنه يدعو كذلك إلى الإشفاق على مثل هذه النفس ذات الإرادة الطيبة والتي ضلت طريقها بدون شك. لكن، وبالمثل، ألا يوجد أولئك الذين حفظوا تواريخ الفلسفة، أي أسماء المؤلفات وسنوات الميلاد والوفاة، هم كذلك على طريق الضلال؟ صحيح أن الوقائع التاريخية يجب معرفتها في الفلسفة وهي تدخل ضمن ما يثير الحماس والانفعال الفلسفي؛ لكن المشكل المطروح هنا لا يتعلق بمعرفة ما يمكن أن يخلق "حمى فلسفية"، بتعبير صوريو، ولكن بمعرفة ما إذا كانت الفلسفة تصلح موضوعا للتعلم؟ أي ما إذا كان يوجد في الفلسفة شيء ينشأ عن امتلاكه نوع من المتعة عندما يرتاح الفكر؟ وبالتالي هل للفيلسوف الحق في الاستنتاج أم أن كلمته الأخيرة ستكون هي: "ابحث، وإبحث دائما، لكن لا تعثر على شيء!"؟من المؤكد أن أفلاطون يعلمنا شيئا ما عندما يقول: إن العلاقات التي تجعل سيولة الظواهر معقولة، لا تقل بدورها واقعية عن تلك الظواهر ذاتها، كما أن تلك العلاقات تمنح نوعا من الثقة والراحة الفكرية بخصوص الصلابة التي تضفيها على صورتنا عن العالم. كما يعلمنا ليبنتز أن تطابق الفكرة التي لدينا مع البريق الصادر عن نجمة بعيدة أو مع المذابح التي ينفذها الإنسان في الإنسان، لا ينبغي أن يفهم كفعل راهن لأحدهما على الآخر، وإنما كانسجام أو توافق، وهو بذلك يعلمنا كيف ندخل في علاقة توافق هارموني مع أفكار أخرى، وحقب أخرى.


فلسفة -انفاسسمى القدماء الأرض والسماء بما تحتويه من شمس وقمر وكواكب ونجوم ثابتة باسم "العالم" يقول الشريف الجرجاني في التعريفات " العالم لغة: ما يُعلم به الشيء، واصطلاحاً: عبارة عن كل شيء ما سوى الله من الموجودات لأنه يُعلم به الله من حيث أسماؤه وصفاته". وذكر الغزالي مثل هذا فقال " ونعني بالعالم كل موجود سوى الله تعالى ونعني بكل موجود سوى الله تعالى الأجسام كلها وأعراضها" وفي لسان العرب "العالم هو الخلق كله، وقيل هو ما احتواه بطن الفلك"  وهذا الاصطلاح مرادف لما نسميه اليوم "الكون" Universe. على أن مصطلح الكون كان يعني عند الفلاسفة والمتكلمين شيئاً آخر. يقول الجرجاني "الكون اسم لما حدث دفعة كانقلاب الماء هواء، فإن الصورة الهوائية كانت ماء بالقوة فخرجت منها إلى الفعل دفعة فإذا كان على التدريج فهو الحركة، وقيل الكون حصول الصورة في المادة بعد أن لم تكن حاصلة فيها"
موضوع العالم وخلق العالم وقدمه أو حدوثه من الموضوعات الفلسفية الأساسية التي عالجها القدماء، وعالجتها المعتقدات الدينية كافة. وكان لكل معتقد ديني تصور عن هيئة العالم وكيفية نشأته. فقد تصور الهنود القدماء الأرض قوقعة عظيمة تحملها أربعة أفيال عملاقة تقف على ظهر سلحفاة، وعلى الرغم من بدائية هذا التصور إلا أنه لا يخلو من معان أهمها: الشعور بتحدب سطح الأرض وإلا لما اختار الهنود القوقعة، والثانية معرفة أن اليابسة محاطة بالماء من جميع أطرافها. ولعل في اختيار هذا التكوين الحرج الذي تقف فيه الأفيال على ظهر سلحفاة إشارة يُستفاد منها في تفسير حصول الهزات الأرضية.
كما أعتقد الروس أن الأرض قرص يطفو على الماء تحمله ثلاث حيتان عظيمة، ويتضح من هذا التصور شُح المعلومات التي يمكن استنباطها من هذا التصور البدائي مقارنة بتصور الهنود، فالأرض وفقاً لهذا التصور مستوية إلا أن طفوها على سطح الماء يجعلها غير مستقرة في إشارة لتفسير الهزات الأرضية ربما

انفاس" العمل ليس مجرد ضرورة قاسية لا يستطيع الإنسان التملص منها بل هو في الوقت ذاته الإمكان المتاح له حتى يبلغ جدارة عالية"[1]
استهلال:
لم يوجد الإنسان فقط ليتأمل ويحب الحياة وينظم الشعر ويؤلف الموسيقى ويلهو ويلعب بل وجد أيضا ليعمل ويشقى ويكابد وينتج ويحول ظواهر الطبيعة إلى أشياء نافعة وينمى ثرواته ويمتلك جملة من خيرات ويطور فرديته ويستقل نسبيا عن الجماعة التي وجد ضمنها في السابق لاسيما أنه "كلما أخلد إلى الكسل كلما صعب عليه أن يعزم على العمل"[2]، لكن التوتر سيبرز والإشكال سيظهر عندما يجد المرء نفسه حائرا أمام إيجاد تفسير لعمله فهل هو وسيلة لتحقيق الربح بتقاضي أجر أم أنه غاية إنسانية نبيلة؟ وهل يعمل لتلبية الضرورة الطبيعية أم لتجسيم اختيار ثقافي؟ هل العمل هو مصدر الملكية وطريق نحو السعادة أم أنه يضفي معنى على الحياة؟
ما يزيد من حيرتنا هو تحول العمل من الحرفة إلى المانيفاكتورة ومن علاقة إنتاج داخل المصنع إلى علاقة تبادلية بين الدول في إطار التقسيم العالمي للعمل "عمل على تأبيد التبادل اللامتكافىء وتفاقمه"[3]، وقد انعكس التقسيم التقني للعمل كذلك سلبا على العمال وعوض أن يخلصهم من الملل صار هو الذي يسبب لهم ذلك وصاروا يعملون دون متعة وكما يقول دي توكفيل:"كلما تقبل مبدأ تقسيم العمل تطبيقا أكثر تقدمت الصنعة وانحط الصانع" وبالتالي عوض أن يحفظ العمل كرامة العامل ويحقق له الازدهار والرخاء المادي فاقم من بؤسه وجعله ينحط عن كرامة طبيعته ويحن إلى حياة البدائي الهمجية الحرة الواسعة.
إن الذي يدعونا إلى الاستشكال الفلسفي المعاصر لظاهرة العمل هو المفارقات التي أصبحت تطرحها والاحراجات التي بات تخلفها عند الإنسان العادي ومحترف الثقافة وممتهن الصناعة وخاصة تواجدها على عتبة البطالة والاستعباد وبين نحتها لماهية الإنسان وتسببها في فقدان الذاتية والتحول إلى آلة عاملة غير قادرة على التمتع باستهلاك قليل مما تنتجه.

يصنف بعض الفلاسفة (هيجل) وجوب تربية الفرد وتنشئته في اعتماد منهج التفكير الادراكي الجدلي للعقل، وهو مايعزز لدى الفرد والمجتمع تنمية الوعي بالحرية المسؤولة، وتنمية ارادة الاندماج مع الدولة. ويعزز ايضا ضرورة تنمية الوعي الديني والفلسفي.
تربية العقل تربية جدلية منهجية في التفكير وفهم العالم والحياة ليست مسالة سهلة من حيث تباين واختلاف طبيعة الجدل بين الوعي القصدي الانفرادي كسلوك وبين الجدل كفلسفة عقلية لا يمكن تلقينها للفرد تربويا. كما لا يمكننا اعتبار اكتساب التفكير الجدلي يمنح صاحبه ادراك الواقع جدليا. من حيث جدل الواقع يحكمه قانون طبيعي منعزل عن تحقيق رغائب الانسان أو امكانية التداخل معه.
وسنتناول الجدل في مفهومه الفلسفي الذي هو الاخر يرتبط بالسلوك النفسي للفرد اكثر من كونه فلسفة فهم الحياة. كون الجدل هو وعي ادراكي في فهم الحياة وفق منهج جدلي خاص بفرد لا يمكننا تلقينه تربويا للمجموع. صحيح العقل اعدل قسمة مشتركة بين الناس في التفكير كما يصفه ديكارت لكن خاصية الجدل ليست خاصية عقلية مشتركة تجمع طبيعة تكوين غالبية عقول الناس.

تعد مشكلة الخوف من الموت وطبيعته تقليدياً من دائرة اختصاص الدين، والدين ينكر عادة الطابع المتناهي للموت، إذ يؤكد استمرارية الشخصية الانسانية سواء في شمولها النفسي – البدني او كنفس متحررة من البدن، مؤكدا على طابعها الممّيز المألوف. ومن ثم فأن الفلسفة لم تشرع في الاهتمام بالموت الا حينما اصبح التأكيد الذي يطرحه الدين مشكوكا فيه وموضع ريبة، او حينما بدا هذا التأكيد في تناقض لا مفر منه مع شهادة حواسنا المباشرة التي لا جدال فيها.( )
وحينما اصبح الرد الديني على الموت موضع تشكك سعت الفلسفة الى دعمه بحجّة عقلانية، وعندما غدا الامر متعلقا بالتناقض راحت الفلسفة تسعى الى الوصول من خلال النظر العقلي الى رد مؤكد مماثل لذلك الذي طرحه الدين منذ وقت طويل، او تصدت للوصول الى التصالح مع الموت منظورا اليه باعتباره نهائيا او بحسبانه خلودا غير شخصي, خلود الانسان كنوع.وهناك امكانية ثالثة، فالعجز عن تقبل الحل الديني يمكن ان يؤدي بالفيلسوف الى الاهمال الكلي للمشكلات التي يطرحها الموت، والى انكار انها تقع في دائرة اختصاص الفلسفة.(2)
وفي غياب اقتناعات دينية محددة تماما، كما كان الامر في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد في بلاد الاغريق على سبيل المثال، وفي القرنين الثاني والاول قبل الميلاد في روما، نجد الموت لا كموضوع للفسلفة فحسب، وانما كمحرك لها ايضا، لكنه مع مجيء المسيحية، ووعدها بالبعث والحياة الخالدة، في العالم الاخر تقلصت الضرورة الحيوية لقيام الفلسفة بتناول الموت.حيث غدت الفلسفة ذاتها تابعة للاهوت لاسباب عديدة. لكن سيكون من الخطأ الاستنتاج بأن الانشغال بالموت قد اختفى في العصر المسيحي فالظهور التدريجي لتصور محدد للحياة الاخرى، التي طورها اللاهوت وجعلها الشعر، والنحت، والتصوير، واقعية بصورة مرئية.(3)

1. الحداثة والعلمانية
في تفسيرنا العنوان يتوجب علينا توضيح العلاقة بين (الحداثة والعلمانية) هل هي علاقة جدلية ام علاقة معرفية تكاملية ام معرفة متوازية في توازي احدهما الاخر. العلمانية هي بداية الخروج من معطف الماقبل حداثي في النهضة وعصر الانوار وبلغت العلمانية اوجها في الحداثة ووصلت قمتها المتطرفة اكثر في مجيء ما بعد الحداثة.. التي افصحت عنها في راديكالة متطرفة الفلسفة البنيوية.
العلمانية واقع معيش يكفل للانسان كرامته وتحفظ له كامل حقوقه بالحرية المسؤولة التي تقوم على جملة القوانين الوضعية التي ينتفع منها الانسان.
الاستقلال في التضاد الافتعالي مابين العلمانية والدين ليست علاقة جدل نفي أحدهما في بقاء الاخر. لكن بينهما ترابط ميتافيزيقا الدين, وتاريخية منهج العلمانية التي تسود هيمنته على كل ما يجتنب الديني الخوض في معترك انقياده للعقل المادي. ما يثبته العلم بالتجربة في الرياضيات والفيزياء والكيمياء لا يخوض معتركها الدين.
الحداثة لا تقاطع الديني كمقدس ولا تسعفه بالتكامل المعرفي معه. لذا يكون الاسلم ان يحكم الاثنين نوعا من التوازي الاستراتيجي الذي يحفظ الاستقلالية لكليهما.
من الخطا التفكير ان منجزات العلم ستترك الجوانب الروحية النفسية يقررها إستفراد التدّين الوضعي ويقرّه مستقلا بالوصاية عليه وحده..