مجرد ثوانٍ قليلة غيرت كل شيء في حياته، بعثرت كل أوراقه التي قضى عمره تعبا في ترتيبها. كان ممددا على أريكته، ثم فجأة اهتز كل ما اعتبره طوال عمره ساكنا ثابتا، خانه كل ما أمده بالطمأنينة والأمان، اهتزت الأرض والبيت والجدران.
ما هي إلا ثوانٍ حتى وجد نفسه في قبرٍ ضيقٍ تحت ركامٍ ضخمٍ من صخور بيته الذي طالما آواه، رُكام يمنعه من الحركة ويكتم أنفاسه، ظلام حالك دامس وصمت مُطبق، لا حركة ولا سكون، لاشيء. إنها لحظة طالما سمع آخرين عاشوها، ومع ذلك لم يتوقعها يوما، كان هناك دائما صوت بداخله يخبره أنه استثناء، أنه مختلف أنه "لا يموت"، حتى عندما تخيل بيته يتصدع ويكاد يهوي، اعتقد بسذاجة أن الجري نحو السلالم أمر في المتناول وسينقده وينجيه.
تساءل في فزع: "هل انْهَدّ بيته العتيق المتشقق الآيل للسقوط؟ أم تُراه زلزال عصف بالمدينة عن بكرة أبيها؟ أم هي قيامة قامت ودنيا فنت إلى غير رجعة؟" أسئلة محيرة بدون أجوبة.
صرخ بكل قوته ينادي أسرته وذويه بأسمائهم الواحد تلو الآخر، لكن صوته المكتوم لم يكن يلقى جوابا، لابد أن الجميع هلكوا، ومع ذلك ظل يصرخ طويلا عله يوقظ أحدهم، زوجته أو أولاده أو بناته، لكن كل صراخه كان يضيع بلا جدوى، ثم في الأخير استسلم لليأس، أدرك أن دَابِره انقطع في الدنيا بغير رجعة.
ما هي إلا لحظات حتى انتبه إلى نفسه المسحوقة فَتَمَلّكَه الرعب، ليس خوفا من الموت؛ فإدراك ذويه خير له من الحياة دونهم، لكنه الخوف من أن يظل في نفس الوضعية غير المريحة لساعات أو أيام، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة الضيقة بين الغبار، بحلق جاف ولسان يلعق التراب. كل ذلك دون أن يدرك أحد وجوده أو يشعر إنسان بمعاناته الأخيرة. في تلك اللحظة أحس بالحاجة للآخر، هو الذي لم يكن يهتم بأحد ولا يمد يد المساعدة لإنسان، ولم يكن يجد في نفسه حتى القدرة على سماع شكاوى الناس التي تُرهق سمعه. ها هو اليوم يحتاج للآخرين: يحتاج أن يروا دمعاته، فبرؤيتها ترتسم خطوط الحزن والتعاطف على وجوههم، ساعتها فقط يدرك وجود عبراته وهي مذرفه ترسم طريقها على وجهه التعيس. يحتاج للآخرين كي يسمعوا أنينه وكلماته التي تنطلق وتهيم نحو العدم بلا صدى، فبسماعها تنبعث منهم عبارات المواساة والعزاء، ساعتها فقط يدرك وجود كلماته وحديثه. في غياب كل ذلك حاول أن يكلم نفسه، أن يكون هو أذنه السامعة وعينه الناظرة، لكن الكلام كان ينطلق من روحه من فمه من صدره من أذنه من كله في كل اتجاه، فكيف يُدرِكُهُ وأنَّى يسمعه؟ مستحيل! إن حديثه مع نفسه مجرد وَهْمُ حديث.
سكتَ لبرهةٍ ثم عاد في جنون ليستسلم للرغبة في الكلام، كلام ببعد واحد، فتساءل مع نفسه، إذا كان هذا زلزالٌ أصاب المدينة بأكملها، فإن غالبية أحباءه ومعارفه هلكوا، ولم يبق فوق هذه الأرض أحد يعرفه، ليس جسديا طبعا، بل كمجموعة ذكريات، ففي الأخير ماذا يكون المرء سوى مجرد ذكريات مبثوثة هنا وهناك بين مجموعة من المعارف، متى انطفئوا اختفينا. أو لربما قامت القيامة وانعدم الجنس البشري، وربما اختفت الحياة كلها من الكون ولم يعد هناك معنى للأحاسيس والأفكار والكلمات إلى الأبد. وسيكون عليه انتظار حمض أميني أو بروتين تائه في أحد تخوم الكون لينغرس في مكان ما، ثم ينتظره بلايين السنين علّه ينتج حياة ثم بشر ثم مجتمع ذو ثقافة عربية ليعود المعنى من جديد مبتوتا في الوجود...مستحيل: كل ذلك مجرد أوهام وأحلام.
مضت لحظات من الصمت ثم ما لبث أن عاد للصراخ من جديد: "يجب أن أتحرك، ولكن من المستحيل تحريك كل هذه الصخور! إن مجرد المحاولة قهر وألم وتمزق، فهل أنتظر إنقاذا لن يأتي؟ لا أسمع صوتا ولا أحد يسمعني فماذا عساي أفعل؟ لاشيء!! ما معنى لاشيء؟! هل هو شيء يمكنني فعله؟ غريب صرت أتفلسف وأنتبه لكلمات لم ألاحظها من قبل! اللاشيء هو نقيض الشيء ولكنني لم أر يوما اللاشيء ولا أعرف ما يعنيه، إنه مجرد اسم مسبوق بلا النافية، مجرد كلمة جوفاء لا معنى لها سوى الإيحاء بأن هناك معنى وكلام حيث لا يوجد كلام ولا معنى. مجرد ملئ للفراغ الذي يجتاحني من كل جانب، تعبت من الكلام الفارغ...ولكن، مادام ليس هناك كلام وليس هناك فعل وليس هناك "أنا"، فلماذا يستمر ضجيج كلماتي ومحاولات فهم اللافهم. كأنني كبشُ عيدٍ منحور يتخبط حركاتٍ عبثية أخيرة في كل اتجاه بلا معنى، لقد أصبحت كائنا ارتداديا صرت بلا معنى كل كلامي يرتد نحوي. آه ثم آه. ليتني أغفو قليلا، أتوقف عن الوجود ولو للحظات. لكن الألم لا يطاق ولا يدع لي مجالا كي أنام أو أموت هنيهة. في كل مرة يُفَجّر في دواخلي رغبة جامحة في التحرر ما تفتأ ترتد بالصخور والركام، فيعود الصمت من جديد".
فجأة سمع صوت أنين ابنته من بعيد تحت الركام، هتف باسمها مرارا وتكرارا هلعا، ردت عليه أخيرا وهي تستنجد به ضعيفة مضطربة مهزوزة، أَحَسّ بشعور يدفعه لمواساتها، ذلك الإحساس الذي طالما دفعه ليدعمها، إنه حب مخلوط بنوع من الإحساس بالذنب لأنه المسؤول الأول عن قذفها في هذا العالم البائس، إنه ذنبه، أنانيته في لحظة ضعف ونشوة. لم يستحمل صرخاتها وبدأ يحاول تهدئتها، حاول مرارا وتكرارا لكنه فشل، فخوفها أقوى من نبرات صوته، استمر صوتها يمزق أحشاءه ويكاد يفقده صوابه. وفي لحظة سريالية اخترقه سؤال غريب: ما الداعي لمحاولة تهدئتها أصلا؟ ما الفائدة؟ هل يخاف عليها أن تمرض نفسيا وتَتَعَقّد في المستقبل؟ هل يخاف عليها الأرق ليلا حينما تلجأ إلى سريرها؟ هل يخاف على سعادتها؟ ما هي إلا لحظات وينتهي كل شيء. حتى محاولة تهدئتها فقدت معناها وجدواها.
ثم التفت إلى نفسه وتساءل: هل من حقه أن يتعاطف وسط الركام؟ هل من حقه أن يخاف تحت الأنقاض؟ هل عليه أن يتشجع ويكون رجلا فحلا؟ هل عليه أن يموت بكبريائه؟ أم يمكنه أن يموت جبانا حقيرا؟ ما الفرق؟ وبالنسبة لمن؟
في تلك اللحظة انتهى جدوى الكلام، كل شيء انهار مع انهيار البيت وانهيار الأمل. إنه حي ميت، وميت حي، صار ينوح بأعلى صوته: "هيا اصرخي أيتها الحنجرة رعبا وارتعدي أيتها الفرائص فزعا، وابكي أيتها العيون ذلا. كوني كما أنت وكما لطالما أردتِ وكَبَحْتُكِ، باسم كل تلك الأشياء الكاذبة من شجاعة وكرامة وحق. الموت اليوم وشيك، حَقّيقِي كل أمنياتك يا كُلَّ قطعة من جسدي، اليوم قد تحررتي مني. لم أعد بعدُ موجودا، بل لم أكن قط موجودا، كنت مجرد خرافة أو سراب وها هو اليوم قد تبخر وذاب...".
صار يصرخ ويصرخ، ومثل شمعة ضعيفة ضئيلة صار ينطفأ بصمت تحت التراب.