سيدتي يا غزالة الفؤاد، لماذا اكره لك الفلسفة؟ اجيب عن هذا السؤال بأن الفلسفة تفسد الحب، لكني لم اعد اخاف على هذا الحب من الفلسفة، اننا معا ابناء الشعر، ابناء القصيدة الاولى التي كانت سبب حبي لك، لكني لا استطيع التخلص من الفلسفة وانا افكر في الامر، فهي توجسي وشكي الباقي وإني اخاف من ركود التيقن الاعمى.
لو انك يا سيدتي غزالة الفؤاد طلبت مني ان اجعل لهذا الحب حالة ولادة او شهادة ميلاد كي نسجل له حالة مدنية، لقدمت لك زمن الخط الاول، هذا الخط المرسوم بأصابعك الرشيقة كقلم كنت اكتب به على لوحي الخشبي ايام الطفولة الاولى في المسيد.
جلستِ في الدرجة الثالثة على ما اذكر وانت تحضنين دفترا وبين اناملك ذلك القلم، وفي وجود آخر كنت انا ذلك القلم فقد كتبت بي في تلك اللحظة قصيدتك الأولى، ولا اظنك سمعت تعليقي على خطك الجميل لأني ابديت الملاحظة بصوت خافت وكأني أخشى أن تضيع مني، امامك مباشرة كانت اشجار سرو وعلى بعد خطوات الى اليسار هناك شجرة لوز، لكني لم اكن ادري مقدار اهتمامك بالأشجار والبذور.
وإن لم يعجبك هذا التاريخ فليكن يوم ميلاده يوم القصيدة الاولى، يوم قرأتِ تلك القصيدة تلوت انا في هيكل الحب اولى سور عشقك، يومها عتقت اولى عناقيد العنب لتكون نبيذا، قطفتها من دالية الفؤاد. اخترقني صوتك الرخيم كالصلاة عموديا وافقيا، طولا وعرضا، فأطرقت مبتسما كعهد التاريخ بالعشاق.
وإن لم يعجبك هذا التاريخ فليكن يوم ميلاده يوم رأيتك على الرصيف الايسر في طريق النزول وانت تحملين بين يديك كتابا، لم يهمني الكتاب في شيء كنت سأقرأه فقط لأنك تفعلين، كتابٌ والرصيف، هذه الصورة الشعرية التي تذكرنا بالطريقة التي تقبل بها الامواج رمال الشاطئ، الرصيف الطريق، والكتاب الذاكرة، لم تكوني تعرفين مقدار المعاني التي تثيرينها في نفسي.
الخط الوشمُ، الصوت الصلاةُ، و الكتاب السفرُ، هذه كانت معادلة عشقي وميلاد حبي.
اما التأليف فإن الحب هو الذي يؤلف بين أجزاء الوجود، هكذا نتعلم من انباذوقليس وليس غريبا ان يكون هذا الرجل اب علم البيان اليوناني، فإن في نظريته في الوجود تلك الشعرية الأولى، فالعناصر عنده تجتمع وتفترق بقوتين كبيرتين هما قوتا المحبة و الكراهية. إن المحبة هي التي تظم الذرات الى بعضها البعض، والكراهية هي التي تعمل على فصل هذه الذرات، إذن فالمحبة كون والكراهية فساد، المحبة وجود والكراهية عدم، وليس غريبا ان نجد احد اتباع بوذا يقول " انا احب اذن انا موجود" كانت فكرة الانسجام والتلاؤم والتآلف اذن هاجس العقل البشري.
إن الإنسان يشتاق، وهذا الشوق هو عنصر الحركة فيه، والحركة هي حد وماهية الموجود، فالكف عن الحركة كف عن الوجود، فإذن عندما لا نشتاق فلا حركة فينا ولا وجود فينا، بدون شوق نصبح فارغين، ان المحبة اذن نوع من الوحدة نوع من التلاؤم نوع من الانسجام، هذه الوحدة التي بحث عنها العقل البشري في خضم الكثرة التي تحكم عالم الاشياء، هذه المحبة الوحدة لا نبلغها الا بواسطة الشعر هكذا يعلمنا بارمنيدس وهكذا تعلمنا شعرية انباذوقليس.
هذا العود الافلاطوني، كذلك يجعلنا نفكر في هذا التعالي المثالي [الحب الافلاطوني] بلوغ الثابت، بلوغ المثال، ليحدث هذا يجب ان يكون هناك شيء أعلى منا، ولكن في الوقت نفسه يسكن فينا، اذ نحن المكان الذي يلتقي فيه الـ" هنا " مع الـ " هناك " لهذا تكون المعرفة عند افلاطون تذكرا والجهل عنده نسيان.
ولكن اذا نحن فكرنا في المسألة هنا نجد أن المعرفة ليست ضد او مقابل الجهل وإنما هي ضد النكران، والنكران رفض والرفض كره، فتكون المعرفة هي المحبة، لكن المعرفة-المحبة هي غاية ونهاية الطريق، ان الجميل هو عيش تجربة الطريق- الكتاب. إن التعارف اذن تحابب وتآلف وائتلاف ف [ الارواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف]
هذا هو معنى التأليف والتوليف يا سيدتي غزالة الفؤاد، وإن هذا القول ابن الشوق، فإني اعرف مقدار الشوق الشاق الذي سأكابده في القادم من الايام من ايام عمري، ولكن لا خير في قلب لا يشتاق ولا حياة فيه، فحياة القلوب تقاس بمقدار الشوق فيها، وكلما قل فيها قل فيها الوجود وقلت فيها الحياة.
إن قوة الشوق هي ما يحرك القلوب نحو المحبوب كما تحرك قوة الشوق هذه الاجرام السماوية في افلاكها، إن كل الموجودات تجري الى محبوبها الاسمى والذي يحركها هو الشوق الذي فيها للأول.
الخط الوشم، الصوت الصلاة، الكتاب السفر. هذه هي الذاكرة العامة التي تجمعنا، الخط الوشم؛ سورة العشق المنقوشة في هيكل الحب. الصوت الصلاة؛ ترنيمة المبتهل في غسق الدجى يناجي. والكتاب السفر؛ طريق الحب واليد العتيقة لباب ذكرانا وتاريخنا، ان الذكرى هي ذرات الانسان والشيء الذي يؤلم الانسان هو انه لا يستطيع القبض على كل لحظاته الا بشكل باهت، والسفر هو سؤال الوقت، سؤال التاريخ.
سيدتي يا غزالة الفؤاد، إن هذا الوقت فقط هو الذي يقف امام هذا الحب، واني لا اخاف عليه من الفلسفة وإنما اخاف عليه من خيانة الوقت، وإن الحب نوع من الدربة، وعلى المرء ان يدرب قلبه على الحب لكي يسع الورد و الشوك كما يخبرنا درويش، وهذا النص تذكار وجدنا جبران يقول بأن التذكار نوع من اللقاء.