حملت الرضيع بين يدي وتأملت وجهه الملائكي الطاهر كسجله الخالي من المعاصي، لمست أطرافه البريئة وفكرت بحاله في هذه الدنيا الموحشة لكنني استطردت:
- الأمر لله من قبل ومن بعد...
انتبهت إلى عيون أمه تراقبني؛ فوضعته في مهده الجميل، قبلت ناصيته ودعوت له في نفسي بالصحة وأملت أن ينعم بحياة سعيدة. هنأت أسرته من جديد وجميع الأحباب والأقارب وانصرفت.
جلست بمقهى أمام الشاطئ، احتسي كأس شاي وأراقب أمواجا تلطم الصخور وتتكسر حولها وحيالها لتبدع صوتا رخما جميلا تحمله قطرات ندى، يحط بعضها على وجهي ويشعرني بالحياة.
لا إله إلا الله محمدا رسول الله..صوت جماعي يقترب مني مع كل ثانية.
نظرت إلى طرف الزقاق ولمحت موكبا جنائزيا قادما نحوي، تذكرت فجأة مقبرة بالقرب من المكان. رافقت الأهالي وحملت معهم النعش، حاولت البكاء ولم استطع.. وضعناه في قبره وأغدقنا عليه من التراب وكانت تلك أول مرة أشارك في مثل هذه الأمور وألمح عن قرب طقوس إعدام الوجود، حينها تذكرت المولود الجديد وكيف أصبح موجودا من لا وجود.
وقفت متسمرا والناس ينصرفون ومنهم آخرون يواسون، استرجعت حفلة الصباح؛ هناك من يحمل الهدايا وآخرون يهنئون ويباركون، أهي نفس الحفلة أم أهذي..؟
وجه زوجة الفقيد كئيب حزين ووجه أم المولود منشرح مسرور، أهي الأماكن فقط تغير جوهر الوجود؟ حدثت نفسي في صمت مهيب.
غادر الجميع وبقيت أنا على قبره واقفا أدعو له بالغفران ومحو الذنوب لعلي بذلك أخترق جوهر الميلاد وأستخرج منه الوفاة، وأطهره من شوائب رحلته الطويلة وأظفر بحياة خالصة وليس لباس وفاة.