تمهيد: ذات صباح، إتجهّت صوب شاطئ البحر، والسماء إن غطّتها الغيوم، فأشعة الشمس لا تخذلها وهي لا تكذب عندما تشرق. جئت حزينا وقلقي مورّد كالشفق الأحمر يصارع زرقة آفاق البحر الفصيح، الرحب، الطليق. ولكن بعد سويعات هنيئا للسماء بالصفاء. هنيئا للبحر بموجه الجديد يلطم موجا قديما. وأنا التائه والشريد، أشته أن يخلصني نور من بقايا ليلتي الكئيبة وعبق الندى في دمي. وحلمي يغازل المدى لم أقدر أن أحدق في شعاع الشمس وهي آتية تخترق ضباب هواجسي كما أني لم أقدر أن أحدّق في جثّة نورس جميل كالزهرة البرية لم تواره بعد الرمال.
،،،
وحينما جئت أتمشى على شاطئ البحر لم يحتو حزني ولا الصخور الجلمودية. فصمدت أمام رغبتي في الامتلاء بالوجود الفياض فتخَيّلتُ النورس مجسدا رمزيا في هيئة تحليق دائم ففي التخييل فنّ يقاوم العدم وكانت الريح تجمع الألوان في ريشة العقل المتعب بالجنون لتراقصني على هذه الأرض التي تتسع للجميع وشاطئها الذي يستقبل الغرباء في كل وقت وحين.
،،،
ذات نهار
سقطوا من علياء المقت الى الموت غرقا
تمزّق الأفق الرحب في وجهوهم
وحدثني البحر عن عود الأطيار والنوارس
وعن أسماك تبحر وتعود
ولكن لم أسمع عن حارق عاد لأهله
لم يكن لهم وقت ليحيوا بسلامه
أو يودعوا أهاليهم ويوزّعوا قبلات الحبّ
وتُلقي أمّهاتهم سحريّة الماء خلفهم
فهن لهذا سيظلّن نواحات على الدوام في بلد الفرح الدائم
ليلة "الحرقه"
برهة من إقلاع قارب إنقلب
فزع الأهلّ
وإحترقت أمّهاتهم بالخبر
كانت صدمة الوداع المستحيل
دائما الخيبة تسبق الحل
كلما سعينا لأبهى الإنتصارات
،،،
وطني مخيّب وحزين!
ليس في فرح دائم كما يفرحون
للأسف هؤلاء الغرقى مشتك بهم
لهذا وأكيد
كانوا كلّما ودعوا أحدهم بعد دفنه فكّروا من جديد في "الحرقه "
،،،،،
في أمكنة لا تعرف أسماءهم
وأزمنة موحشة لا تعنيها أشياء هم
أرى وجوها شاحبة كالصبار في عام العطش والجفاف
أحتاج فقط لسماء تسكبدموعها
وتتشقق تربة عطشى للماء
واليد على القلب حينما تلامس لحمتهم الحيّه
قد لا تجد ما تقول
ولكن تقول آلامهم
ويتحدث اليومي عن أتعابهم
وبقيت أستمع لأناتهم
لا يرجون تعاطفا ولا ودّا
وحده ملح البحر دواءهم
،،،
كانوا مرضى بإجتياز الحدود
بعد أن أعلنوا إفلاس إرادتهم في العمل
ويئسوا من ثقل الأحلام
عشقهم يملأ باحة ظلماء بلا أقمار
ودواؤهم دوما يأتيهم مغشوش
يبحثون عن "الجنة الموعودة"
كالسراب يختفي بين الصخور
وتحت إبط البحر تعصف الرياح
وتنوح الأمواج عن دوامة الموت في ضوء النّهار
أردوا العبور عبر الزرقة فضاعوا
وضيعوا وجوههم
وأختلطت حمرة من دمائهم بزرقة البحر
كأنّما العاصفة دهستهم كالرمان
مشهديّة حزينة في بلد دائم الفرح
لذلك لن يعودوا وهم حزانى
وللأحبة حرقه دائمة لن تعنيهم جوقة الفرح
،،،
يلفظ البحر أمتعة الغرقى
في ذاكرة اليابسة جرح
هل سنعثر عن أنفاسهم
على الرمال المتورّمة
لم يرجعوا إلا جثثا مجهولة الهويّة
فلا تدفنوهم في ذاكرة النسيان
متحفهم ذاكرة للبحر
كم يبلع الغريق من ماء يموت وهو يرتل الدعاء
هم "شهداء"
لا أذكر لهم صدى لأنّ أهلهم لم يودعوهم
ولم يلقوا عليهم نظرة الوداع الأخير
أصبح الحداد مستحيلا والبعض منهم دفن في مكان الغرباء المنسيين لمن ماتوا بلا كرامة
كنا نودع أحبابنا حين يسافرون
بأن نلقي خلفهم الماء رمز العودة والحياة عن أعين الرقباء
كانوا مذعورين من الرحيل
ليس لديهم وقت لقراءة الدعاء لديهم وقت لتخفّي والصمت
والآن تلتقي الموجة مع الدمعة ويأكل الحوت فتات الجثة وهي تتحللّ في الماء
ينزفون مطمئنين لأنّهم لم يعودوا
وبعض أحلامهم لا تستقيم إلا في رغبة دفينة في الرحيل
لم يعد هناك من يفسر لأمهاتهم أخبار المفقود وأحكام القانون
أصبح كل واحد من الناجين هو نفسه شكل من الموت البطيء
ردوا لنا خيباتكم المهم أن تعودوا فقط أن نراكم أحياء
الرياح دوّت في سكون
والبحر الأبيض بضجيج للموت أسود
كان نواحا على عتبات السفارات
وبرق كشموع الوداع
ستبقى الأمّهات على الغصة وشيّح الريق
حزانى ما لم تدفن جثث أولادهم في تربة البلاد
جئت البحر وبين الموج والموج دموع
وصراخ غرقى فقدوا في بطن الحوت
لا لا ليس شبحا ما أرى
أرى هنا حكايات متخيلة من لحظة الخيبة
لون البحر أزرق يميل للسواد
والسفن الراسية هاجس الحراقين
لم يعد للمكان إتساع وقد ضاقت الرؤية
وضاق الوجود بطول ساعات الإنتظار
ليس في البحر عمق الأبعاد
هناك ما تكسّر على الأحجار المعانقة لجبل الصوان
لهذه الروح الثكلى عمق وأبعاد
والشاطئ الرملي كحبات الظلام والأشرعة الممزقة تختلط ببقايا روائح الحوت المتعفن المقرف
هل نصنع منها تماثيل كي نخلد الغياب
للأسف فملح البحر لا يكفي ليطهر هوس الإنتظار
الغرباء وحدهم يدفنهم الرمل دون إنتظار الجنازات
تلك لحظة للتيه
هم لا يعرفون البحر
هوله وجبروته
لكنهم يعرفون اليابسة وقد لوّت روحهم في الخراب
وتفتحت عن الجوع والعطش
وأكاذيب السّاسة
وعندما يُلقى في عمق البحر
سيلقى صرخة أمّه التي لن تتحمّل موته
إنّه الحداد المستحيل[1]
الهوامش:
[1] ملاحظة: كتب هذا النص على هامش منتدى نور الدين سريب للتاريخ الاجتماعي والثقافي بجرجيس في دورته التاسعة حول المهن أيام 7 و 8 و 9 أوت 2008 اثر زيارة لمتحف "ذاكرة البحر " لصاحبه محسن لهيذب هو عبارة تجمع فيه كلّ ما يلفظه البحر كانت زيارة لا تنسى – لمن يريد الاطلاع على متحف "ذاكرة البحر " الذي يثير الشغف هذه بعض الروابط وغيرهما كثير -https://m.facebook.com/Tataouinelive/videos/
https://www.youtube.com/watch?v=xGVaghQrdDM
https://www.turess.com/alchourouk/18315