تشابكت الأيدي ملساء جوفاء، لم تستقر في مكانها، أحست بالفراغ مترصّدٌ أعزل، هل الغريب الذي يسكننا نطق، أم أن جوع الأيدي قطع وصل التواصل وأعاد الحجارة إلى مكانها. جرح اليوم انضم إلى الأمس والغريب أصبح صديقا، وتنتهي الحكاية. لا، لم نقف بعد على النهاية؛ وتستمر الحكاية، تحاصرنا الأيادي في كل التفاتة ورق، نمررها نبسطها وكلها ارتعاشة، خوفا من الغريب الذي يوجهها؛ هل يقبلها أم يدسها تحت التراب، كنت غريبا فقبلت غربتك، ثم صديقا تقاسمني أفكار الخبز والجياع، وزمن الاضطهاد والاستغلال، لتصبح حبيبا وتنتهي الحكاية المؤجلة.
هل الحب وصمة عار، أم أن زماننا المادي خلع عنا ثوبنا المقدس و ألبسنا ثوب المصالح، مصلحتي فيك يا وطني حبي الأعزل، ضاعت صلواتنا، قداستنا في حب المادة والسلطة، يا غريبي حبك ثوب ممزق لا يصلح للخياطة، مملوء برقع المال و المظهر والجاه، وهل يصلح الحب رقع الخبائث، يا وطني غريبي فيك كان غريبا و سيعود غريبا، فهل طوبى للغرباء، أم لا مجال للغرباء في أرض الكلأ و الماء، فالغريب سلام حار وبعد نظر وحفلة تنكرية، حضورها لا اسم و لا عنوان ولا صورة واضحة، حفلة حضورها غائب، و الحاضر فيها قلب ممزق، يحمل صورة شمسية يمررها بين الهياكل، ينادي غريب، يروي غريب، يا وطني أنت سلواي وجوعي الذي لم يرتو بعد، وأملي القادم.
في حكايات جدتي قالت: "من يحبك سيحب فيك وطنا سيزرعه ويحصده شيبا وشبابا، غريبك سيمر عليك يوما ما إما طاهر البدن، أو وحشا في شكل نعجة، أو خيلا بريا ، فارقبي نظرة العيون وما تخفيه من أسرار؛ وتعلمي فَّك طلاسم الغجر، ولا يغرنك المظهر الخداع، فكل شيء في هذا الكون زائل.
اختاريه وسطيا بأفكار جدك، ورجولة أبيك، وشجاعة أخيك ، و حنان أمك، وما ختامها إلا آخرها؛ أولها، ومن يقول سأكون، قولي له الرجولة مواقف و ليست ألقابا، والغربة في داخلي حنين، و اليوم أنا من يكتب تاريخ الغرباء فطوبا للغرباء، قلت مرارا أنت وطني، فهل الوطن يخون عشاقه، الوطن سترتنا التي تقينا برد الشتاء وحر الصيف، فلا تتشبه بوطني فهو هويتي ووجودي وما وجودك إلا هنيهة زمنية سبقت ارتعاشة قلمي وبياض ورقي، يا غريبي غربتي فيك ازدادت عندما كتبت في دفترك السري اسمي الثلاثي تيمُنا، أو هلوسة، أو بعد نظر، أو حكاية تنسجها بخيوط الضمير، و ما الواضح الخفي إلا خيوط من ماء.
لقد أثقلني التجاهل، الانعدام، أكذوبة الزنابق الحمراء، بيت الزجاج، الحذاء المسحور...، فاختر اليوم إما أن تكون أو لا تكون، اختر وجودك المائل للمغيب، أو الرحيل بقامتك المعهودة في الهروب، أو البقاء في عالمي، عالم يغمره الصدق و التفاني، أم أن الصدق أصبح عملة غير قابلة للصرف، في ختام كل سنة دراسية ترتب الأوراق، تفرز الأقلام، توزع النتائج، فعلى كم سأحصل هذا العام، نتيجة منك معدل عام، أم صفر من عشرة، أم ننهي بالتكامل قصة غربتنا التي يلفها الوضوح الكاذب.
يا غريبي ارحل كما تشاء و متى تشاء واترك لي وطني الذي ولدت فيه و صرخت فيه أول صرخاتي، والذي سقطت و نهضت فيه، لكن قبل الرحيل احمل وطنك المزيف معك، فلا وطن إلا وطنك يا وطني... تعلموا...، سنتعلم أن الأقوال أفعال و أن الأفعال تصبح أقوال، و أن رسم العيون جواز المرور إلى سكنات القلب، لا تلتفتوا لا تتعجلوا، وانتظروا الغريب الواضح الذي يحمل حقيبة الاستقرار، و ليس البائع المتجول الذي يحمل كل ما لذ وطاب من العطور، صنعت من جميع الأزهار، ولا تركعوا فصلاة الميت لا ركوع فيها ولا سجود، دعوا الميت يرحل بسلام، فالحياة للأحياء و ليست للأموات.