من وراء الأحجار الطينية الملساء ، كانت عائشة تنظر إلى الساقية تسيل ماءا زلالا .اقتربت من مجراها ...فأخذت تعبث بعصا ، ترسم دوائر تضيق على الطين المبلل. ينعش خرير ماء عين " بوتلمسيردين " نفسها المتضايق ، دلفت بحذر شديد ، تحت أشجار الدفلى المتشابكة الأغصان و الأوراق تجر رجلها المعقوفة إلى الوراء ؛ وأخذت مكانها بالقرب من مجرى المياه . رشفت منها رشفة عميقة ... استلذت برودة الماء و المكان ، وروائح التربة المبللة . ذبال متساقط من أشجار الكليبتوس ، زاد من عطونتها مدت رجلها اليسرى كابسة على ركبتها لتطرد منها العياء . اقتحمها صوت ، تعرف رنين أوتاره...
ـ إلى أين أنتِ ذاهبة أمي عائشة؟
ودون أن ترفع بصرها ، أجابت قائلة : إلى المقبرة
ـ ذلك سيتطلب منك جهدا جهيدا ، وأنت مهيضة .
فأجابته ، وهي تشدك على رأسها المشتعل شيبا بحزام من الصوف المفتول ، بكلام منفلت من بين ثنيتين ذهبيتين :
ـ بقيت وحيدة كما ولدت أول مرة ... زيارتي للمقبرة تذكرني بالفتوة المتوارية مع السنين.
مدت يدها اليسرى ؛ ليستقيم عودها في الوقوف... لكن احدوداب الظهر منعها من ذلك. بعض الفتيان يحملون القنينات الفارغة على ظهور الدواب ، يملؤنها ماءا ذهابا و جيئة، ويتركون وراءهم لغطا و غبارا يتطاير نقعه ، تتبعهم أمي عائشة بالصياح ؛ لأن أهل المكان يتضايقون من شدة وقع الحوافر على الأديم .قطعت الممر الضيق وسط أشواك الصبار صاعدة إلى الربوة المترامية كهلال خصيب ، تنتهي بشريط أشجار الزيتون الأخضر ، فبدت المقبرة خلفها تبتلع مصائر العباد . قالت في خلدها : إن كومة من التراب الأبيض المبلل بماء بوتلمسيردين تكفي لأتربة جثمان جديد . جاهدت أمي عائشة التعب الذي شلها و كلها ، لتحضر مراسيم الدفن الجديدة .
اقتربت ...
اقتربت ...
وغبش يعلو الرموش ... دامعة كما كانت العيون ؛ حتى احمرت الجفون . بفم أدرد مشقوق رفع الفقيه حميدان عقيرته بسورة الزلزلة " إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها " ... وصوته تحس به يشق عنان الربوة .
آه! آه! تلك أيام خوال .
عندما حفرت أمي عائشة نصف الربوة ، لأناس عبروا هذا المكان .
تحمل الأحجار الطينية على الأتان الشهباء .
تسافر بها من أجل أن يحلو المقام الجديد .
تفرغ ماء عين بوتلمسيردين من قِباب ضخمة .
تمزج الماء بالطين الأحمر و التبن المهشم الأصفر .
تغلف به وحشية البيت القشيب.
تضع الأحجار الشستية الأُردوازية متراصفة .
تغلق بها خصاص اللحد الجديد .
دنت من الحشد لتقف على جلية الخبر ، وصوت الفقيه يأتيها ،الآن، صافيا وعذبا. سألت خيالا و ظلا يحجب عنها أشعة الشمس الصاهدة .
من يكون الوافد الجديد ؟
فأجابها :
غريب الدوار ...
ـ سلام ، إذن ...
ـ هل حلت كنزة من بلاد برا؟
لا أعرف أمي عائشة ... فأسلمت روحها لرياح شرقية مالحة ، سكنت خياشيمها .
المقبرة بناء من أحجار امتزجت فيها أتربة بيضاء بأتربة حمراء أرجوانية ، مشكلة لوحة زيتية متناسقة ... في وسطها شجرة كليبتوس فارعة تمنح الظل و الفيء للعابرين والراقدين على السواء . على مسافة معشوشبة بمختلف الأزهار ، التي اختلطت ألوانها ، وقفت أمي عائشة على حافة الغبش الكليل الذي يلف عيونها . تنظر إلى القبور ، وقد تهشمت حوافيها، تتلمس سمتا إلى شواهدَ محفورة على الأحجار الكلسية ، علَّها تعثر على بقايا قبر حَدُوم الغسالي .
حدوم المرأة بألف رجل .
أسطرت الوجود النسائي بالقرية ، عندما وقفت في وجه القائد بوخنزيرة الغاصب رافضة أن تمنحه قوتا، تعبت من أجله أياما و لياليا. صفعة واحدة على خدها الأيسر ، كانت كافية أن تشعل فتيل نار لم تهدأ أُوارها ؛ انتفضت القرية فأصبحت على صفيح ساخن ، ضد الاستغلال و الحيف.
في المساء، لفظت القرية ، من وجعها ، تجمعا غفيرا عند الحجرة الملساء ؛ مجلس ينشط كلما ضاقت القرية ضائقة . من كل حدب وصوب نساء و رجال و شيوخ و أطفال تركوا المسيد ، وهم يحملون ألواحهم المصموغة بالكلام الرباني ... رافعين بأوداجهم الصغيرة
اللطيف ...
اللطيف ...
كانت أمي عائشة تتذكر ذلك ، كأنه حدث بالأمس ، وسط الحشد تمرغت حدوم معفرة وجهها بروث البهائم ، ممزوجا بحليب شاة وحيدة القرن ، فانتفضت كدجاجة مذبوحة... تسارعت النساء ؛ لإيقاف نزيف هذا المشهد الدرامي الكئيب ... بللنها بالماء ... فتخشبت وتصلبت أطرافها ، تحسسن أوداجها بأصابعهن العجراء، فوجدن البرودة تجري مجرى الجسد القتيل ؛ فكانت شهيدة الحجرة الملساء. تتذكر أمي عائشة ، وقد استطابت الريح الشرقية المالحة في مناخيرها مبللة بها ريقها المتيبس ، وهي تنظر إلى الحشود تذوب فُرادى و زَرَافات بين الشعاب و الممرات الضيقة.
عادت أمي عائشة أدراجها ، كما يعود المساء ، ورجلُها المعقوفة إلى الوراء تلامس وجع تراب مسحوق ، فوجدت الديكة الملونة الريش ، ملأت صحن الدار ، كما تملأ عليها حياتها الرتيبة.