تتقدّم الزائرة بخطوات ثابتة، لكن بطيئة، نحوَ اللوحة المعلقة قبالتها. تقف متسمّرة في مكانها للحظة، ثم ترجعُ القهقرى خطوتين. تنظرُ بذهول إلى اللوحة، ثم تقترب منها بحذر، ووجهها يسبق كامل جسدها حتى كاد أنفها الصغير أن يلامس زجاج البِرواز: يا إلـــهي، ما هذا؟ بسرعة تلتفتُ يُمنة ويُسرة من حولها محاولة أن تُخفي دهشتها: ما هذا إذن؟ تتساءل مع نفسها. أهي لوحة خطية؟ لوحة تشكيلية؟ ما هذه الطلاسم الممشوقة الجميلة؟
قبل أيام قليلة قرأت الزائرة الجميلة بالصدفة إعلانا عن معرض سيقام في باريس تحت شعار (إيقاعات خطية 2)، فحضرت يومه الخميس لزيارته متوقعة أن تشاهد ما ألفته عيناها من حروف عربية متناسقة ومتشابكة تعبر عن أشياء مقدسة، رسخت في ذاكرتها من جراء زياراتها المتكررة لمدن تاريخية عتيقة وعريقة، مثل فاس وغرناطة والقاهرة وإسطنبول.. بيد أنها لم تكن تنتظر أن ترى في هذا اليوم الخريفي الجميل، وبالذات هنا بقاعة” أُورُوبيا“بباريس، ما سوف يغير كليا انطباعاتها التي راكمتها عن الفن العربي بشكل عام، وفنون الخط بشكل خاص..
تتنفس بهدوء، وتتمتم: يا سلام .! تحذق بفضول وإمعان في اللوحة، محاولة السيطرة على دهشتها، وأخيرا تنطلق..تتسلق الصواعـد السامقة التي تخترق اللوحة بكبرياء وشموخ كمآذن الشام الصامدة هناك لقرون: يفتنها حرف الألف بهذا الشكل..تهبط بنظرها بتدرج عبر جغرافيا ملتوية، مهتدية بنقاط حمراء ملتهبة، مثبتة بعناية وإتقان هنا وهناك: ستة وعشرون نقطة. أحصتها بلا كلل.! تتلاحق أنفاسها بسرعة وهي تحملق ببراءة طفولية في حرف الكاف وهو يحلق عاليا كطائر برّي أشهب يحب الحرية والقمم، ويكره الإنحناء والنزول إلى أسفل.فجأة تسري في جسدها رعشة موسيقية قوية وغريبة.إنها إذن إيقاعات حقيقية كما جاء في بطاقة التعريف بالمعرض، وليست مجازية كما تصورت.انتاب الزائرة مثل هذا الشعور مرتين فقط في حياتها: يوم زيارتها الأولى لمتحف اللوفر، وخلال زيارتها لمتحف إلبرادو..لكن منذ مدة طويلة لم يخالجها مثل هذا الشعور الغريب. فبخبرتها كانت تعلم بأن المتعة الفنية جسدية في المقام الأول، وليست نفسية وروحية كما يشاع. وبتجربتها وقراءاتها اقتنعت منذ الأزل بأن ما نسميه نفساً ليس سوى نافذة من نوافذ الجسد الكثيرة، مرآة من مراياه المتعددة، ومرادفة من مرادفاته اللغوية لا غير.
تحاولُ أن تقرأ:” اللون الأخضرُ..“،لكن استعصى عليها الاستمرار في القراءة. تفكر: لا يهم، لا يهم أن أقرأ. ولا يهم أن أفهم حتى.. ما يهمني حقا هو أن أحسّ، والأهم هو ما أحس به هنا والآن. تحاول من جديد أن تخفي انبهارها، لكنها لم تستطعْ. مَـثـلُ النّظر إلى اللوحات الجميلة كمَـثـل الوقوع في الحب لأول مرة: لا يمكن أن يحدث لي هذا الافتنان وهذا الإندهاش.! كيف يحدث هذا لي خلال زيارة عادية لمعرض صغير لفنان لا أعرفه، وفي مدينة كبيرة تحتضن كل يوم عشرات المعارض لفنانين يأتون إليها من كل حدب وصوب،أنا التي زرت متاحف اللوفر وإلبرادو والملكة صوفيا مرات ومرات..!
تعود من جديد لمحاولة فك شِفرة اللوحة؛ وبحركة لاشعورية منها تضعُ السبّابة فوق الإبهام كما لو أنها تكتب، كما لو أنها تحل لغزا صعبا، لكنه جميلا ومشوقاً، تقرأ:” تكادُ يدي..“..آه.! إنه شِعر إذن، وهي تحب الأشعار، مغرمة بها إلى حد التيه والإدمان، وتحفظ منها عشرات آلاف الأبيات.لكن ما شأنها هي بشعر ربما لم يسمع به أحد من قبل.من أين لها أن تسمع بشاعر إسمه ” أبو صخر الهذلي“.! فحتى الكثير من أهل الاختصاص لم يسمعوا به من قبل. تستمر الزائرة في سبر أغوار اللوحة محركة أناملها الرقيقة الناعمة في الفراغ، بعد أن خلعت معطفها الشتوي الأزرق: “وينبتُ في..“،محاولةً أن تسترشد في مجهودها بتلك النقاط الحمراء العجيبة المتناثرة هنا وهناك كمصابيح والتي تأجج إيقاع الموسيقى بأعماق أعماقها. تتذكر جيدا ما قاله بابلو بيكاسو:” كلما أبحرتُ ووصلت إلى نقطة أعمق في فن التجريد والتشكيل، وجدتُ بأن فن الخط العربي سبقني إليها“..الآن فقط تفهم هذا الكلام منتهى الفهم. تتوقف برهة مسترجعة أنفاسها مرة أخرى: يا إلـهي، إن هذا الإبداع جدير حقا بكل اهتمام، وإن من أبدعه جدير بلقب فنان ويستحق كل الاحترام. فقد قرأتْ قبل زيارتها للمعرض بأن صاحبه قدِم من بلاد الشام من الشرق الساحر الذي طالما قرأتْ عنه الكثير، وزارت فيه عددا غير قليل من البلدان والأمصار. لطالما مرت أثناء أسفارها، عبر الجو، بطريق الحرير الذي كان يربط فيما مضى بين الأناضول والبحر الأبيض المتوسط. أيْ نعَمْ: هذه مدينة الكوفة بأرض الهلال الخصيب؛ وهذه أرض نيشابُور موطن عمر الخيام؛ أيْ نعَمْ: وهذا إذن ما يسمونه الخط الكوفي النيسابوري..وفجأة انفتح أمام ناظرَيها ما انغلق عليها منذ بدء اصطدامها باللوحة، وفهمت سر هذا السحر وسبب هذا الانجذاب. تنهّدت بعمق: آه من حب الفن ومن غرام اللوحات...! لكن بعد هنيهة أطرقت الزائرة الجميلة رأسها بهدوء وفي خشوع، وتساءلت بحزن كاد أن يتطور إلى دموع: كيف لفنان قادم من بلاد خربتها حرب مدنسة أن يبدع كل هذا الجمال الأخاذ؟ كيف نتصور بلادا لها مئات القرون من التاريخ الطويل والعريض تحاول عصابة من المرتزقة الجهلة أن تردها اليوم إلى عهد ما قبل التاريخ؟ كيف وكيف و....ترفعُ رأسها مستيقظة من شرودها وتأملاتها على وقع خطى الزوار من حولها، فتعود بنظرها إلى اللوحة وهي تفكر: الفنّ و“داعِش“ضدان لا يجتمعان..ضدان لا يجتمعان..لا يجتمعان..لا..لا..!
تمتزج أصداء تفكيرها بإيقاع الموسيقى الذي أحدثه في جسدها -قبل روحها-طول تأملها في اللوحة البديعة. تحس بعرَقٍ زكي الرائحة يتصبب من مسام جِلدها كأنها انتهت للتو من جلسةٍ حميمية طويلة مع حبيب ما بعدَ منتصف الليل. ترتسم على شفتيها الرقيقتين ابتسامة خفيفة خجولة، وتبدو في عينيها الجميلتين ملامح سُكْرٍ وبقايا ثمالة..تنتعش رويدا رويدا بفعل موجة الانعتاق التي عصفت بها كأنها تخلصت من حِمل أثقل كاهلها طويلا. الفن يحرر، وهي تعلم ذلك وتؤمن به كل الإيمان. فهي من قررت مبكرا بأن تكون متعة الفن وصفتها السحرية للحفاظ على نضارتها وشبابها. كان هذا اختيارها السري للعيش بحيوية وجمال. فتأملُ تحفة فنية أو الاستماع إلى معزوفة موسيقية يُغنيها عن استعمال المساحيق وكافة أدوات التجميل الموجودة في الدنيا، و..شيئا فشيئا تعود ابتسامتها العذبة إلى محيّاها الصّبُوح، وتقتنع أخيرا بأن وقتها الثمين الذي خصصته لزيارة معرض” إيقاعات خطية “لم يذهب سدىً. وقبل أن تنتقل لرؤية اللوحة المجاورة، وإثر اقتراب بعض الزوار منها، ترفع عينيها المِخْمليتين إلى اللوحة مبتسمة بهدوء، ثم تقرأ بصوت خافت وبسهولة:
"تكادُ يدي تندى إذا ما لمستُها وينبُتُ في أطرافها الورقُ الخُضرُ