إلى التي نسيت ـ تقريبا ـ كل العالم إلا أنا.
وحين تُغلب تناديني :يا ابن أمي!
فيستغرب الملأ من حولها : أهذا أخوك؟
ترد مدارية عثرتها صائحة: أو تظنون أني فاقدة ذاكرة؟
أعرف... ذا ابني، وأخي، وصديقي، ذا نور عيني!
إلى أمي.شعاع دافئ يمسح براحته وجنتَيَّ، ويسحب مني سكرات نوم لذيذة انتزعتُ انتزاعا بواكرها لدى نواصي الفجر، اتقيته بأن دفنت رأسي تحت الغطاء القطني، وتكورت تكويرة جنينية علني أستمد من التصاق بدني ببعضه البعض حرارة تعينني في أسر فلول النوم الهاربة... ما كدت أفلح حتى ضج المكان من حولي بشبه جلبة جميلة الوقع مألوفٍ لدي جرَسُها؛ أصغيت لاستجلاء مصدرها لكن ما أصبت. فرميت بتوتر غطائي جانبا وفتحت عيني المثقلتين نعاسا، فداهمني خيط نور ثاقب منسل من بين الستائر البيضاء الشفافة وهجه، أغمضت له عيني و سارعت في دعكهما لأبدد ما كان نصيبي من ألم؛ بعدئذ جعلت أفتحهما على مهل ليستأنسا بموجة الضياء المنتشرة في الغرفة، وبوصلتي لا تبارح قيد درجة مصدر الجلبة، فرأيت ـ إذْ رأيت ـ من خلال الستائر الشفافة طائريْ دوري يتناقران ويتناغيان وهما يذرعان - كراقصي بالي - جيئة وذهابا طول الإفريز الممتد وعرضَ الشرفة.
شدهٌ أسرني، بل شلني وأنفاسي ما حررني منه إلا إحساسٌ تدفق كنهر دافئ هادر في داخلي؛ ما وجدت له البتة تعريفا! يحمل متنَه نشوةً جميلة كأنها الحياة حين تتجلى في أسمى معانيها، نشوةً ما لبثت أن تفجرت عينُها في قلبي ينبوعا من السعادة لألف سنة من الانشراح ... وفي اللحظة ذاتها بسمة ـ على حين غرة ـ حاولت استعمار صفحة وجهي؛ ما وجدتني لا خائنا، ولا لئيما وأنا أوقع لها إذنا لاستعمار فدادين عبوسي، بل كنت أكثر كرما، ووددت تحويلها صائتة لكنني أبيت حتى ... لا أفزع الطائرين فينفضا...
كائنا جديدا صرت، عامرا بالأمل وجدانُه، فياضا بالحب قلبه... أفقي اِرْتحبَ وانفتح على المدى، وشعوري بالمر الذائب بدمي تلاشى، وانعدم...
كم وددت لو توقف الزمن وثبت المكان ليعمر هذا المشهد الرائع لأجل غير مسمى، فيدوم ذا الحال المانحي إياه !
مئة وثمانون درجة مال حالي؛ من وضع منكسر ينوء تحت وطء القلق والرتابة والوهن المزمن، إلى حال ظليل بالأمل والسلوى، زاخر بالنشاط ، بل أحسست وكأني شفيت من مرضي النفسي.
هنيهة ، واستكان طائرا الدوري نسبيا . وعاد الهدوء ليستوطن الشرفة.
قد جثمت الأنثى، و ظل الذكر يحوم حولها ذائدا دَرْجا .. وبين آن وآخر يشق قلب الصمت الصباحي بزقزقة حادة، فرفرفة تقوده أعلى الشرفة، ما أن يقع حتى يعود ليكرر نفس السلوك.
لم أحتجْ إلا لكذا دُقيْقات وأستنتج أن المخلوقين يريدان عدا استسماحي لأعيرهما ثقبا صغيرا من عوادي الزمن على جداري منزلي يكون عشا لهما هذا الربيع...
تركت إذنْ الحياةَ تتخلق بقربي وتمددت في استرخاء تام على مرقدي ناشرا يديَّ على جانبي كجناحيْ صقر في مهب تيارت الأجواء؛ و لتتغلغل السكينة في قراري- أكثر أغمضت عينيَّ وأغلقت بوابات عالمي الخارجي ردا لكل شائبة، لكن.. سرعان ما تعكر مزاجي، وداهمني الوهن والإحساس باليأس القاتل... وتغول في أعماقي القلق، فباتت حركاتي مضطربة وأنفاسي مهتزة وكأني سابح يجاهد الخوف والغرق..
قد انهارت السكينة وانْهد الأمل داخلي وتعكر ذاك المزاج الوليد ...
قال- يوما - لي طبيب نفساني بعد جولات ماراطونية خرجت منها بخف حنين قادتني عند أطباء من كل اختصاص علاجا لحالتي هاته: "إني أعاني من متلازمة الكمالية الغيرية (1) ولا دواء لي إلا مثبطات القلق، أو قبول المعاش كما هو... والتحولات على علاتها "
" هههه... قبول المعاش كما هو، والتحولات على علاتها ... ؟ !
كيف أستسيغ الحلاج وهو يرفل في حرير مُدَمْسق على زرابي مبثوثة، صباحا يفطر كرواسان محشوة عسلا شيشانيا بين حورعين، وفي المساء يغرد على التويتر، وعند الغسق يحاور البيت الأبيض!؟
أو لم السيد المبجل جان جوريس(2) يقر الإضراب نهارا وليلا يحاور الباترونا على مائدة شهية بعدما يستوثق أن مقاولته محافظة على سلامة خط الانتاج !
بل كيف ـ يا الله ـ أنسى "كارباتشوفي" بكل غلاسنوس وبدون "بروستريايكا" يقول : عفوا أيها الرفاق ما جئت انا لأطارد الساحرات! ..."
تحررا من كبولي، واضطراباتي النفسية تمططت مطا وأخذت أصرخ بملء فمي، كما أفعل دائما حين يشتد غمي؛ وما توقفت حتى توهمت أن الثريا وسط السقف رُجّت واللوحات من على الجدران تساقطت تباعا.
ولكن ويا للأسف .. لم أتحسس ردة إيجابية في أعماقي، بيْد أن أطراف يدي شيئا صلبا لامست، فسحبته .
لم يكن... إلا نظارتي زوجتي !.
" كيف نست هذه الْـ... نظارتيها؟، كيف لها ستقضي حاجاتها وهي ذات النظرة الكليلة؟!"
وأنا اتساءل وضعت النظارتين على عينيّ وكأنها لي، فتشوشت عندئذ رؤيتي وساورتني دوخة، ورغم ذلك انتصبت واقفا وخطوت خطوات قدما على الأرض المائرة تحت قدمي بعيدا عن مرقدي، صوب المطبخ
بدت أمامي سلة المهملات متخمة أوراقا مكورة، شاهدة على صراع ليليّ لي مع الكلمة العصية... الممتنعة ...فابتسمت ورددت كمجنون بصوت جهور:" لك الجموح، والإباء يا شقية! ودوني... الإصرار والدأب!"
بين فسحة المطبخ فطرت عجولا وقوفا، وأشعلت سيجارة عببت منها نفسا وتركتها تُستهلك بين أصابعي على مهل..
إن ما ترسم هذه الملعونة من دوائر حولي، وما تنشره من روائح كان يكفي أحيانا ليكسر شوكة إدماني عليها ويبث في داخلي حماسا يعينني على ترتيب ما يعتمل في أعماقي، ويمنحنى الطريقة الفضلى للتعبير عن أفكاري .
وكأني لم أخطئْ في ثقتي به، وجدتني وسط مرسمي الصغير أمام لوحة عذراء على سند مهيّإ سلفا قماشها ومصقولةٍ صفحتها، تواقا لتحويل ما يعتمل في داخلي من مشاعر وأفكار إلى الوان ومهرجان من ظلال وأنوار.
قبل أن يفتر عزمي ويتآكل حماسي، سارعت في خلط الألوان وانكببت على الصفحة البيضاء، أفرغ فيها ما يغلي اضطراما داخلي؛ فرسمت ... على يمين اللوحة سروا وصفصافا صفوفا وعلى اليسار حقلا من الزنبق تتخلله جزر من شقائق النعمان وبياض من ياسمين.
شكل المشهد بجانبيه (بورتري)، لكن بلا ملامح!.
استفزني الاكتشاف، فقلت : " ماذا لو جعلت وجها يخرج من بين المشهدين وكأنه امتداد لهما؟"
لم أتحير كثيراَ ولم أتلكأ، حتى... النموذج لم أُجْهد نفسي بحثا عنه، فقد كانت أمامي مباشرة صورة فتوغرافية لأمي معلقة على الحائط بأبعاد كبيرة، تواً انبريت وبتؤدة في نسخها وقد شرّعت النافذتين كليهما عن آخرهما لتعوم الغرفة في ضياء كامل تأخذ في فسحته الألوان والظلال سنحتها المثلى.
استغرقني العمل قرابة ساعتين، غبت خلالها عن هذا الوجود، واستمتعت بين فيحائها بجلال الصمت، ساليا بين اهتزاز الألوان الفاقعة مرة وغافيا على جناح ظلال الداكنة مرة أخرى؛ فجأة دقات إيقاعية كثيرا ما سمعتها تعيدني إلى عالمي الأرضي. وتجعلني أهرع مهرولا نحو الباب، ثم أفتحه وارتمي في حضن الطارقة في حين تشرع هي في إمطاري بسيل من القبل، أسحبها رأسا إلى مرسمي وأجعلها تقف وجها لوجه واللوحة،
تتأملها مليا ثم تستدير نحوي قائلة:
ـ ما هذا المسخ يا عزيزي! كيف لك أن تركب جناح ألوانك لساعات وتحط ـ أخيرا ـ على هذا النحو السمج، ليسلمْ بصرك وبصيرتك، ما عهدتك إلا عاشقا للجمال!
مشدوها من ردة فعلها متحيرا من أمرها سارعت وقلت لها :
إنها لك... قد نسختها من صورتك الفتوغرافية المعلقة أمامك
ضحكت ضحة حادة فيها من الاستهزاء بقدر ما تحمل من الحنق وقالت:" ذي أنا ... ؟ معاذ الله! أو لم تجدْ شبيهةً لي إلا هذه الملعونة ؟... ميدوزا أنا ؟!(3)" وتابعت وهي تحدجني، وكأنها لا تعرفني، أو تحاول فك شفرة أساريري وقالت:
ـ أخبرْني مذ متى وأنت تحمل نظارة طبية؟ فعهدي بك حاد النظر، وإن تغيرت أحوالك... أنصحك بمراجعة القياسات حتى يستقيم بصرك...
حينها أحسست وكأن سطلا من ماء بارد انسكب عليّ، وخلاني على عجل أخلع عن عيني النظارتين وأبادر لأتأمل اللوحة من جديد...
كم كانت صدمتي قوية! وأنا أجد أمامي لوحة ما كانت في الحسبان، لوحة جديدة رائعة تناقض كليا ما ظننت قد رسمته سابقا ، ولكن البورتري بما حوله أقرب إلى وحش خرافي من ما تحفل به الميثولوجيا القديمة .
ـ راض ومستاء، ضممت يدي توسلا وقلت بكل رقة:
ـ عفوا أمي إنْ أنا آلمتك، وجعلتك تبدين صورةً على هذا النحو البذيء، فقد رسمت صورتك من غير أن أنتبه من خلال نظارتي زوجتي، فمال المستقيم، وانحنى الأقوم، وخابت الألوان...!.
ـ لا عتب عليك ـ يا بني ـ إذن، ولتجبر خاطري أرني هذه اللوحة مقطعة إربا، إربا!
ـ إلا ذا يا غالية! فإن كل لوحة هي امتداد لي، قولي: مخيض فكري، وعاصفة أحاسيس تولدت في اعماقي بعد طلق مرير، فمن ذا الذي يرضى بوأد ما جاد ت به قرارات روحه؟!
اللوحة عندي ـ يا أمي ـ تؤرخ للحظة فارقة من حياتي، تجمد انفعالاتي زمنكانا، وحين أعوذ بها أسترد تلك الانفعالات كاملة لا منقوصة وكأني ما تقدمت عمرا...صعب علي التخلي عنها، ولكن جبرا لخاطرك سأكسر النظارتين.
ـ إياك .. ان تفعل!، صاحت بي، ولكن كنت أسبق ورميت النظارتين أرضا.
لحظتئذ سمعنا الباب يغلق بعد فتحه وتدخل زوجتي منتصبة القامة... كخشششش ! وتخرق بكعبها النظارتين وطءاً.
أصيح في وجهها متقمصا مزاجا قلقا:
ـ على رسلك يا هاته ، اف..! أنظري ماذا فعلت بنظارتيك
ترد بكل برودة:
إلى الجحيم، ربما لن أحتاجها، فالطبيب الفزيائي اليوم قال لي بأنني قد أسترد حدة بصري باعتدال قدي و قامتي!
ابتسمت أمي بسمة رضاء، رددت عليها بأخرى ماكرة، وشرّعت يدي كبوابة مدينة ثم حضنتها بقوة، ودفنت وجهي في عنقها؛ وحين شهقت وأنا أفك الارتباط تسرب إلى أعماقي عُرف غير عطرها وريح عرقها طالما اشتممته، ربما منذ ألقمتني ثديها لأول مرة؛ ما تغير جوهره في حين تغيرت، وتبدلت أشياء كثيرة حولي ومُسخت ...
1 perfectionnisme
2 سياسي فرنسي مؤسس لعمل النقابي
3 امرأة بشعة ( شخصية ميثولوجية)