أنفاسافترقوا خلف أبواب العشرين يلتمسون رفاف الجناح , قاربت بينهم القصيدة وصفة لاجئ على وثيقة السفر, وباعدت بينهم أحلامهم المتباينة , حلم باسل باكتشاف العالم فتخرج من الأكاديمية البحرية كمساعد قبطان كي لا يرسو أبداً وحفر أحمد كل الأنفاق التي تفضي إلى الأضواء والنجومية وحمل شهاب معوله كي يهدم قبوه حالماً بصعود درجات الطوابق العليا ..
وبعد مرور عشرين عاماً التأموا مرة ثانية على متن يخت  تعود ملكيته لشهاب الذي أصبح من حيتان البورصة , ومع قصائد أحمد الذي لمع نجمه وأصبح مذيعاً كبيراً بإحدى القنوات الفضائية المشهورة عبروا إلى العشرين على جناحي القصيدة ثم إنحنوا يلملمون صدف المحيطات الذي جمعه باسل بعد أن أصبح قبطاناً !!
وبين العشرين والأربعين رفعوا مساتر الفصول بحثاً عن قبعات الرمال لكنهم لم يجدوا سوى هياكل الأيام , أسدلت نظراتهم الحزينة ستائر الخيبة فوق الواجهة الجميلة التي أخفت تصدعات الفصول لبعض الوقت , قال باسل :

أنفاس جلست - بعد ثلاثين عاما- على مصطبة خشبية متآكلة الحواف.. بدت الساحة أمامي خاوية والأبنية حائلة الألوان.. حقيبة ملابسي بمحاذاة المصطبة, وإلى جانبي كيس به ما تبقى من طعام.. انظر إلى الشجيرات العارية من أوراقها- مع أننا في منتصف الربيع- وأجتر الصور التي اختزنتها ذاكرتي, فلا أجد أيما تطابق أو تشابه يوحي بملامح واضحة لما أرى.. كل شيء شائخ ومهترئ, وأنا أعود بعد ثلاثين عاما بجلد لم تعد خلاياه تتجدد.
السيارة التي أقلتني من عم ان الى بغداد رمتني إلى هذا المكان.. نزل كثير من الركاب وبقي القليل منهم.. ترددت قبل النزول وأنا أتطلع من نافذة السيارة.. قلت للسائق:
- أروم الوصول إلى »مدينة الثورة«.
رمقني ولم يعلق بشيء.. أنا من ناحيتي كنت أستعيد الكلام الذي قلته, فربما أخطأت في التسمية, ولما كانت عيناه ما تزالان تحدقان باستغراب فقد نزلت في ساحة مربعة الشكل.

أنفاس-1 -
لم ترغب في الانتقال ابدا ، ولم تتمن السفر يوما...
ولكنهم اتوا عند الفجر واقتلعوها ...فسال النسغ احمر...
اركبوها الطائرة ،فشمت نسائم الاجواء العليا ..وعطست ...
وفي تربة غير تربتها ، وفي جو غير جوها ، ارغموها على الحياة..
بقليل من الماء والهواء ، وكثير من التصفيقات ...
وكانت ربطات العنق تزين المشهد ، والنظارات الشمسية تصور اللقطة ...
ومن قبل كانت هي في الواحة الخضراء فتاة تتفتح للحب ...
-2-
سنون مرت ..وها هو العيد يعود ...

أنفاسما كاد يدخل الغرقة الوحيد المأجورة التي يقطنها في هذا الحوش المتفسخ حتى ضم إليه زوجته وإبنتيه يقبلهن وهو يلهث لشدة ما أسرع في الوصول إليهن ولشدة سعادته بهذا الخبر الذي طالما انتظره.وأدركت الزوجة حتى دون أن تسأل أن إسمهم لا شك قد ظهر على قائمة المستفيدين من السكنات التي بنتها الدولة للمواطنين المعوزين.
لم تتمالك نفسها بدورها فأطلقتها زغرودة حادة حارة حملتها كل ما اختزنه كيانها من لوعة الانتظار لهذا اليوم السعيد , فتهاطل الجيران مهنئين مهللين مزغردين إذ كان بينهم من ظهر إسمه على القائمة , فعم الفرح كأن اليم يوم عيد.لأول مرة شعر بوعلام البكوش 1 أن إنسانيته قد عادت إليه.
فرغم أنه مجرد زبال تابع للبلدية فلم  يكن يشعر أبدا أنه إنسان محروم أو مغبون إلا حين ياوي إلى هذه الغرفة الرطبة حيث يقيم.. وكان أشد ما يغضبه هو المرحاض المشترك بين سكان الحوش2 وكأنهم في محتشد.
كان يرى كل مرة بحكم احتكاكه بموظفي البلدية ورئيسها آماله تتبخر المرة تلو الأخرى كلما وزعوا سكنات جديدة ولم يظهر إسمه على القائمة رغم توسلاته ودموعه ورغم كونه إبن شهيد لثورة التحرير الكبرى.

أنفاسالتقينا واختفى... هكذا كان، وهكذا سيكون...
زرته في بيته، تعرفت على كل ما يخصه، صوره، لوحاته السريالية العميقة، رحلاته الغريبة التي كان يمارسها كطقوس لمجنون أدرك حرباً لن تنتهي. حدثني عن عالمه الذي يرسمه، حياته القاتمة داخل جدران أربعة، عن الـ55 متر التي تتغلغل في أعماق روحه، حتى كادت أن تقتله. وحين هممت بمغادرة المكان أهداني طائر العنقاء من الكريستال.
كم كنت أحب تلك الأيقونة، أضعها أمام عينيّ كل مساء، أتأملها، أتأمل هويتي الضائعة، وأستاذ التاريخ يعيد فيّ حياة القدماء:
- إن العنقاء طائر مقدس.
يتابع:
- إنها تحمل هويتنا الكنعانية، تحمل ذلك الرمز المشفر الذي لا يفقهه أحد غيرنا.
وينتهي كلامه على أعتاب حصة أخرى في الرياضيات.
أحببت العنقاء، بشكلها الغريب، أحببتها حين أهداني صديقي هذا الطائر الكريستالي العظيم. وما زاد حبي لهذه الهدية أن صاحبها قد استشهد على قارعة الحرب، وتناثرت أشلاؤه في غارة حاقدة على مخيمنا. بعد تلك الحادثة قررت أن أحتفظ بتلك الهدية حتى الموت، وفعلت حتى ذلك الصباح الحزين.

أنفاسالعسل المرّ:
  دخل سباق تكسير  القيود، سبح ضد  تيار الجوع ، القهر والعبودية، ركض مع القلم ، تسلق الصعاب بالكلمة، ليحصد ميدالية كرامة الإنسان، التف حوله " موتى بلا قبور"، وبات بطل الخلاص..!
  جـــــلس يلهث  على الكرسي الوثير ليستريح.. ذاق حلاوة العسل، والتحف باللون الأخضر.
  اغلـــــــق   نافذة السمع، أغمض عين الحقيقة، باع  كابوس الفقر، اشترى أقلامًا ملونة، وربط  حباله الصوتية..!!
بطالــــــــــــــــــة:
   اطــــــــلبْ العلم ولو في الصين. باب العزاء
أعلق الشهادة العاشرة، سيرتي الذاتية. أزين جدار غرفة آيلة للسقوط..
أبتسم وصوت زوجتي في المطبخ، تحمل السلاح الأبيض تحوم، تناور
 تعارك لتصطاد قطعة لحم و حيدة ورغيف خبز جاف.

أنفاس.. نفضت هواجسي، الملونة، وارتقيت سلم "عيادة "، طبيب "العائلة"، الذي مازالت ملامحه: غائرة في سراديب الذاكرة: بسمته المهندم؛ لعله لم تغيره، السنين المنصرمة..
أخرجت من حافظة نقودي: ورقة المائة جنيه. ناولتها إلى "الممرض":- مستعجل.. من فضلك.
رفع رأسه، ورمى قلمه الجاف، على المكتب.. حدجني، بعينيه الناريتي اللحظ:
ـ كما ترى.. العيادة "كمبليت".. كل المرضى مستعجل..
هززت رأسي، بحركة آلية..
وألقيت بنفسي، فوق أقرب كرسي.. يداي يغسلهما العرق؛ في لحظات الانتظار، والقلق.. لا أحب العيادات والمستشفيات.. الدوار، يلف برأسي، والطنين بأذني، يزداد..
 حالتي، أصبحت تصطك لها خلاياي.. حاولت أن أضعها في بؤرة اللاشعور، لكنها أبت، لم يعد النوم، يداعب جفوني.. حدقت إلى عقارب ساعتي – العتيقة – لم يمر سوى ساعتين فقط.. سؤال طفا في عقلي – فجأة – هل ما صرت عليه.. حقيقة، أم كابوس كالح؟! جاءني، صوت "الممرض"، الأجش:

أنفاسالعالم ينتظر والجنرال ممدد على سريره في غيبوبة تامة ،زيه العسكري المعطر بدخان الحروب ، معلق امامه بجميع نياشينه واوسمته ... الكل ينتظر...، سيطير الملوك والرؤساء والزعماء ورجال الدين والوزراء والعلماء والنجوم فور اعلان الخبر ليؤدوا واجب التعزية..
وسالت جدي المحارب القديم : ما الحكاية ؟فقال : انه يعذب عذابا لاتتحمله الجبال..
قلت : كيف؟كيف يا جدي؟
اجلسني الى جانبه وقال لي :حكى لي جدي عن ابيه عن جده عن جد جده عن...عن احد الاولياء الصالحين ان القاتل عندما ياتيه الموت ، لاتخرج روحه الا اذا تذكر اخر قتلاه .. ويبدو يا بني ان الجنرال لايتذكر اهو شيخ ام امراة ام طفل ام جنين ...