إلى أطفال الجبل، حيث من شيم الكرامة تقديم الدفء قبل الأكل
على الأرض بسط الثلج هيبته، وبين الأجواء باثٌ أنفاسه الرطبة؛ خرجت.. فتلقفتها أذرعُه الباردة، عصرتْ له أضلعَها  وكزَّت على أسنانها لتحدَّ من ارتعاشها وتصدَّ بعض وخزاته. خطت خطوات  ثم التفتت وراءها فتبدّت تحت عينيها الخضراوين أثارُ أقدامها الصغيرة على الصفحة البيضاء الطرية، استفزها الشكل فتوقفت لتقارن بين الرسم والمرسوم غير أنها سرعان..  ما انشغلت بمدّ جوربيها الممزقين على كعبيها المتشققين النازفين اتقاء عضات البرد الغاشم؛ وهي تقف سقطت بعض أضاميم نعناع بري وزعتر خضراء ندية، لملمتها على عجل وحثت الخطى تتطلع إلى  الطريق الرئيس المرصوف برتل من السيارات القادمة من وراء الجبال.
 الرتل متوقف.. لعل كاسحة أمامه تزيل ما تساقط من الثلج طوال الليل. استغلت بعض الأسر اللحظة و انتشرت على طرفيْ الطريق لتلقي عنها بعض العياء وتمسح عن كواحلها بعض انتفاخ؛ الجميع – دون استثناء – منتش فرح يتملى المشهد العائم في البياض ، ويستعظم جغرافيته إلا هي كانت جوارحها كسلى لا تحركها إلا نبضات قلق و رجات حزن ثقيل.

-أبوكم نائم .. لا تزعجوه..
كانت هذه الجملة الصارمة حدا فاصلا يعيد كل نزقنا و فوضانا و زعيقنا -و نحن الصغار- إلى النظام و الصمت "اللمط" .
في الغرفة المجاورة كان يتمدد في هدوء خلال فترة الظهيرة بعد وجبة الأكل و كنا نحن نحشر في الغرفة الأخرى و نؤمر بالتزام الصمت و التقليل من الحركة طواعية أو تحت التهديد و الوعيد .
لم يكن الوالد ديكتاتورا ، لم يكن ينهرنا بالمرة و لم نره يوما ينظر الينا شزرا ... إلا في ما قل و ندر .
قسمات وجهه المتعبة دائما و المتألمة -أو هكذا كان يخيل إلي و أنا صغير-هي كل ما زال عالقا في ذهني بوضوح بعد كل هذه السنين.لكن في تلك الظهيرة الحزينة التي لن أنساها ما حييت ، كان الجميع يتحركون في المنزل .. و لم يكن هذا من عادة ساكنيه في هذه الفترة من اليوم .
كانت حركة لا تفتر تعم أرجاء البيت و كان بعض الغرباء عني يحتلون البيت متوزعين هنا و هناك .
أما هو فقد كان ممددا في الغرفة المجاورة التي أسدلت على بابها ستارة مفبركة .

أطلقت السماء سراح رذاذ ، اغتبط الشارع الذي امتصت حركته ساعة معها يسفر ضوء النهار .
على مرمى قلب سارع إلى الحياة أبصرته باتجاهها يتنزل المنـحـدر في تـُؤدة .
طفل يمتهن النط على دراجة الكنغـر*. بينما تصعد في جلال خطا مستقـيما نقاطه تـنـتهي عنده .
حـدست أن توازنـه لن يعمر. راهنت على سقوطه الوشـيك. ضبطت إيقاع سيرها. على مرمى قلب سارع إلى الحياة أبصرته باتجاهها يتنزل المنحدر في تـُؤدة .
حدست أن توازنه لن يعمر. راهنت على سقوطه الوشـيك. ضبطت إيقاع سيرها. لا محالة السير عزز في تقليص المسافة .
ناطا يتـمايـل يسـتعـيد تــوازنـا رشـيقــا ...
تبـيــّنــتـْه وسيما كما راق لها أن تراه . فرخ في صدرها حلم .. استبقت توقـا تخط لهذا الوسيم بطاقة

"الرسالة الأولى.."
   *  * *
جلست على الكرسي الهزاز.. أحدق في نسخة لوحة "الصرخة" المعلقة إلى جانب صورة تؤرخ لزمن الحرب، (كلاشينكوف وخوذة زيتية)..
 تساءلت مع نفسي: لماذا اختار هذه اللوحة تحديدا –الصرخة-؟ لوهلة رأيتني أنا الذي أصرخ.. وهل حقا هي لوحة تمثل الصرخة!؟ أم تمثل الصدمة؟ لا يمكنني الجزم، لأن اللوحة تظل بكماء مهما جسدت الحال..
ثم أعدت نظري إلى الصندوق الذي بين يدي، الصندوق الذي استخرجته من ذاك الجحر المبوَّب..! صندوق حديدي، يشبه تلك الصناديق التي طالما رأيتها في الأفلام الأمريكية.. قمت بفتحه بحذر، رغم أن الصندوق لم تكن عليه أي علامات للصدأ، أو يكتسيه الغبار.. أيقنت أن صديقي الشيخ، كان يُعنى كثيرا به، فهو على ما يبدو كلُّ ذاكرته..!
كانت محتوياته عبارة عن أظرفة لرسائل من زمن ماض، ماضٍ سحيق.. بالإضافة إلى مذكرة صغيرة، مكتوب عليها: (1988).. قلبت النظر في الأظرفة/الرسائل وفي المذكرة.. تساءلت: بأيها أبدأ!؟ بالرسائل أم بالمذكرة؟ سمعتُ صوتا داخليا يحاول أن يثنيني عن ذلك.. فكنت أقاومه.. ثم سمعته يقول:

لا تكترث لزيادة تاء غير مألوفة ..
ودعك مما يثيره الاسم من حنين إلى الشدو المنساب عبر الأثير العربي، متوسلا طير الوروار أو مناجيا زهرة المدائن. فيروزة هنا عنوان الشقاء في بلدتي، حيث كل شيء يباع ويشترى حتى الضمائر  !
قد تجد فيروزة في كل بيت. أما أو أختا أو جدة ملقاة في أي ركن كالدمية البالية. لذا لن أحكي شيئا مما تعرفه، أو تعودت طبلة أذنك على اهتزازاته كل صباح في مقهى الناصية.
 لك وعد مني، أنا الراصد لبعض ألوان الشقاء، أن تكمل القصة وتنصرف. لأنك دُست مثلي على صور الحرمان دون اكتراث. ما العيب في ذلك إن كان العالم خطة فاشلة لاقتناص السعادة؟ 
هرولت العاملات إلى حيث سقطت فيروزة مضرجة بدمها القاني. شمس الظهيرة تلفح الوجوه بسياطها اللاذعة لتزيد المشهد تذمرا وسخطا، بينما صوت مالك الضيعة يقرع الآذان بشتائمه الغليظة متوعدا فيروزة بالمزيد .ولد الخيرية، صاحت إحداهن، لو كنت ابن أصل لما رفعت عصاك على ولية. تفو يلعن أب.." ركلت الأخرى علب الكرتون المرصوصة غيظا فتناثرت حبات الخوخ يمنة ويسرة على العشب المبلل .

خرج من حجرة نومه - جلبابه الأبيض واسع زاهي، عاري الرأس من عقاله- إلى الصالة الواسعة، جرجر قدميه العاريتين حتى وصل إلى باب الثلاجة، فتحه وشرب من مائها المثلج، أغراه طبق الحلوى العاري أمامه، فملآ منه فمه، وأمسك في يده ما استطاع إمساكه، ثم أغلق الباب واتجه إلى الحجرة من جديد، شد نظره على شاشة التلفاز – التي تحتل جدارا كاملا من الصالة-  أن الطفل الذي يقذف الحجارة على العسكري المدرع كان خفيف الوزن يطير كأنه ريشة، وأن القنابل الدخانية التي تسقط من حوله تضيف إلى الصورة هالة اسطورية، فيظن الرائي أن زيوس يعود من غفوته ويسترد مكانه كإله للبشر من جديد طاردا باقي الآلهة إلى الجحيم أو إلى الصقيع حيث موطنهم الأصلى، سحب نظره من فوق الشاشة وضوئها واتجه إلى الحجرة، الباب الموارب كشف له عريها الذي يناديه، أفرغ يده في فمه وواصل المضغ والبلع، ثم أسرع يجرجر قدميه تجاه الباب وأغلقه خلفه.

تلك الأعراس في بلدتي، لم يكن لها في العالمين مثيل... مراسيم جلب الماء من البئر، يتجند لها شخصان او ثلاثة، يملؤون البراميل المصفوفة حيال باب المنزل المفتوح على الدوام. يدخله العوام والهوام، دونما خشية أو تهيب، فما كان بالبيت حاسوب ولا هاتف أو حتى راديو "ترانزيستور" يُخشى عليه من السرقة... بنت الجيران كانت تعرف مكان الملح والخميرة والدقيق... العرس فرصة لتكسير فراغ الفراغ، حيث تدب حركة رجال لم تجمعهم قبل ذلك غير حلقات لعب الورق، أو جلسات مج دخان السبسي... يتعاونون على بناء خيمة العرس المليئة بالغبار، وبصا ق العصافير المزقزقة هناك فوق كرمة التين بمسجد القرية، إلى جوار مرفع الموتى...
يقوم شبان شداد من البلدة بنصب الخيمة الكبيرة على مسافة يسيرة من المنزل، فتعطي للأهالي إحساسا غريبا، تزيده شحنات، رائحةُ بخار الكسكس الفائر... فيتحسس الجميع بطونهم، ويغلقون أفواههم خشية انبعاث الريق. وإذ تميل شمس الظهيرة باتجاه الغروب، تتهيأ نسوة الدوار للقدوم ، وكلهن شوق لصوت طامو البراحة، قائدة فرقة الغناء النسوي البدوي، التي توزع المدح يمينا وشمالا، والأخريات يرددن خلفها اللازمات المتكررة. تجني من وراء غنائها مداخيل تظفر منها بالقسط الأوفر، فتكون الفائزة بين كل الحاضرات: تغني وتطرب، تأكل وتشرب، تؤدي واجب " الغرامة" لصاحبة العرس، وتبقي بعض الدراهم في حزامها...

كان غضا، و كانت سنواتها الخمسون تزحف بها نحو النهاية، فقد أعمته ثروتها عن تجاعيد وجهها     و عن يديها المعروقتين، جذبته إليها سيارتها الفارهة و أسورة الذهب التي يضج بها معصماها، و قلائد العقيق المتناثرة فوق جيدها. أما ما جذبها إليه فقوته و سمرته الكالحة. كان جريئا و كانت تبحث عن تلك الجرأة و تتمناها، كان جامحا و عنيدا، و كانت تفتش عمّن يحكم شد لجامها و يسوسها و يركبها، كانت تبحث عمن يميتها ببطء ثم يحييها، و كان هو ذاك الجواد الذي ظلت ترسم صورته في ذهنها، و حين عثرت عليه لم تفرّط فيه. لم تجد قبله سوى الذين أشارت إليهم بسبابتها فمدوا إليها رقابهم فداست عليها ضاحكة ساخرة مستهزئة. لكنها عندما وجدته أدركت معنى أن تكون مسحوقة. شد طرف حبلها بيده         و ترك لها العنان تركض كما تشاء فاسحا لها البرية تنعم فيها باطلاق قوائمها غير مكترثة بالصخور المدببة الناتئة، و كلما عن له أن يدنيها منه جذب الحبل، فأدار عنقها إليه، فتأتيه  متمسحة على أعتابه صاغرة ذليلة سلسة الركوب...

مفضلات الشهر من القصص القصيرة