في صدر الخيمة الفسيحة ذاتَ عزاء، اقتعد "باعزوز" ذو السبعين عاما أو يزيد كرسيا، في جلسة تحيل على نخوة الزمن الجميل، وهو يجيل بصره بين الداخلين والخارجين، ويتفرس وجوه شبان مختلفين عما عهده من أبناء جيله: كانوا حليقي الرؤوس بأشكال غريبة ودهون وطلاءات تغطي وجوههم ورؤوسهم، وتلمع في أصابعهم الخواتم وفي أعناقهم السلاسل...
        تحدث إلينا وهو يغمز من قناة الشبان قائلا: لقد كان من عادة القبائل في زماننا، كلما حلت أيام التشريق والأضاحي، أن يلاعبوا بعضهم البعض لعبة " الجلود" حيث يعمد شباب قبيلة ما، للهجوم المباغث على قبيلة أخرى، فيخطفون منهم جلود الأضاحي. وعادة ما يتم الهجوم على متن خيل أو بغال. ومتى تمكن المهاجمون من الفرار، أقاموا لذلك حفلات رقص وغناء، يتباهون بها إزاء القبيلة المنكوبة. فإن سقط أحد المهاجمين بيد الأهالي، فإن قواعد اللعبة تقتضي أن يجعلوا منه مثار نكبة واستهزاء للقبيلة الغائرة، إذ كانوا يلبسونه لباس النساء، ويغدقون عليه المساحيق من كحل وسواك وحناء، ويزفونه للقبيلة مثل عروس على ظهر بغلة عرجاء... وعادة ما تلاحقه تلك الشتيمة طول حياته...

حمامة بيضاء تتنقل من غصن إلى أخر، تعزف أحلى الألحان وأشجاها، ترقص أجمل الرقصات وأروعها، ترسم لوحات الحب على إيقاعات نسمات الرياح الهادئة، تسبح في الفضاء بدون هموم تثقلها...
توقف عن الكتابة فجأةً وأخد يعبث بقلمه، تارة يمرره من يد إلى أخرى بخفة ويدحرجه على الطاولة تارة أخرى، ثم تأمل أخر ما كتب :بدون هموم تثقلها.
رفع رأسه وتتبع حركاتها حتى سكنت واستقرت على جدار يقابل غرفته، استمع من جديد إلى هديلها كأنه يسمعه أول مرة، تصورها تعزف سمفونية الحب لحبيبها حينا وتشتكي حزنها ورتابتها أحيانا، ربما تفكر في الغد المجهول أو في الماضي القريب...

استفاق ، أو هكذا بدا له ، استغرق عدة لحظات ليتذكر أنه على موعد لاجتياز مقابلة أخرى من أجل وظيفة معينة بتوصية ما .
غسل سحنته الداكنة و بالكاد انتبه إلى أنه لم ينزعج من برودة الماء رغم البرد القارس . وصل في الموعد المحدد بالثانية ، وتوجه مباشرة إلى أول موظفة وقع عليها بصره ، كانت تجلس خلف مكتب منظم بشكل أنيق ، سرد لها سبب حضوره بدون مقدمات طويلة ،  كانت تستمع إليه و هي تشتغل على مجموعة من الأوراق أمامها كانت جميلة ، و مع ذلك لم يقف طويلا عند هذا التفصيل ، خاطرة ما أوحت له بأنها تشبه  الغزال تماما ، جميلة و لكنها هادئة أكثر من اللازم بل هادئة بشكل يدعو للتخمين أنها متبلدة الفكر ، لا شيء يمكن أن يعلق بالفكر بعد الحديث معها سوى الجمال الخارجي ، هذا ما أخبرته به نظرتها الساهمة . حولته بأقل مجهود إلى مكتب يوجد  في طابق آخر .

منذ انعتاقي من عتمة العدمية
ومنذ علمي بأني كائن يدعى الانثى
 وأنا اتلمس الظل
 كي لا أسير في جنازة الوقت وحدي

عند منتصف الليل، أسرجت قنديل العودة. خضت بحار الوهم زمنا ثم عدت خالية الوفاض كما ذهبت.
وها أنا هنا، اخيرا عدت إلى محطتي الأولى في الحياة، مسقط رأسي.. بعد عذاب دام لأعوام في غربة قُدّرَ لي خوضها رغما عني.. عربة أرادها رجل لنفسه وأبى حظي إلا أن اشاركه حلمه.

    أناخ قلمي رحاله في أراض عجاف، شاب فوده وخبا صوته المبحوح، ليتوارى بزيه المهترئ بعيدا عن الأضواء، عن بهرجة الأقلام الصداحة للقلوب الماجنة...بين يدي الراعشة كف عن الأنين، وبقلب مكلوم من طول الرحلة حدقت مليا في الأنف المعقوف المكرمش، والجسد النحيل الذي ارتخى على كفنه في البياض المهيب، وباحتفاء وحنين للانتشاء رحبت الورقة بغازيها، لكنها فوجئت بسكونه، لذا تمايلت يمنة ويسرة مستمدة أنفاسا من الريح المتسللة من نافذتي ..

بساط من شقائق النعمان و زهور الياسمين، تحضن شمس الأصيل و تراقصها. أطفال من علية القوم بأزيائهم البهية، يتسلقون شجرات التوت الوارفة الظلال، المتناثرة كعساكر تحرس الحقول على طريق سلا. يتطلعون في أمهاتهم و هن يتكلفن في الكلام و يتصنعن ما يليق بالسيدات، زوجات العمال و القضاة و قادة الجيش. في مثل هذا الوقت من كل عام، يخرجن إلى الحقول المترامية  قرب الرياض العنبري للنزهة مع أولادهن، يحرسهن بعض العبيد، يفترشن قطائف زيانية تزينها موزونات تتلألأ كالمرايا و تبهر النظر.
كانت تتحاشى لقاء نظرتيهما، تحاول في كل مرة إخفاء ارتباكها بالحديث عن جمال الورود المختلفة الألوان. كلما كلمتها سيدتها، اصطنعت ابتسامات كاذبة و ارتسم الوجوم على وجهها و عادت إلى شرودها. أخبرها رودريغ أن السلطان يدبر مؤامرة على مدينة أخواله، و أن ضربته ستكون قاسية. لا تدري، إن هي أفشت سر المؤامرة، ماذا يكون مصيرها و مصير فارسها و من معه من نصارى الجيش السلطاني.

ذاكرة مدينته عقيمة كأرحام بعض النساء، حين عاد إليها يوما يبحث عن خلاص من ذاكرته الموبوءة، احتضنته أسوارها، فوأد خلفها أفراحه و كتب وصيته على شاهدة قبرها. مد إليها يده مصالحا فاعترضته فوهات البنادق المتمترسة خلف بقايا صور كانت و لا تزال تسكن ركنا من روحه، وجوه الصبايا المطلة من خلف النوافذ، و أصوات الصبية اللاعبين بين الأزقة و في الباحات و صوت المؤذن الصادح...كل ذلك تهاوى و وُئِدَ تحت ركام صومعة و تناثر مع دموع اليتامى و الأرامل. و صَمَتَ الجميع، فلا صوت يعلو فوق صوت الأزيز.

في  اللحظة التي تتلو ضغطة زر الكهرباء و انطفاء النور ، في تلك اللحيظة القصيرة جدا و الحاسمة ، خيل إليه أنه رأى شخصا يحدق فيه ببرود مخيف من بين طيات الظلام المنسكب. أعاد إشعال المصباح بسرعة  و أرخى السمع مترقبا أي حركة تدل على وجود ذلك الشبح المتخيل ، لكن لاشيء .
أعاد إطفاء النور و بدأ يحس بتلك القشعريرة الغريبة تسري في جسده ، سرت كالتيار الكهربائي انطلاقا من  رأسه نازلة عبر شرايين جسده متدفقة مع الدم لتصل إلى مفاصله، انتصب شعره و شدة هواجسه تزداد شيئا فشيئا . سبح خياله في الظلام الدامس متخيلا العفاريت و الجثث  و الجنيات المتعطشة للدم و الأعضاء البشرية تحوم حوله ، أحس بعيون ما ترمقه في الظلام و أحس  كأن أياد مجهولة تحاول لمسه و الامساك به ، زاد تحفزه و ارتفعت حدة سمعه حتى صارت أدق حركة تبلغه و كأنها تبت عبر مكبر صوتي .
 

مفضلات الشهر من القصص القصيرة