اِرتدى قميصه الحريري الأبيض، عقد أزراره المرمرية ، ومن فوق نظارتيه رنا إلى دزينة ربطات العنق، سحب الأرجوانية دون تردد؛ لفها فوق ياقته وتابع يده الدربة تعالجها عبر المرآة ، أعاد الياقة لوضعها الصحيح وطفق يزحزح ـ يمينا وشمالا ـ العقدة لتستقر وسط نحره لتعطيَ القميص ذاك الرونق البديع الذي طالما افتتن به... فجأة ، توقفت الحركة ، وسهم شاردا في أفق المرآة حينا ، ثم طأطأ رأسه؛ لقد تذكرها ... تذكر (سلماه ) ما انمحى شيء يخصها من ذاكرته: عطرها رائحة عرقها ،طيفها المياس، وشوشاتها ، كلها لازالت حاضرة في حياته لم تنسه إياها السنون، ولا يأسه من اللقاء بها من جديد، بل حتى زواجه لم يفلح في ردم ما تركت وراءها من فراغ عاطفي !.
كانت أول امرأة عرفها في حياته ، اكتشف معها ماهية الحب، وذاق في مملكتها لوعة الصبابة وحرقة الوجد. !
التيه ـ رواية : محمد شودان ( الجزء الثاني )
ذلك المساء، أخذ دشا باردا، فأحس على إثره بانتعاش رائق أنساه تعب السوق، انتقى ملابسه بعناية، وبعد ارتدائها، رش العطر على قميصه وخلف أذنيه، ثم خرج قاصدا المقهى.
جلس على الكرسي حيث تناول فطوره الأول بسلا، وعلى الكرسي الذي بجواره وجد جريدة مبعثرة الأوراق، وقد مسخت صفحاتها وصارت كورق الخريف الذابلة من كثرة الأيادي التي عبثت بها طوال النهار، أخذها إليه ونظم ورقها بروية ثم شرع بمطالعتها، منتظرا قدوم النادلة.
لو قُدِّرَ آنذاك لأحد أن يجلس قريبا منه، لسمع خفقان قلبه، لم يكن في الأصل يقرأ الجريدة، بل كان محتميا بها ريثما يهدأ روعه.
ترصد حركتها بين الطاولات؛ كانت مشغولة ومفتونة، ولاسيما فاتنة، وكانت المقهى غاصة بالرواد، خاصة في القاعة الداخلية، حيث احتشد الشباب استعدادا لمشاهدة مباراة من البطولة الإسبانية.
بعد مدة، ربما قصيرة، وصلت عنده، فتوقفت عند حدود الطاولة أمامه، مسحتها بخرقتها الصفراء، ثم استقامت، تنتظر طلبه.
ــ قهوة عادية رجاء.
سيزيف يعتلي ..الصخرة استرواحا ! ـ قصة : حدريوي مصطفى (العبدي)
أحس بتعب شديد يسحقه ـ ما شعر بمثله يوما ـ يكسر عزمه ، يثنيه عن مواصلة المسير، وزاده عطش شديد همّاً ثانيا بات يستحلب له جُدُر حلقومه لمجابهته ، وهو يجر رجليه المنهوكتين سيرا على الرصيف؛ عرقه المتكرر وقميصه البليل كانا يلطفان شيئا من الحرارة المغمور في حضنها خصوصا حين يركب الأثير نسيمٌ باردٌ منفلت من صدر القيظ ؛ بينما شمس غشت الشاوية بأجوائها الجافة ظلت سادية معه ، تنحر استمتاعه بالانتعاش لحظات قصيرة بعد ملامسة إحساسه به.
ودّ أن يأخذ قسطا من الراحة يسترد خلالها قواه ويبدد وهنه غير، أنه ما أن رنا صوب المغرب حتى عدل ، فالشمس المنحدرة نحو الأفق لم يبق لها إلا خطوات وتغيب ، وبيته... على بعد ساعتين ونصف أو أكثر بقليل هناك ...هناك على أطراف المدينة ، قد فكر وقدر، ثم فكر وقدر أنه إن طاوع رغبته واستكان ـ حتما ـ سيحل المغرب وهو على طريق العودة ؛ هم ثانية بشرب جرعة صغيرة من ماء تمناها باردة زلالا، لكن الزمان الرمضاني حال ومناه ؛ فاكتفى بالتوقف ريثما يستبدل ورقا مقوى متآكلا مدسوسا فِراشا داخل حذائه الرقيع بآخر متّقِيـاً به مسمارا نافرا ، قد أدمى بطن قدمه ، ولما فرغ اعتدل منتصبا وطفق يدوِّر الرّجلَ الثانيّة ذات الشمال وذات اليمين ، و وجهه أخذ أسارير منكسرة تنم عن ألم ومعاناة وكثير من عدم الرضى والسخط .
موعد مع الرب ـ قصة : عبد الرحيم اجليلي
لم يكن الحاج حمو تائها، ظل اليوم بأكمله يبحث عن طريق جزيرة الجبل، ظن لوهلة أنه ضل السبيل، لكن يقينه بالنداء الذي ما فتئ يرن بداخله، جعله يعاود الكرة بلا قنوط. تلك الأشجار اللعينة تحجب عنه الرؤية، و هذه الأحجار العملاقة الملساء تهد من قواه، فلا يكاد يعبر واحدة، حتى يجد أخرى تصده و تتحدى عزيمته. بعد أيام و ليال من المسير، وصل إلى هذه الغابة، و خلف من ورائه أبويه و أصحابه و قريته، جميعهم سخروا منه و سفهوا أحلامه و أخبار النداء الذي زعم أنه يأتيه من مكان ما في أعماقه. إن الرب ينتظرك في جزيرة الجبل.
بمجرد ما صار على قمة أعلى حجر قابله، رأى ما يشبه الكوخ، بلا باب و لا سقف، مجرد جدران تحيط الفراغ. عندما دخل مستطلعا، وجد شيخا طاعنا في السن، بلحية تكاد تلامس موضع قدميه، يساكن أفاعي و قردة و طيورا جارحة.
غرفة اينشتاين ـ قصة : عبد الكريم ساورة
قضى أربعين سنة يشتغل "شاوش" لدى رئيس الشؤون العامة بإحدى المديريات المركزية، الجميع يناديه " اينشتاين " لأنه كان غريب الأطوار، ومع كثرة الأحداث العجيبة التي تقع له بين الفينة والأخرى مع أهله وأبنائه وأصدقائه، نال هذا اللقب عن جدارة واستحقاق، مع ما عرف عليه من أقوال و " حكم " ومستملحات في الكثير من الشؤون التي تجعل كل المحطين به " يسقطون" من الضحك، إنه علامة حقيقية، لرجل يعيش خارج الزمن.
يجلس على الباب، ببذلته الزرقاء الصوفية التي لم تفارق جسمه الصغير كل العمر، وحذائه الكبير، وربطة عنقه السوداء التي تنزل إلى الأسفل، على فخده الأيمن يضع رزمة من المفاتيح كأنك تعتقد من الوهلة الأولى أنه حارس عمارات، كان دائما يقول للعاملين معه، وصيتي الوحيدة في هذه الدنيا أن تدفن معي كل المفاتيح و "بذلتي الرسمية " ولماذا يا اينشتاين ؟ كانوا يسألونه ؟ فيجيب بعفويته المعهودة لإنني أنا السلطة الحقيقية وليس رئيسي المباشر،أنا من يتسلم كل الوثائق السرية وأسلمها لكل المكاتب، أنا من يدخل كل المكاتب بدون استئذان، أنا الذي لم أفتح ملفا واحدا سلمه لي رئيسي مند أن ولجت دهاليز هذه المديرية الشريفة، أنا الحارس الأمين على كل الغرف السوداء.
ولوج إلى خبايا الروح ـ قصة : لهفاوي الحسين
كم يلزمني يا والدي من الفرح كي أخطو نحو الأمل، كم يلزمني يا والدي و أنا الموجوعة بفقدك من الصبر على فراقك، و كم يلزمني من الصمت كي أنصت لهمسك و أنت تحدق في السقف و توصيني بأن أعتني بنفسي و بوالدتي، كم يلزمني من القدرة على النسيان كي أنساك يا والدي، و أنسى خروجك من البيت على غير رغبة منك محمولا فوق أكتاف الرجال، و خلفك القرية تبكي و تولول ذارفة دموعها عليك و على فراقك. لنا الله يا والدي و لنا هذا المدى الممتد من الحزن و الصمت المطبق المكمم لأفواهنا، و لنا هذا الحب الساكن بين جوانحنا الذي يحمينا و يحرسنا...
الجراح النازفة و الخنجر المغروز في الخاصرة و القلب المكلوم بفقدك، و هذه المسافات الممتدة من المواجع تتوه فيها المشاعر و يقبع خلفها الفرح مديرا ظهره إلي محدقا بنظراته الجامدة في مرابعي المحاصرة بالأحزان الساكنة في كل مكان، في الحقول التي لم تزهر أزهارها و لم تورق أشجارها، و في الجداول التي نضبت مياهها، و في أعشاش العصافير المهجورة، و في القلب المكلوم المحاصر بالمخاوف و الخيالات.
كم يلزمني يا والدي من الدموع لأذرفها على قبرك كلما زرتك و أنت الراقد بين اللحد و اللحد.
التيه ـ رواية : محمد شودان ( الجزء الأول )
توقف قليلا في منتصف الممشى الإسمنتي الرابط بين الإدارة والباب الخارجي، حتى يسمح لنفسه بتعديل وضع الحقيبة على ظهره، وبعد ذلك، أمسك بيسراه الوثيقة التي مده بها مدير السجن، فتأملها وهو يمشي ببطء، كان كأي عالم آثار أخرج لتوه قطعة أثرية؛ رأى حروف اسمه واضحة المعالم، فقد كان مكتوبا بالبند المضغوط، بارزا، كأنه يناضل بين الحروف، حتى لا يتيه في الكلمات الروتينية التي تتكرر في كل الوثائق الأخرى.
استطاع تهجي الحروف تباعا، واسمه، هو الكلمة الوحيدة التي يستطيع كتابتها بإتقان، والتعرف عليها أيضا من بين ركام الكلمات بسرعة، وهذا كل ما تعلمه في السجن.
في أسفل الوثيقة، يتربع ختم إدارة السجن المدني، وهو كتابة في دائرتين تحتهما طابع مستطيل، وتوقيع عجيب يمينهما، أما إلى اليسار فكُتبت جملة تتجاوز كلماتها ربع السطر؛ دوَّنها الموظف المرافق للمدير بقلم حبر جاف تحت توقيع السجين.
المؤمنون ـ قصة : عبد الرحيم اجليلي
- هل نحن كفار يا أمي؟
نظرت إليه بحنو و عبرات الأسى تنضح من عينيها، يكاد قلبها ينفطر من شدة الرعب. تلك الرايات الحمراء التي تتوسطها مربعات بيضاء و سوداء، كقطعة شطرنج ضخمة، تلاعبها الرياح على الهضبة المقابلة لحصن تاكرارات، أولئك الجنود المدججون بالدروع و السيوف و المتأهبون للانقضاض على المدينة و زرع الموت بين سكانها و الخراب في عمرانها.
- لا أدري يا بني عما يتحدثون، حروب الرجال يخلعون عليها لباس الكفر و الإيمان، هؤلاء مجسمة و هؤلاء خوارج. لا هم لهم سوى المال و الذهب، لا يبتغون سوى السلطة و الجاه. نحن غنائم جنونهم يا بني، رحماك يا رب.
لم يكونا الوحيدين اللذين اعتلا سطح البيت لينظرا من بعيد إلى جنود الموحدين، تتربص بمكناسة، تحاصرها، و تتحين فرصة الهجوم النهائي. امتلأت أسطح المنازل بالعيون المترقبة، أكف ترفع للسماء و حناجر تلهج بالدعاء.
- فاطمة، يا فاطمة، علينا أن نذهب للسوق، اقترب وقت الضحى، و المؤن شحيحة و التجارة كاسدة