لم يكن منا من يجرؤ على الكلام ،ولكن لسبب ما لم ينبس أحدنا بكلمة،ولم يحاول أحد قط فعل ذلك .
التثاؤب يعلن حالة من العياء والإجهاد والشرود،وأحدهم يسترق الكلمات والحروف،يغترف لنفسه مما ليس له.
شيء غريب يجعل الكلمات تغيب عنا،وتنجلي معاجم اللغات عن هذا العالم، لتتحدث إلينا خفية بلسان متثاقل،وبنفس متقطع ،ثم تعلن صمتها من جديد.
كان صمتا ينسي العالم الكلمات والجمل ،وحوله صمت يخرج منه صوت يتحايل على نسيم الأمكنة الهادئة ،ويعبث بالأعشاب والنباتات ذات السيقان الهشة فيكسرها ،فيهيم الصدى في الفضاءات، يعلو ويهبط ثم يتلاشى، كأن جنبات الدنيا تمتصه على مضض ، ثم يغيب عن الأركان والزوايا، وكأن للصمت أيادي خفية تخرج الصمت عن صمته .
كان أحدهم يقطع أشجارا خفية ليبني له كوخا،دون أن يعرف رفاقه ، يهوي بفأس على سيقان الأشجار بضربات متتالية، ثم يتوقف ليعاود الكرة كعفريت مارد ،يرسم داخل الصمت موجات صوت مفتعلة، تسرق من ذلك العالم صمته البهي .
لما رآه أحدهم قال :
اسماعيل خُطوطو ـ قصة : العياشي ثابت
وحدها كلاب "الكونت دوباري" كانت تُدمي ذيولَها وأرجلها من فرط الهياج إزاء كلاب ضالة، تمنعها السلاسل من ملاحقتها، وبث سموم القيد في جلدها الموبوء... كانت "الشيخة طامو" ذات السبعين خريفا أو يزيد، تسكن إحدى الشقق البديلة عن عشوائيات المدينة، غير بعيدة عن حانة الصعاليك، تطل كل يوم من نافذتها الضيقة، لتتابع فصلا من جنوح ابنها، فقد كانت ترى فيه ضربا من جنون كلاب " الكونت دوباري"...تعيش وساكنة الزقاق أفلام رعب متكررة، بطلها اسماعيل خطوطو، كل يوم في ذات المكان... لم تكن سلاسل الشيخة طامو سوى أبواب حديدية موصدة، يخبطها ساعة الهياج بقوة، حتى إذا بلغ اليأس مداه، استل من حزامه مدية يتلألأ بريقها فيعمي عيونا مشدوهة، ويربك قلوبا خائفة، تترقب حركات المعتوه وسكناته. ساعتها يبدو الزقاق خاليا من المارة ، موصدا في وجه السيارات والدراجات دون علامات المنع، حيث يتحول اسماعيل خطوطو إلى قانون جديد يلغي كل علامات التشوير...ينزع ملابسه في بلادة وعجرفة مقيتة، ويرسل وابلا من السب والشتم لكل العيون المراقبة من خلف النوافذ، تتأمل خطوط جسده البادي مثل خريطة متشابكة المفاتيح...
عباس الحلاوي ـ قصة : رشيد تجان
تنتظم براريكنا1 في مجموعة من الأزقة يجمع شتات أطرافها حيٌّ صفيحي يدعى "الكاريان"، يضم مهاجري القرى القريبة من مدينة الدارالبيضاء والبعيدة عنها. تختلف لهجاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، ويجمع البؤس بينهم على حد سواء. يظهر القهر على وجوههم الشاحبة، يشتغلون بعضلاتهم القوية طيلة اليوم، متفرقين في مشاغل مختلفة، ويعودون مساء. تختلف بهم السبل بين من دخل بيته وأغلق الباب خلفه، وبين من اطمأنَّ على حال أسرته ثم انصرف عند الحلاق لمعرفة أحوال الأصدقاء وتبادل أطراف الحديث وتدخين "الكيف"، وبين من ابتُلِي بأشياء أخرى فينصرف إليها، فتجده قابعا في فرن "الدرب" يلتمس الدفء شتاءً.
عباس واحد من كل أولئك الناس، يبعد عن كوخنا بخمس أزقة في اتجاه الشرق، يعرفه الجميع، يصنع الحلويات ويبيعها للزبائن في الشارع العام، عبر عربة يدوية، بعجلتين. كلما حل بالساحة التي تتفرع عنها كل الأزقة إلا وخلق الفرجة. رجل محبوب من الجميع، صاحب نكتة ويمتاز بخفة دم. في السراء والضراء حاضر، يساعد على بناء الخيمة لاستقبال المعزين ويتأسف لضياع الفقيد الذي كان شُعلةً يستنير بها كل من عرفه، إن كانت هناك وفاة ما، ينعي مع الناعين ويشهد الجنازة ويصلي عليها سيرا على الحديث النبوي :" مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ"، ويعظ من معه بما تيسر له معرفة بالدين، ويعود مع الناس من المقبرة ليأكل ما لذ من كسكس الجيران المُعَدِّ لهذه المناسبة، ويتخشع لقراءة القرآن ليلا، يأخذ الموعظة من أفواه الفقهاء، حَفَظَةِ القرآن، ويتصدق عليهم بعد العَشاء مما تيسر من رزق حلال.
جلب الحبيب ـ قصة : ماهر طلبه
قال يعقوب ليوسف: أخفِ حُلمَك حتى لا يَقتلك.
لكن إخوة يوسف كانوا دائمي التفتيش في ذاكرته ومذكراته وموبايله حتى عثروا بالصدفة أو بلعبة القدر الغادرة والتي يمارسها دائمًا الآلهة على الحُلم الجنين؛ فألقِيَ يوسف في البئر حتى يَغرق حُلمه.
***
أَخرجَ السقا يوسفَ من البئر ونسى حُلمَه فيه، وذهبَ به إلى عزيز مصر عارضًا بضاعتَه عليه، فضَمّه عزيز مصر إلى قصره خادمًا أمينًا.
***
ما كان يوسف دونَ حُلمِه ليصير خازن مصر، ولا كانت لتطمع فيه زليخة وتُقطَّع الأيدي من أجْله، لذلك كان دائمًا ما يذهب إلى بئره المذكور في القرآن كل صباح، يَنظر جثة حلمِه الملقاة في قاع البئر أمامَه، يسأل كل مَن يُلقي دلوَه فيه أن يساعده على انتشاله.. لكن مَن يرغب في الحصول على جثةٍ في بداية نهاره؟. لذلك كان لا يَلتفِت إليه أحد، ولذلك ظَل يوسف على جدار البئر مرسومًا تمثالا للحزن والآسى والأمل.
***
هو الحب ـ نص : إحسان شرعي
عودة الحلم اللامنتهي، منتهى الحلم، إحساس بأن العيش فوق غيمة منعشة ممكن. أن أراك في كل مكان حتى إن لم تكن، أن أعيد ترتيب المشاهد لأقحمك فيها. الحب حمى لذيذة، هلوسة. أن أحدثك في غيابك، أن أريك أثر الشمس على بشرتي بعد يوم على الشاطئ.
ان انتظر الصباح نجمة نجمة لأراك، أن أشتري أحمر شفاه من أجلك، أن أنظر للمرآة لأراك، أن أضع العطر على كفي حتى يبقى شيء مني عندك. أن أكشف لك عن دهاليز قلقي السرمدي، وأشتم القدر الذي لم يجعلني لك و لم يلاقني بك. وأحب كل التفاصيل المتعلقة بك: مقعدك وزندك ونظرتك التائهة في. وأردد أغنيتنا المكتومة، في السر، أن أتمنى قهوة الصباح على الشرفة الصغيرة معك، أنت ترتشف القهوة تتطلع في المدى وأنا تائهة في مدى انتصاري بالحصول عليك. أجمل الصباحات تلك تبتدئ من ذراعك وأجمل الأمسيات ما انتهت على سريرك، لا سر بيننا بعد انتهاء الليل، تكشف الرؤى المشبعة، لا عطش بعد ذلك ولا رغبة مستعصية التحقق ولا أنثى بعدي على هذه الأرض.
لعنات ـ قصة : الحسين لحفاوي
كل مولود يولد في قريتنا تتأكد مع قدومه تفاصيل اللعنة التي سكبها علينا أحد الشيوخ الذين مروا يوما عبر بيوتنا، لم يكن مرور ذلك الشيخ عاديا و لا كان اِستثنائيا، كان مرورا بهيجا، مربكا، مخيفا، مفرحا، داوى أثناء مروره المرضى و أطعم الجوعى و أطفأ ظمأ الأجساد المتعطشة لنفحاته بتعاويذه، لكن المريب المحير أن لا أحد شفي و لا أحد شبع و لا خمدت ألسنة اللهب المتصاعدة من الأجساد المحترقة، لامست راحة يمناه كل الأجسام بلا استثناء، تحسس التفاصيل المخبأة تحت الأثواب و اختلى بالأطفال يريد تعميدهم، و رافق بعض النساء إلى أماكن كان يختارها و في مواعيد كان يضبطها حسب مزاجه أو استجابة لأوامر جنياته اللواتي لم نكن نراهن و لا نحس بوجودهن و لا نسمع هسيسهن، لكنه كان يحادثهن و يأمرهن و يطعنه.
دخل كل البيوت بلا استئذان، و بلا تردد أدلج في الظلام الحالك، دخل المغارات المظلمة المحيطة بالقرية و نام داخلها وحيدا في العراء و البرد، صلى برجالنا في المسجد و أزاح الإمام عنوة، و ذبح أضاحينا بيديه، و حرم آباءنا من إراقة الدماء، تلقى الصدقات و طاف في الحقول خلال الصباحات الندية و خلال الأماسي المنعشة، كان يمشي مدققا النظر في الأرض كمن يتبع آثارا أو يفتش في ثقب قد يقوده إلى كنز أو يلج عبره باطن الأرض.
الاحتفاء بالزمن أمام نزيف العمر ـ نص : د. الحبيب النهدي
"الحياة بلا احتفال طريق طويل دون محطة " ابيقور
" لا يعاش العمر لذاته، وليس لدينا تجربة شفافة مثل تجربة الكوجتو. للمرء أن يعلن هرمه في وقت مبكر أو ليعتقد أنّه شاب حتّى النهايّة"[1] سيمون دو بوفوار
" من يبلغ الشباب متأخرا يحتفظ بشبابه أمدا طويلا"[2]
"في الرجل من الطفولة ما ليس في الشباب فالرجل الناضج أقلّ حزنا وأقدر على فهم الحياة والموت لأنّه يشعر بحريته للموت وبحريته في الموت"[3] فريديريك نيتشه
***
آخر يوم من ديسمبر، في قريتي،[4] يتزاحم الكثير على شراء المرطبات وتقام سهرات الميلاد. تمتلئ الحانتان بالرواد وتفرغان. والكلّ يحتفل على شاكلته فمنهم من يعتبرها مجرد سنة ادارية جديدة ومنهم من فضلوا الاحتفال في جوّ عائلي ومنهم البائس المحروم يستلذ بما يغذي الخيال فيسرف في المجون وفيهم الجائع المكبوت يلتقي غرامه بالتمرد على النواميس ويحتفل كيفما شاء في الخراب ومنهم من يبالغ التبذير في المتع ويختار أفضل النزل وفيهم من يلعن هؤلاء جميعا فهم في نظرهم غربان يقلدون الغرب لهذا يرجون ثورة لا تبقي ولا تذر.
خطبة الموريسكي الأخيرة ـ قصة : عبد الباسط مرداس
"يُمنح الموريسكيون ثلاثة أعوام لتعلّم اللّغة القشتالية، ثم لا يسمح بعد ذلك لأحد أن يتكلّم أو يكتب أو يقرأ العربية أو يتخاطب بها، سواء بصفة عامة أو بصفة خاصة، وكلّ معاملات أو عقود تجري بالعربية تكون باطلة ولا يعتدّ بها لدى القضاء أو غيره."
من قانون الملك فيليب 2 ضدّ الموريسكيين.
في حيّ البائسين في غرناطة قرب ربوة المدينة، كانوا يحملون هويّتين.
كان الموريسكي في المظهر مسيحيّاً اسمه فرناندو، وفي السرّ مسلماً يدعى محمد. وشم اسمه السرّي على بطن ذراعه الأيمن ثم ذرّ عليه دخان الشحم كي لا ينسى هويّته الأولى. وكان قد استعدّ لهذا اليوم كما يستعدّ كلّ محارب. لبس بذلته الخضراء سوّى عمامته ووشّح عنقه بما تبقّى من القلادة الحمراء، وجمع كتبه وأدّى صلاة الخوف. أخفى الوشم بخرقة بالية، تحسّس مفتاحه في جيبه، وردّد القسم أنّه سيبقى وفيّاً لدينه ولغته، وسار وجهة حارة البائسين. وكانت القافلة قابعة في حارة البؤس والأنين في لقاء مع الوداع الحزين. وقف الموريسكي غير بعيد، نظر إليهم وقد غيّمت على وجهه آثار الذعر وأمارات القلق، كان يتنقّل في الطرقات وهو يرنو إلى هضبة الحمراء المنعزلة وأشجار الزيتون المنتشرة وإلى الجمع الغفير. هنا قعد بعض أهالي المدينة يستعدّون مغادرة المكان ووداع الزمان. انسلّ إلى درج غير بعيد ليعلو الجميع ناطقاً خطبته الأخيرة قبل الاختفاء، يلقيها على قلوبهم ترياقاً للهموم ورقية للأحزان وإكسير للسلوان. هنا لفظ نعيه الأخير وودّع الجمع الغفير. ووراء الربوة المتجعّدة كانت تُسمع الطبول وتركض الفرسان وتُدقّ النواقيس.