أنفاس بعد أن لهثت أفواه، وتقطّعت أنفاسها، حتى كادت أن تخبوا في صدور استفحل فيها الأسى واستبد.. اجتازت الجنازة الطريق الطويل الضيق على ما فيه من حفر ومطبات.. ثمّ وصلت إلى طرف المقبرة الواسعة المكتظة بقبور محشوة بأموات دفن معظمهم  بلا توابيت. ومع أن الدنيا في بداية أيام الصيف.. سوى أنه كأنما استقرت فوق رأس كل واحد من المشيعين، على ارتفاع شبر أو شبرين، قطعة جمر في غاية الضخامة كأنما سقطت لتوها عليهم من جهنم.
بعد أن حطّوا التابوت العظيم الجميل المدهون بالورنيش على الأرض، قرب القبر الجديد المفتوح، الذي يكفي اتساعه لابتلاع عدة رجال، وقد يبقى مكانا لطفل صغير أو طفلين.. وقفت الجموع في صفوف مضبوطة لأداء الصلاة. وعندما صارت  شفاههم جاهزة وأفواههم على أهبة الاستعداد.. طار بهم خاطرهم، وعاد إلى بداية حكاية ظنوا حينئذ أنها عادية.. مثل كل الحكايات التي تصادفهم يوميا في أحياء غزة وشوارعها.
في ذلك اليوم كان الحاج عبد الباقي جالسا في منجرته التي أنشأها قبل أربعين عاما. يمسك في يده خرطوم الشيشة.. يحدق بنهم إلى ألواح الخشب التي كسدت وهي مرصوصة أمامه كالعمل الرديء.. والتي لم يستطع مع كل ما بذله من جهد وحيل ومراوغة أن يجد لها أي تصريف.. وفي تلك اللحظة كانت شفتاه الرفيعتان تحتضنان مبسم الشيشة، التي أشعلها بعد أن تناول فطوره وأتبعه بلتر من الماء.

abstrait01feutreyb2سار خلف الدّابّة مُكِبّ الوجه على أرض تتأرجح بين المرتفعات ، وشِقْف التّراب المُعنّى يُبْسا يتطاير رذاذا عنيفا يشجّ العرق المنسكب من جبينه. أمامه، وعلى مسافة ذيل غضوب، كان البغل يرفس الأرض الجافّة ويطوي الأثلام طيّا يوجع سنابكه، ومحراث بينهما دفن رأسه الفضّيّ يبحث في الجوف المتّقد عن أمل سقط من صاحبيْه في ذات ثَلْم.
كان سير ثلاثتهم غدوّا ورواحا من أناء قطعة الأرض حتى أطرافها.
ذيل البغل الجَهْم يسوس الخطى ، وسعيد يُلقي قبضة من البذور بين العثرة والأخرى في أفواه التّراب المفغورة .
كان عَجِلا.  يستحثّ الأيّام حرثا وبذرا.
لا أحد سواه تلخّص قبضة القمح تاريخ أيّامه الآتية. وهذه الشّقوق المفتوحة تلتهم كلّ ما يُلْقَى إليها في شره وتقول هل من مزيد.
السّماء ، من فوق ، راكدة المحيّا  لا يعتري ملامحها وجوم ولا انبساط ، ترجم الورى بجمرات حامية. والشّمس تسوط كلّ سحابة تعوم في ضوئها المستعر، ومن تحتهما لَوَتِ الأرض وجهها ظمأ .

anfasseاستيقظت متعبا هذا الصباح و متأخرا على غير عادتي ، ارتديت ملابسي بسرعة و قبلت ابنتي ، قلت في نفسي : سأتناول فطوري في مقصف العمل . نزلت الدرج بخطى متثاقلة ، عند باب العمارة وجدت حارسها الحاج أحمد ، يرتدي جلبابا أبيض و نقيا ، هذه أول مرة أراه فيها يلبس الجلباب . قام الحاج أحمد و حياني بحرارة و سألني عن زوجتي و ابنتي و عن سر غيابي هذه المدة و تمنى أن يكون السبب خيرا . لم أبد اندهاشي للحاج أحمد ، فأنا لم أسافر منذ  سنوات ، وأحييه كل صباح ، لا أعرف ربما اختلطت عليه الأمور أو اختلطت علي أنا .
أدرت محرك السيارة و انطلقت ، بدت لي الشوارع غريبة عني ، شيء ما تغير فيها ، الناس يسرعون
كما لـو أن هناك من يطـاردهم ، تبـدو عليهم الخيرة والارتباك ، عـدد من الذيـن أعـرفهم تجاهلوني ، حارس السيارات و بائع الجرائد و حتى صاحب دكان التبـغ الـذي اقتني منه كل صباح علبـة محلية الصنع ورخيصة و تعود ممازحتي لم ينظر إلي .

و أنـا أركن سيارتي قريبا من إدارة تحصيل الضرائب ، حيث أعمل موظفا منذ أكـثر من عشرين سنة رن هاتفي النقال . جاء صوت زوجتي متقطعا و غير واضح و كأنه يأتي من هوة عميقة  :

anfasseالحوار الأول
قال له عندما أحس أن الحوار أصبح جديا :
- العدالة المطلقة وهم نعتقد أنه حقيقة ...    
- والوهم حقيقة نسبية ...
- إذن الحقيقة والوهم لا ينفصلان و ضروريان
- أكيد ..أكيد ..في كل حقيقة جانب من الوهم ، وفي كل وهم كثير من الحقيقة...
- جميل ..إذا العدالة حقيقة نسبية فيها الكثير من الوهم ...
- لا..لا..لا العدالة وهم نسبي فيه من الحقيقة الكثير...
- كيف ؟ هل نحن نعيش وهما كالحقيقة إسمه العدالة ...

أنفاسفي ضجّة الأيّامِ والآلامِ والفرحِ أحياناً، وفي فوضى الأحلامِ والأوهامِ وهذا التأرجح الدّائمُ بين الزيّف والحقيقة والمشوّه والمخرّب والمكسّر وما بينهما، سيأخذكَ كلّ هذا إن كنتَ تعرفْ، إلى مفترقِ طرقْ، يميناً.. يساراً.. وإلى الأمام حيثُ أنتَ، وستكون قادراً على أن تزرع أقدامكَ، حواسّكَ..أن تزرعكَ، وتمضي في أيّ طريقٍ ستختاره، ستمضي في أيّ خيارٍ اخترته أنتَ، ووحدكَ أنتَ..ذاكرةً، سلوكاً يعكسك وتعكسه كمرآة.
أيّ طريقٍ ستمشيهِ ستخسرُ حتماً طريقينِ تركتَهما للفراغِ، فراغكَ.. ستخسرُ الأرصفةَ والتجاربَ ونكهةَ الأرضِ وما فيها ومن فيها من كائناتٍ، أحبّاءٍ.. أعداءٍ.. وأشياءْ.
إن الطريقَ، طريقكَ.. جزءٌ منكَ أنتَ، وبلون جلدكَ.. وبقسوةِ قدمكَ.. وخطوطِ عقلكَ.. وبأرصفة احساسك.
إنّ اجتراركَ لطريقٍ، تجربةٍ.. يفتح أمامك أبواباً للتيهِ والتردّد بدلاً من تراكم التجربة، الطريق.. وتكوينها لذاكرةِ وعي حقيقي تعرف نفسها، وتعرّفها وفق رؤية تفهمها ونفهمها..تنخرط معنا ثقافةً عملاً يراكمُ نفسه ويمشي في طريق الدّائرة الأولى والأساسية نحو التكوين، تكوين الذاكرة، تكوين الذات.. طريقكَ اذاً طريق واحد، ارتكاز لانطلاقك..

Natasha-Barnesوإني أنا الصبيُّ أصطحبُ رفاقا،تدفَّقَتْ ألوانُ جَلابيبِهِمْ أسْمالا،تغشى وُجوهَهُمُ الفِطْرة،قال صَغيرُهُمْ_أنا من كنتُ أحجبُ بالقميص لوْحَ الخَتْمِ المُبين تحْتِي ،مُزَوَّقاً لا أُريهِ لِغَيْرِي ولا لأحدٍ _وإن ألحَّ علي _حتى يأتيَنا بالفتح المُبين،أحرُفهُ ببهاء الستر مستور، مُغمض خلف ثيابي أقيهِِ بصدري وأمشي حافيا حتى يُدركنا الحالُ عصْرا،أو نتوسلُ لمن نُصادفُهُ طريقنا فينفَحُنا ببعض ما يَجُوُد به علينا،ذلك هو الفتحُ المبينْ.
ما كان أحمدُ إلا رفيقا يَحْمِلُ قفة القمح، وقفةُ الشعير_نحنُ علينا جميعا _حملُها بالتناوب بيْننا،نقْطعُ مسافةَ ما بين قصْر وقصْر ،والقصرُ ليس للملوك وإنما كتلةٌ من الطينِ احتلت مكانا يتصدره القوسُ هو عنوانُ الدخول.
تطايرتُ فَرَحا حين تفرّقْنا نسعى،نقِفُ على أعْتابِ الدِّيار زُرافاتٍ ونَصْدحُ بما علَّمنا الفقيهُ_ ليس نشيدا على نحو ما تعلمناه من المدارس_ ولكنه أحلى،نرددُه واقفين على الأعتاب:
"بيضة بيضة لله.باش نزوق لوحي...لوحي عند الطالب والطالب في الجنة،والجنة محلولة حلها مولانا.مولانا مولانا.يا سامع دوعانا.لا تقطع رجانا .في حرمة محمد.محمد واصحابو.في الجنة ينصابو.يا بارئ يا بارئ.يا مفتاح الهواري.والهواري قاري.ترحم من قرانا.سيدنا محمد عليه السلام.يا حجاج بيت الله،اما ريتو رسول الله ؟خليناه يتوضأ باش نقراو حجاب الله.عينينا وعنيكم في الجنة ينصابكم.داك الفاس المذكور في الجنة وعليه النور"وينتهي اللغط المباح.

 

أنفاسشُرع الستار الأحمر البهي.. في ظلام دامس:
.. وهو يحدثها عن الحب، قدَّرتْ وفكرتْ وقالتْ: "الحب طريق إلى الرذيلة، وأنا أريد أن أظل بتولا حتى مخدع من يكون زوجي"
"أنا أحدثك عن الحب ولا أحدثك عن الجنس، فالحب ثقافة أما الجنس فهو عودة طارئة ومتكررة إلى المنابع الأصيلة للطبيعة"
قاطعته: "الحب مجرد أكذوبة أبدعها الرجال ليقدموها رشوة لجسد  للمرأة للحصول على جسدها، فليست هاته الكلمة تحيى إلا في مجتمع الروايات، أنا أرفض قطعا أي حب قبل الزواج فهو رذيلة وعهارة وحقارة.."
علقتُ على المشهد: ربما ملاك تائه.. لا قطعا لا ملائكة تمشي على الأرض"
*   *   *   *
وهما يجلسان وعلى مرمى من نظرهما عشيقان يتبادلان الحب ويقتنصان لحظات من اللذة، قالت له وهي تسرح خصلات شعرها على ردائها الأحمر: "أنظر كيف تسمح له هاته الوقحة السفيهة بأن يمرر يده على كل مفاتنها وهي تغط في نوم عميق بعدما سحرها بكلماته وأكذوباته.."

abstrait32ذاك الصباح المشرق وتلك العاطفة التي كانت تدحرج قلبه في مكانه مرات عديدة. كانا المرجع الوحيد الذي كان يجعله يرفع رأسه أمام السماء الغاضبة والناقمة. تتغير أفراحه بأرقام عاجلة... مختلفة الأحاسيس والعواطف الظاهرية والباطنية في جوارحه العميقة. وفي إثرها تتعدد المشاعر وتغدو ذات أهمية..
ها هي حبيبته تحوم حوله ووراءه تحيط بجثته الهائلة، فيلوح له اللون الأحمر القاني يمازج الألوان النيوتينية، يراها تمتزج وتختلط وتتعكر لتشكل طاقما واحدا رائعا وهندسة خادعة. لكن اللون الأحمر بطغيانه وجبروته المعتاد على كل الألوان، كان سببا في إعادة الأشكال الأصلية إلى ذاتها، والطبيعة الشحيحة إلى وفرتها، والأحاسيس الدافقة إلى نعومتها، كما لو أنها في حاجة إليه دون أن تفصح عن ذلك من قبل. البحر يحتضن تلك التغيرات المفاجئة التي طرأت على كل شيء، وكأنها نوتات موسيقية خلقت لتوها من أعماق المياه، بل كأنها رسالة من تحت الماء على حد قول الشاعر، ممزوجة بترنيمة لحنية رائعة بصوت الفنان الراحل .
العلاقات العاطفية التي تعم الفضاء المشحون بأشعة الشمس الدافئة، لا هدف لها سوى التحالف مع هبات النسيم الممكنة، ولا طائل منها سوى الروايات الممرضة والاستعراضات التافهة .

مفضلات الشهر من القصص القصيرة