في بيت هادئ بإحدى ضواحي مدينة "مكسيكو"، كان شاب عشريني على موعد مع أحد أساتذة الفن الأدبي المعاصرين، وكان هذا الشاب قد نشر روايته الأولى للتو، مما أضفى على حديثه شيئا من الزهو والاعتزاز أمام الكاتب الكبير، خاصة أنه كان قد سلّم لتوّه مخطوط روايته الثانية. كان الكاتب الكبير هو "غابرييل غارسيا ماركيز"، الأديب الكولومبي ذائع الصيت، الذي أعرب للشاب عن اندهاشه من تسرُّع هذا الأخير في بدايات مشواره بهذا الشكل، ليُفاجئه الشاب باستهتار غير عابئ قائلا: "أنت عليك أن تفكّر كثيرا قبل أن تكتب، لأن العالم بأسره ينتظر ما ستكتبه، أما أنا فأستطيع أن أكتب بسرعة لأن قلّة من الناس يقرؤونني".
يقول "ماركيز": "عندئذ فهمت، فذلك الشاب قرّر سلفا أن يكون كاتبا رديئا، كما كان في الواقع، إلى أن حصل على وظيفة جيدة في مؤسسة لبيع السيارات المستعملة، ولم يعد بعدها إلى إضاعة وقته في الكتابة"، وفي هذا السياق يُعلِّق: "إن كتابة الرواية أشبه ببناء الآجر"، ويخبرنا أن هناك أمرا مؤكّدا وهو أن أكثر مَن يسألون أنفسهم "كيف تُكتَب الرواية؟!" هم الروائيون بالذات، وهم يُقدِّمون لأنفسهم إجابة مختلفة في كل مرة.
فهؤلاء الكُتّاب هم مَن يؤمنون بأن الأدب فنّ مُوجَّه لتحسين العالم[1]، أو كما يقول "ميلان كونديرا" إن الرواية قد اكتشفت "واحدة بعد الأخرى، بطريقتها الخاصة، وبمنطقها الخاص، مختلف جوانب الوجود"، وإنها شكل من أشكال المقاومة التي يواجه بها الإنسان ما يسميه "هيدغر" بـ "نسيان الكائن"، الذي يغرق فيه إنسان العصر الحديث بعدما حولّته قوى التقنية والسياسة والتاريخ إلى شيء بسيط يمكن تملّكه[2].
من هنا يمكننا السؤال: هل تحمل الرواية هذا القدر من الأهمية بالفعل؟ وهل يمكن الاستعانة بها في البنيان الفكري والمعرفي؟ أم أن موجات التقليل منها كانت محقة؟ وهل يحمل إثم هذا التقليل قصور الفن نفسه أم بسبب ابتذاله وامتهانه من أمثال الشاب الذي أخبرنا "ماركيز" أن تجارة السيارات المستعملة كانت أهم عنده مما يكتبه؟
في كتابه "ماهية الرواية"، يخبرنا المفكر المغربي "الطيب بوعزة" أن تعاريف الرواية لا تتعدد وحسب، بل إنها تختلف وتتباين؛ لاختلاف موضوع النظر نفسه؛ أي الرواية، وهو ما يُعبِّر عنه "روجر آلَن" -أستاذ الأدب العربي بجامعة "بنسلفانيا"- حين يقول إن الرواية نمط أدبي دائم التحوُّل والتبدُّل، يتسم بالقلق ولا يستقر على حال[3]، فهي تقوم -كما يرى "ميخائيل باختين"[4]- على البحث الدائم وعلى مراجعة أشكالها السابقة باستمرار.
هذه المراجعة المستمرة للرواية هو ما يمنحها تلك المرونة التعريفية الواسعة؛ بسبب قابليتها "لاستيعاب الكثير من الأنظمة والنتاجات السردية التي تندرج ضمن مجالها وتسمى باسمها"[5]، ومقدرتها على "امتصاص كل اللغات والانبناء على أي بنية من بنيات الواقع الاجتماعي أو النفسي"[6]، الأمر الذي قد "يصل إلى درجة من الفوضى"[7].
من هذا المنطلق يرى "الطيب بوعزة" إمكانية المحاولة لتعريف الرواية بما تُغايره لا بما تُطابقه، أي بدلا من السؤال "ما الرواية؟"، يمكننا القول "ما الذي لا يكون رواية؟"، وفي هذا الصدد يمكننا تعريف الرواية على أنها شكل أدبي ينبني على مجموعة من المقومات التي يمكن استنتاجها من مخالفتها للفنون الأخرى، فالرواية ليست الملحمة الشعرية، وهي ليست الأسطورة القائمة على الخارق والعجائبي، فحتى الرواية الفنتازية طينتها هي الشخوص والأحداث البشرية، كما أن الأسطورة لا تُنسب لمؤلف بعينه على خلاف الرواية، وهي كذلك ليست تأريخا، حتى لو كانت رواية تاريخية، لأنها تبقى من نسج الخيال، وليست المسرحية لأنها تُعنى بالسرد أكثر من الحوار.
الرواية إذن هي الفن المُغاير لكل هذا، والجامع له في آنٍ واحد، فكما ينقل "روجر آلن" عن "جبرا إبراهيم جبرا"[8]، فإن الرواية تأخذ موضوعها الأساسي، وهو صراع الفرد مع قوة أكبر منه، من تقاليد التراجيديا، وتأخذ موضوعات مثل صدام الفرد والمجتمع، والخيانة، والفروسية… من الملحمة، ومن الدراما الحياتية تأخذ تصوير الوضعيات والعواطف، ومن الفن المسرحي تستعين بالحوار لتجسيد الشخصيات.
كل هذا يضع الرواية في نسبية تعريفية واسعة، جعلت الفيلسوف والمُنظِّر الأدبي الروسي "ميخائيل باختين" يُعرِّفها على أنها "الجنس الوحيد الذي هو في صيرورة ولا يزال غير مكتمل"، لذا "فإنها تعكس بعمق وجوهرية وحساسية أكثر، وبسرعة أكبر، تطوُّر الواقع نفسه"، مُعلِّلا ذلك بأن "وحده الذي يتطور يستطيع أن يفهم تطورا ما"[9]، فإن كان التنوُّع التعريفي لبعض الأمور يُنظَر إليه على أنه مأزق مؤرِّق، فإن هذا التنوُّع في شأن الرواية يُكسبها مرونة تحتاج إليها بقدر حاجة الحياة إليها.
"في البدء كان السرد"، هكذا يُرشدنا "الطيب بوعزة" إلى أصل الرواية؛ أصلها القديم الذي لا نلحظه في عام محدد أو عمل ما، بل إنها قصة الحياة المستمدة من أحداثها، فلو كان "ثمة جنس أدبي يبدأ في تكوين وعينا وتشكيل أسلوب إدراكنا لذواتنا وللوجود، منذ طفولتنا وبدء تفتح قدراتنا الذهنية، فلا شك أنه الرواية؛ إذ منذ الصغر يسكننا ذلك العشق الغريب لفعل السرد؛ فنلحّ على مَن يحيط بنا لكي يحكي ويسرد ويقصّ"[10].
فسؤالنا عن ماهية الرواية قد سحبنا إلى بحث حول تعريفها الأكاديمي، الذي يختلف ويتباين بين هذا وذاك، لكنّ هذا البحث قد يحملنا إلى تعريفها الوجداني الذي يشرحه "إيان وايت"[11] حين يقول إن خلال المئتي سنة الماضية، لم يجد غالبية القرّاء الشكل الأدبي الذي يُرضي رغباتهم مثل الرواية، لأنها الوجه الأقرب لتطابق الحياة والفن.
إن الرواية بهذا المفهوم صيغة من التعبير والتلقّي يستوعب بها الإنسان الحياة، وهو ما يوافقه "كونديرا"[12] حين يرى أن الرواية قد تساءلت مع "ثربانتيس" عما هي المغامرة، وبدأت مع "صموئيل ريتشاردسون" في فحص ما يدور في الداخل وفي الكشف عن الحياة السرية للمشاعر، واكتشفت مع "بالزاك" تجذُّر الإنسان في التاريخ"، وسبرت مع "فلوبير" أرضا كانت حتى ذلك الحين مجهولة، هي أرض الحياة اليومية، وعكفت مع "تولستوي" على تدخُّل اللا عقلاني في القرارات والسلوك البشري. إنها تستقصي الزمن: اللحظة الماضية التي لا يمكن القبض عليها مع "مارسيل بروست"، واللحظة الحاضرة التي قُبِض عليها مع "جيمس جويس".
فهكذا -كما يرى "بوعزة"[13]- تتعدد مداخل مقاربة الكينونة الإنسانية بفضل السرد الروائي على نحو يعلو على المقاربة الفلسفية المجردة، فإن كانت العقلانية الفلسفية -أي مؤلفاتها- تُحوِّل هذه الكينونة إلى رموز ومفاهيم أكاديمية، بما يفقد هذه الكينونة أهم خصائصها وهي الحياة، فإن الرواية تقارب الحياة بالحياة وتُعبِّر عن الإنسانية مع الحفاظ على نبضها وحيويتها في أحداث وشخوص وأزمنة وأماكن؛ لذا يمكننا الإجابة عن سؤال "لماذا الرواية؟" لنقول: لأنها الحياة.
يرى الأديب الفرنسي "ميشال بوتور"[14] أن الرواية شكل خاص من أشكال القصة، والقصة ظاهرة تتجاوز حقل الأدب؛ كونها أحد المقومات الأساسية لإدراكنا الحقيقة، فنحن محاطون بالقصص طوال حياتنا دون انقطاع، وهذه القصص تغمرنا من كل جانب؛ من تقاليد الأسرة، من أحاديثنا المتبادلة حول طاولة الطعام، في المدرسة، في اللقاءات، في المطالعات… غير أن الفارق بين الرواية والحقيقة -كما يُضيف- أن الرواية أكثر تشويقا، لا لشيء إلا لأنها تقوم بعمل مُركَّز، وتحمل أشخاصا يملؤون فراغا في الحقيقة ويوضّحونها لنا، سواء أكانت تلك الحقيقة فلسفية، أخلاقية، نفسية، اجتماعية، أم غير ذلك.
يخبرنا "بوتور" أن أشخاص الرواية سيلعبون هذا الدور بمنتهى البراعة، وسنتعرّف على هؤلاء الأشخاص في أصدقائنا ومعارفنا؛ ذلك لأن الرمزية الخارجية في الرواية تهدف إلى الانعكاس في رمزية داخلية، فما نقرؤه يحمل دلالات نعرفها في الحقيقة. تلك الرمزيات يمكنها أن تكون نفسية نقيس بها أنفسنا على شخصيات القصة، ويمكنها أن تكون فلسفية تحمل الكثير من الإسقاطات، فمزرعة حيوان "جوروج أوريل" لم تكن غريبة عنّا ولكنّها كشفت لنا أنفسنا في حضرة الاستبداد، وعمى "جوزيه ساراماغو" أخبرنا عما يُحتَمَل أن تكون عليه حياتنا إذا فقدنا إنسانيتنا وانحدرنا لمنزلة الحيوانات. تلك الرمزيات وهذه الإسقاطات كانت -ولا تزال- مألوفة بالنسبة إلينا في كُتب الفلسفة والتحليل النفسي، ولكنّها لا تكون حيّة بهذا القدر إلا في رواية ما.
في هذا السياق، يرى "كونديرا"[15] أنه إذا كان صحيحا أن الفلسفة والعلوم قد نسيا كينونة الإنسان؛ فإنه يظهر بوضوح أن فنًّا ما قد أخذ على عاتقه سبر هذا الكائن المنسي، وهنا تظهر قيمة السرد الروائي بقدرته على الإنصات إلى الكينونة والتعبير عنها، "إذ تكمن في تعويض هذا النقص الجوهري في المنظومة الثقافية الذي تسبّب فيه النسقان العلمي والفلسفي"[16].
تلك القدرة الفريدة التي تمتاز بها الرواية هي ما جعلت "بوتور" يقول إنه أصبح روائيا بالضرورة، ويشرح ذلك قائلا: "كنت أقوم بدراسات فلسفية، وفي هذه الأثناء نظمت قصائد عديدة… وكان شعري من نواحٍ كثيرة شعرا مُشوَّشا، بعيدا كل البُعد عن العقل، بينما كنت أود من خلال هذه القصائد إلقاء الضوء على بعض المواضيع الغامضة في الفلسفة… وجدتني أمام هذه الصعوبة تتفاعل في نفسي، فكيف السبيل إلى التوفيق بين الفلسفة والشعر؟ فظهرت لي الرواية كحل وحيد لهذه المشكلة الشخصية".
فالفلسفة، كما رأى "كونديرا"، تعرض أفكارها في فضاء تجريدي بلا شخصيات، فإن "بوعزة" يرى أن موقع الشخصيات في المتن الروائي محوري تماما كموقع المفاهيم في المتن الفلسفي، فإن كانت الفلسفة صناعة مفاهيم، فإن الرواية صناعة شخصيات. فلو كان البعض يرى في الرواية منبعا للتشويق والإثارة، فإن ثمة روايات فارقة في تاريخ الأدب، بالإضافة إلى قدرتها على التشويق، رأى "بوتور" أنها تمتلك قدرة على تغيير "الطريقة التي ننظر بها إلى العالم والأسلوب الذي نتكلم به عنه، وبالتالي تغيير العالم نفسه"[17].
هذا هو ما يمكن تسميته بحكمة السرد، باصطلاح "بوعزة"، الذي يُضيف: "كباحث في حقل الفلسفة، أعترف بأنني تعلمت، أحيانا كثيرة، من الرواية ما لم أتعلمه من كتب "اللوغوس"؛ بل اكتشفت أن مقاربة النفس البشرية، وإدراك تلافيف مشاعرها، وتعقد تركيبها لا يحتاج فقط إلى تنظيرات "فيلهلم فونت" و"فينشر" و"فرويد و"يونغ"…؛ بل ينبغي أيضا الإنصات إلى السرد الروائي، إلى "دوستويفسكي" و"غالب هلسا" و"صموئيل ريتشاردسون" و"ستندال" و"بروست"…"[18].
الأمر الذي يُعيدنا إلى سؤالنا الأول: هل تحمل الرواية هذا القدر من الأهمية بالفعل؟ ونصوغ إجابتنا من كل تلك الأقوال والرؤى، في نظم بسيط لا يحتاج إلى الكثير من الإسهاب، لنقول: يبدو أنها "نعم".
المصادر
1. غابرييل غارسيا ماركيز، كيف تكتب رواية؟
2. ميلان كونديرا، فن الرواية.
3. روجر آلَن، الرواية العربية.
4. ميخائيل باختين، الأسلوب الرسمي في الدراسة الأدبية.
5. الطيب بوعزة، ماهية الرواية.
6. الرواية.. محاولة في الطوبولوجيا، موسوعة أونفرساليس 2008.
7. واين بوث، البلاغة في الفن القصصي.
8. روجر آلَن، الرواية العربية.
9. ميخائيل باختين، الخطاب الروائي.
10. الطيب بوعزة، ماهية الرواية.
11. إيان وايت، ظهور الرواية.
12. ميلان كونديرا، فن الرواية.
13. الطيب بوعزة، ماهية الرواية.
14. ميشال بوتور، بحوث في الرواية الحديثة.
15. ميلان كونديرا، فن الرواية.
16. الطيب بوعزة، ماهية الرواية.
17. ميشال بوتور، بحوث في الرواية الحديثة.
18. الطيب بوعزة، ماهية الرواية.