أصدر الكاتب الروائي والناقد المغربي عبد النبي بزاز كتابه الجديد . وهو عبارة عن رواية تحت عنوان " هل سأعود يوما؟" (فصول من حياة مهاجر).
وتضع الرواية، التي تقع في 117 صفحة من الحجم المتوسط تتوزع على 7 فصول، القارئ في صلب تجاذب مستمر بين اليأس والأمل ، والخير والشر، والفقر والغنى . وذلك في سياق سوسيو- سياسي مضطرب لبطل الرواية "المختار" خلال طريقه الطويل والشاق للهجرة إلى الخارج. والذي تتعدد مطباته، وتتجدد إكراهاته لتنتصب عقبات كأداء أمام من يخوض في غمار العبور لضفافه.
الرواية جنس أدبي "غير مستقر وغير مكتمل وغير مغلق" يسعى بشكل جاد إلى تحطيم مطلقية اللّغة والتحرر من أحادية الرؤية ويفتح أبواب الممكن أمام المبدع، كما أنها عند ميخائيل باختين الروسي أدب شعبي وجنس سفلي ومتخلل، نابع من الأجناس الأدبية الدنيا. وهي كذلك تعبير عن الأوساط الشعبية والفئات البروليتارية الكادحة.
وهذا ما نجده حاضرا في رواية "هل سأعود يوما؟" لعبد النبي بزاز الذي اختار لها شخصية من قاع المجتمع، تعاني الفقر والعوز، لكن ذلك لم ينل من عزمها على تغيير ظروف حياتها رغم سل الإحباطات، فإرادته الحديدية مكنته من التغلب عليها، بيد أن ما يجب الانتباه له أن تلك الإرادة والرغبة الذاتيتين، ما كانا ليثمرا لولا الدعم الخارجي المتمثل أساسا في الأم والحاج العربي، وحسيبة الزوجة. ثلاثي مكن المختار من الترقي والصعود الاجتماعي والارتقاء المادي، دون أن نسيان صديق الرحلة ولمعلم و(التاشرون): مقاول البناء، كل هؤلاء شكلوا جبهة لمعاضدة المختار وتمكينه من تجاوز العقبات التي اعترضت سير نجاحه، وأركان المعرقل هم المسؤول العسكري المحبط، وموظف الإدارة، والعنصرية المقيتة، وبعض العمال في ديار المهجر.
يمكن اعتبار الرواية قصة نجاح، تنطبق عليها نظرية التطور والترقي؛ فالمختار كان في البداية ،عتالا، أي يحمل صناديق الخضر في سوق الجملة ثم صار، في نهاية العمل، مقاولا ناجحا، كون أسرة متضامنة، وثروة كبيرة. لكن ما حققه من نجاح باهر لم يكن في بلده الأصلي، بل في ديار المهجر؛ إذ لو بقي في وطنه ما كان ليتذوق طعم النجاح، ولبقي يعاني من مشاكل عدة، ولما خرج من القاع وسار صعدا باتجاه المجد. لقد تمكن الرجل من تحسين شروط وضعه المادي والوجودي، ونجح في تحقيق أحلامه حتى تلك التي نفختها زوجته فيه لما رأت إرادته الصلبة وإخلاصه وطيبته؛ فحسيبة هي ذاته الثانية بعد أن غابت أمه العامل المحفز والمساعد.
وقد اعتمدت في سردها على راو اعتمد ضميرين اثنين، المتكلم المفرد المشارك في الأحداث، والغائب العالم بأدق التفاصيل الداخلية والخارجية للشخصيات، وبهذه الطريقة نرى الأحداث من الأسفل والأعلى وكأننا أمام كاميرا تسجل أدق التفاصيل والأحداث. ولعل ذلك يقربها من السينما حيث نجد أنفسنا نتابع الأحداث وكأنها تمر أمام أعيننا.
يؤمن المبدع، من خلال أعماله ومنشوراته، بالكتابة الهادفة، ويسعى لبلورتها في عمله. فالاتجاه الواقعي يعد الأكثر ملاءمة للغايات العامة المسطرة لعمل فني يسعى لتغيير الواقع العفن، عن طريق فضحه وتعريته، كخطوة أساسية أولى على طريق توعية الناس بمخاطره ومشاكله.. كما أنه يسعى ، من خلال هذا الاختيار، إلى تمرير رسالة فكرية محددة ، بأيسر طرق التعبير الممكنة.
وقد اختار الكاتب، لتحقيق أكثر الحظوظ الضرورية لتحقيق تواصل ناجح مع القارئ، أبسط الأشكال التعبيرية وأنسبها بغاية توفير أكبر قدر من الوضوح الدلالي لخطابه، بعيدا عن كل مظاهر التعقيد والغموض اللذين، غالبا، ما يكتنفان بعض الأعمال القصصية الحديثة، ويحيطانها بحاجز سميك يحول بينها وبين القارئ، مع اعتماد كل الوسائل والتقنيات المتاحة له من منطلق ملاءمتها للأهداف الفكرية المحددة سلفا.. و قد راعى تجنب السقوط في الجانب الشعاراتي الإيديولوجي.. باعتماد تقنيات فنية كفيلة بتلطيف القصص من قبيل الاسترجاع، والحوار الداخلي، والحلم، وتنويع المشاهد، وتنويع أنواع الفعل واستثمار اللغة المحكية المعبرة عن الشخصيات ولا سيما الأمية منها.
إن الشكل، في المجموعة، كان أداة لخدمة المضمون، في انسجام وتوافق تامين بهدف إيصال الحدث الذي يتنامى بطيئا عبر المعمارية الفنية. فأحداث الرواية سارت بشكل متصاعد باتجاه النهاية السعيدة، اكتنفتها بعض المنعرجات بفضل تقنية الاسترجاع، إضافة إلى قضايا جمة، من قبيل التحقير، والإفشال، وحد الطموحات، والرشوة والمحسوبية، وتجاهل من بذل النفس والنفيس من أجل الوطن وحريته، والعنصرية المقيتة، وحسن الجوار مع الدول المحيطة، وخطر خبو الحنين إلى الوطن من طرف الأجيال التي ولدت بالمهجر وترعرعت هناك، إلى غير ذلك من الموضوعات ذات الارتباط، لكن، مقابل ذلك، عملت الرواية على بث روح الإباء والصمود، لبلوغ الأهداف، وتحقيق الأمنيات، فالإرادة المصنوعة من الصخر صحبة عوامل مشجعة، قادرة على تجاوز الصعاب، ودحر اليأس.
يقول عبيد لبروزيين في قراءته للرواية: لاشك أن الكاتب عبد النبي بزاز، برع في نقل معاناة الفقراء، بأسلوب كلاسيكي مشوق، ولغة سردية تنهل من الحكمة واللسان الدارج كما في قول السارد (دواير الزمان) ص 18، والأدب الشعبي «كانا يقضيان فيه عطلة الصيف ببيت والدهما في ضيافة الجدة التي لا تتوانى في إحاطتهما بعطفها وحنانها مشنفة مسامعهما بحكايات ظلت مشاهدها وعوالمها عالقة بمخيلتيهما، وأيضا الزيارة الوحيدة لبلد والدتهما وما حظيا به من عناية وحفاوة من عمة أمهما التي لم تبخل عليهما هي أيضا بحكايات تماهت مع حكايات الجدة في إثارة فضولهما...» ص 112
بالنسبة للشخصيتين الأساسيتين اللتين دعما المختار ليحقق مسارا ناجحا، نجد الرواية تقدم عنهما فكرة حتى لا يضيع المتلقي، وحتى لا تبقيان ضمن المجهول، فحين تم ذكر الحاج العربي، سارع السارد إلى تقديم نبذة عنه تبين نجاحه وعدم تنكره لجيرانه، فضلا عن أياديه البيضاء التي ساهمت في مساعدة الآخرين، فكان نعم الرجل. وحين تم ذكر حسيبة، سارع السارد إلى ذكر محاسنها الخلقية أساسا، وهكذا نجد أنفسنا أمام شخصيات قوية الحضور، كريمة العطاء، بخلاف الشخصيات المعيقة التي لم يتم الإشارة إليها إلا بشكل موجز أو بشكل عرضي دون ذكر ملامحها وخصائصها النفسية والبدنية. مثلا، المسؤول العسكري والموظف، تمت الإشارة إليهما بشكل سريع، أما العنصريين، فتمت الإشارة إليهم جمعا وبشكل عرضي، وكأنهم كتلة صماء لا ينبغي الوقوف عندها لقبحها وقبح ممارساتها، وضعف حسها الإنساني.
رواية " هل سأعود يوما؟" تدخل ضمن الكتابة الواقعية التي لا تسعى إلى تكرار الواقع بل تنشئه وفق قواعدها وبعدها الفني والإيديولوجي ، كتبت بلغة بسيطة لا تشكل عائقا في وجه المتلقي ، تخاطبه من دون أن تفرط في فنيتها أو تسف في الابتذال . رواية تؤكد إخلاص الروائي لأسلوبه السردي المشوق والمتميز. وهي عمل يستحق الإشادة والمتابعة.
عبد الرحيم التدلاوي ــ المغرب
ـــ الكتاب : هل سأعود يوما؟(رواية)
ـــ الكاتب : عبد النبي بزاز
ـــ المطبعة : سجلماسة ــ مكناس / طبعة ثانية 2019