في علاقة الأدب بالفلسفة ، تتلون المذاهب والتيارات الفكرية والسياسية . ومن خلالهما يكون حضور الفيلسوف والأديب قويا وفاعلا في بناء وعي جديد ، ينظر إلى الذات والمجتمع نظرة مغايرة للمألوف والطبيعي . فبناء المجتمع يمر عبر بناء الذات ، من خلال الصراع المتجدد بين النزعة الفردانية والنزعة الشمولية حسب الفيلسوف الفرنسي مانويل مونيي . إن القناعات الشخصية هي التي تخلق عالم التفرد و الحرية ، علاوة على الصلة التي تربطها الشخصية بالزمان والمكان ، فأي شغل لهذين الأخيرين هو بمثابة رسم حدود للذات في علاقتها بالغير .
من خلال ذلك ، هل شخصية المبدع تتحدد بالكتابة والإبداع ؟ أم أن هذا الأخير هو سجن للذات في بحثها الدؤوب عن التوازن في ضوء الغد المتجدد باستمرار .
بالموازاة مع ذلك ، يغدو التعبير عن الذات المبدعة ، في ظل تفاعلها اللامشروط مع الواقع ، أمرا بديهيا حيث يضئ عوالمَ جديدة ، ويرتاد ضفافا أثيلة من خلال ربط الفلسفة بالأدب . فالبحث عن الذات يمر عبر النظرية الشخصانية أو الإنسانية ، التي أرسى دعائمها مونيي ما بين الحربين الكونيين . وفيها إعادة الاعتبار إلى الإنسان وكرامته وقيمته المهدرة ، عبر تحديد أبعاد معاني الذات في العالم ، علاوة على ذلك يصبح الشخصُ له معان في الوجود .
فهذه النزعة الفردانية انتشرت في الأدب انتشار النار في الهشيم ، فلا تقوم قائمة الإبداع من دون مواجهة الذات الفاعلة لواقعها . فمبدأ الصراع حاضر في توليف بين زوايا الإبداع و مقارباته المختلفة للظاهرة الإنسانية ، وبفضل ذلك استطاع الإبداع أن يكسر حاجز الصمت ، ويبحث لنفسه عن الحرية ، نابذا العزلة ومتجاوزا الانغلاق . ومن هنا يأتينا الانفتاح في الإبداع كبلسم للجراح ، أو كومضة في نهاية النفق ، حيث يلغي حدودا وفواصلَ ، ويمد جسورا، في طريق تأسيس الفعل والحرية . بما هي تتخطى الحتمية التاريخية ، بهدف الدخول في نسق التغيير نحو واقع أفضل ومثالي .
إن الهمجية المقيتة ، التي عاشتها الإنسانية جراء بطش أرعنَ ، في الحربين الكونيين ، أسست مبادئ الإنصات إلى الذات في حلمها المتشظي ، وهيامها بالبوح للطبيعة والعالم ، والتغني بالألم و الأمل و الجراح و الموت أيضا . فمونيي كان يرى أنه من الواجب أن نعود إلى البعد الحياتي للإنسان ؛عودة إلى الصفاء والطهر على أساس أن يغدو التعامل هدفا وغاية من غايات الإنسانية الطموحة ، لا وسيلة لتحقيق الأغراض الشخصية والانتهازية المقيتة . وفي ذلك ، أصبحت الحرية التي يرنو إليها المبدع ، طريقا نحو التغيير ؛ نحو بوصلة الوجود ككل .
في شخصانية الفيلسوف الفرنسي إمانويل مونيي نجد امتدادها الشرعي داخل المغرب ، فما كان للفيلسوف محمد عزيز الحبابي ، إلا أن يتبنى هذا التوجه الجديد ، المنبثق في أوربا زمن الحرب ، والتي واجهت من خلاله جرائمَ الفاشية ؛ استبدادا ، قمعا ، اضطهادا وترحيلا قسريا . وبذلك يُعد الحبابي ، صانع الفكر المغربي ، وملهم الحرية الإبداعية في الثقافة المغربية والعربية على حد سواء . فضلا عن ذلك ، استطاع الحبابي أن يخرج الفلسفة الشخصانية من نطاقها الغربي الضيق ، إلى رحاب الفكر الممتد عبر رقعة العالم الإسلامي .
إن من بين أهم الانتقادات ، التي وجهها الحبابي إلى شخصانية مونيي أنها غير منفتحة على الاختلاف والتنوع ، إذ إن الحبابي في هذا المقام ، يعتبر هذين الأخيرين ـ أي الاختلاف والتنوع ـ شرط وجود الإنسان على هذه الأرض . ومن ثم انطلقت معه الشخصانية الإسلامية تتبلور في وضع جديد ، وتفسح المجال لمقاومة كل مظاهر الاستبداد والاضطهاد ، الذي يعاني منه العالم الإسلامي جراء حملات صليبية جديدة ، تحكم البلاد والعباد بالحديد والنار .
ففي الإنصات المرهف لإرث الفلسفة ، مع جهابذة الفكر الإسلامي انطلاقا من الإمام أحمد الغزالي في بغداد و نيسابور مرورا بابن رشد وابن عربي في الأندلس ، ووصولا إلى ابن خلدون في قرطاج والمغرب ، استطاع محمد عزيز الحبابي ، في رحلته الطويلة هاته ، من أن يصوغ فكرا جديدا يشع ضوؤه من داخل هيئة الكائن الإنساني . على اعتبار هذا الأخير جوهر الوجود ومركز الكون ؛ لأن الله تفضل بتكريمه في البر والبحر . ونتيجة لذلك ، سعى الإنسان إلى حمل رسالة الكون ، بعدما أبت السماوات والأرض والجبال على حملها وأشفقت منها . نظرا بما يتمتع به الإنسان من نعم ، و بها يتفوق على سائر مخلوقاته . فما العقل إلا تلك الطاقة ، التي لا تنفد ذخيرتها من أجل الوصول إلى أهداف وغايات ومرام ، تخلق من الإنسان إنسانا ؛ يحترم ذاته و يقدر الغير.
إننا من هذه الزاوية ، ننظر إلى محمد عزيز الحبابي ، نهاية القرن الماضي ، كصانع الفكر المغربي ، الذي امتد حضوره في الساحة الأدبية ، طيلة خمسة عقود . فبالرغم من ثقافته الفرنكوفونية ، حيث إنه خريج جامعة السوربون ، إلا أنه من أشد المنتقدين للفكر الفرنسي ، الذي يسعى خببا ليزين وجه فرنسا الاستعماري عبر العالم . وبذلك انضم إلى قائمة بأسماء المفكرين ، الذين ينتقدون السياسة الفرنسية عبر العالم ، أسوة بالمفكر والفيلسوف الوجودي جون بول سار والروائي ألبير كامو . فضلا عن نقده اللاذع الذي ما لبث يوجهه للفيلسوف و المفكر الفرنسي هنري برجسون ، بسبب اختلافه مع هذا الأخير حول مفهوم الحرية . فأيا كانت الأسباب والمسببات ، التي تدعو إلى هذا الشرخ في مواقفَ ومبادئ و قناعات ، فإن ما يدافع عنه محمد عزيز الحبابي ، في نظر المهتمين والباحثين ، كان منطقيا و مقبولا ، خصوصا وأن مفهوم الحرية لم يرتبط ، عبر التاريخ الأنساني بالأفراد ؛ وإنما التصق شديدا بالأمم والشعوب .
ففي مجمل أعمال محمد عزيز الحبابي الفكرية والإبداعية ، لاحظ الباحثون أنها مرت عبر مراحل البنينة ، بمعنى أنها خاضعة للبناء و النسقية ، وموجهة بشكل مضبوط نحو الهدف و الغاية . علاوة على ذلك ، يأتي تأويل التراث الإسلامي عاملا أساسيا ، ومحفزا للمزيد من فهم الشخصية الإسلامية ، والخروج بها من سجن الاتهامات المجانية ، التي تخدش صورة الإسلام في الغرب . وبهذا دافع الحبابي على الإبداع الواقعي ، الذي يرسم الوجه الحقيقي للمعاناة ، بهدف نيل الحرية ، التي لا تقدر بثمن . وفي هذا الصدد كان الإهداءُ في روايته " جيل الظمأ " موجها نحو أجيال العالم الثالث ، حيث يقول فيه ـ أي الإهداء ـ :
" إلى أجيال العالم الثالث الظامئة ، إلى الحب والحرية ، في صراعها من أجل أنسنة جديدة للعالم " .
وبذلك ، صار محمد عزيز الحبابي رمزا للمثقف الذي يحاور الغد ، على أساس من العدالة والحرية ، خصوصا وأن العالم الثالث ذاق الويلات من الاستعمار و مجاهله وسراديبه المدلهمة . وما كان الإبداع ، عند محمد عزيز الحبابي ، إلا مطية نحو التعبير الصادق عن قناعات ومواقفَ في دثار فني لا يخلو من إمتاع وصور بيانية ، وهذا ما تحصل من خلال إبداعاته الأدبية الشعرية والروائية ؛ بدءا ب" بؤس وضياء " و " يتيم تحت الصفر " ، وانتهاء ب" جيل الظمأ " و" إكسير الحياة " .