ملاحظة في صورة الغلاف والعناوين
رواسب: هي مجموعة قصصية لمؤلفها عصام العيون مكونة من عشر قصص كما صنفها الناشر، تقدم المجموعة وتذيل بفقرة عنونها الكاتب ومضة، وهي عبارة عن إضاءة لما ستتضمنه المجموعة وكأنها تقييد مسبق للقارء، حتى لا يشطح بفكره هنا أو هناك.
يقول الكاتب: "...تفاصيل لبعض مظاهر حياتنا او ما ندعي اعتقاده ...في حياتنا اليومية بين ما نمارسه وما نرسمه من لوحات مشوهة على صفحاتنا..".لوحة الغلاف:
عبارة عن صورة فتوغرافية واقعية، أخذت من داخل مكان مهجور يعلوه التراب والإهمال، يتضمن عتبة خشبية عبارة عن إطار لباب خشبي قديم مصنوع بطريقة يدوية غير متقنة، مما جعل مسامير عديدة مغروسة وبادية دون تنسيق، وكأن صانعها لا يرغب في التجمل أو الاتقان وإنما يطلب أدنى مستويات الحماية من الخارج. هذا الباب وإن كان مفتوحا على الخارج فإنه لا يقدم أي معلومات عنه، فقط وهج قوي يمنع تدفق أي خبر عما يقع خارج هذا المكان المهجور.
يدل المكان عموما على العوز دون أدني إشارة للاكتفاء أو الرفاهية، زاوية التقاط الصورة تجعل الرؤية مستحيلة، الأصل في الأبواب والنوافذ إعطاء معلومات أو تحقيق تواصل بين داخل المكان وخارجه، لكن تفاصيل الصورة تحول قطعا دون تحقيق الغرض.
يحيل النور في العادة إلى الوضوح والشفافية، لكنه هنا يفيد النقيض مما يدل على التعتيم، والإطار الخشبي يدل على التقيد والعيش داخل إطار معين، قد يقصد به الإطار الاجتماعي أو الإطار النفسي.
العنوان:
اختار الكاتب عنوان رواسب لمجموعته القصصية، رواسب: جمع للفظ راسب من الجدر اللغوي ر-س- ب، أو الفعل رسب / ترسب، وهو ما تجمع بعد سيل جارف أو ما استقر في قعر الكأس من شوائب، كلحظة ركود تتراكم فيها كل المخلفات التي كانت في لحظة حركة وتفاعل سابقة.
قد تدل الرواسب على نهاية، أو قد تكون مجالا خصبا لبداية وحلقة في دورة الحياة المتجددة.
يحيل لفظ راسب مفرد رواسب على الحقل التعليمي أي استقرار متعلم في مستوى دراسي وعدم تمكنه من الانتقال الى مستوى آخر.
فرضية لملاحظة العنوان وصورة الغلاف:
من خلال صورة الغلاف والعنوان نفترض أن المجموعة القصصية تحيل على لحظات الاستقرار: هو استقرار غير طوعي أو اختياري وإنما نتيجة الانغمار في مسار مفروض، لا مجال للاختيار فيه أو الإرادة، فقط استسلام كلي لتفاصيل الحياة وحركاتها المستمرة والدائبة وانكفاء على الذات.
قراءة في عناوين القصص:
تتضمن المجموعة عشر قصص عنونها الكاتب كالآتي: همهمات محروم، حب افتراضي، حذاء المعلم، ضيافة ثقيلة، محراب الخبز، بدايات محبطة، الرفيق، أوان البَوْح، الوباء، الكنز.
إذا أردنا تصنيف هذه العبارات نجدها تحيل على حقل سلبي يتمثل في الإحباط والحرمان وغياب الحب الواقعي وتعويضه بحب افتراضي، وإن كان الحب الواقعي إحساس يتجاوز الأعماق نحو التطبيق الواقعي والاعلان والترجمة الفعلية، فان الحب الافتراضي مناط بالخيال والكتمان وقابلية التأويل والتأرجح بين الممكن وغير الممكن في جدلية غير محسومة.
- همهمات محروم: الهمهمة نقيظ البوح والافصاح تعبير غير لغوي عن الغضب والتذمر.
- بدايات محبطة: الأصل في البداية أنها أمل وترقب لكنها بالنسبة للكاتب محبطة، وهي صيغة مجازية لإيراد الفاعل، فلسيت البداية محبطة وانما هذا إحساس ذاتي يخص البطل، فهو من يجوز عليه هذا الوصف، فالبداية مجرد وقت، شيء غير عاقل، قيمة مجردة عن المبادرة.
- أوان البوح: عنوان ملآن بالتردد، فليس للبوح أوان أو موسم خاص أو طقوس خاصة، انما لحظة تصالح وتعبير عن مكنونات الذات، الخوف من الرفض هو ما يجعلنا نخطط له ونجهز له مناخا.
- الوباء: كارثة صحية تعم الجميع دون تصنيف أو تمييز، بتفاصيل مأساوية ودرامية.
- الكنز: في تراثنا الشعبي هبة أسطورية، وضربة حظ لا تتأتى للجميع، غرضه تغير حياتهم عن طريق صدفة، مع غياب الصراعات الواقعية والعملية لتحسين ظروف العيش أو تحقيق ثروة، وفي تأويلات أخرى قد يدل الكنز على الصحة أو راحة البال أو أي قيمة معنوية غير قابلة للتقييم المادي.
- الرفيق: الأصل فيه الرفقة والتونس، لكنه رفيق متطفل على خلوة البطل وإن كان وسط الجمع، فقد قطع حبل شروده وفرض عليه الجلوس كما فرض عليه بعض عاداته كالتدخين أو اختلافه في الرأي.
قراءة في مضامين المجموعة:
تتلخص مضامين القصص في تقديم الحياة من منظور بطلها وهو رجل في منتصف أو نهاية الثلاثينات من العمر، لكنه يحس كهولة لا تناسب عمره، مقيد داخل حلقة من الأحداث العشوائية والتفاصيل الساخرة، في قالب يتأرجح بين الكوميديا والسوداوية. وفي إطار صراع خفي بين ما يؤمن به من مبادئ، وبين الواجب والرغبات المعلقة. وصراع بين ما يختلج مشاعره من حيوية وحب جارف طفولي للحياة، وبين ما يفرضه عليه خوفه من كتمان. وبالتالي فأنه يحس ضغطا هائلا، الحاجز الوحيد لا يوجد إلا في تركيبته الذهنية وما رسمه عما يجب أن يكون عليه الرجل من صفات مثل: الحزم والوقار والوجه العبوس.
قراءة في الشخصيات:
للمجموعة بطل واحد وإن تعددت المواقف، هو رجل شاب في ثلاثينيات العمر، متزوج، لم يرد ذكر اسمه ولا اسما لزوجه لولا وصف واحد أطلقه على نفسه "محروم" من باب التعميم أو التعتيم، يخاف التصريح عن مشاعره لأنه يخالها تتضارب مع فكرة الوقار الذي يريد أن يظهر به أمام نفسه وأمام الناس. يشك في صحة مبادئه لكنه مصر على اتباعها خوفا من التغيير.
كل الشخصيات الأخرى هي شخصيات معارضة، تتضارب مع البطل من حيث المبادئ أو الأهداف مما يحول دون تحقيقه الرغبة: سواء المادية او المعنوية أو العاطفية.
الزوجة ذكرت مرارا دون تعيين اسم أو وصف لها، ذكرت كشخصية مزعجة ومتدمرة طوال الوقت، الأغلب أنها أيضا تعيش صراعا كبيرا فهي غير قادرة على تحقيق موضوع الرغبة المتمثل في: وضع اجتماعي أفضل، وتقدير واهتمام إضافي من زوجها بدل انشغاله عنها بالكتابة والتذمر. لكن تركيز البطل على نفسه وانكفائه حولها يحول دون رؤية واضحة ومحايدة لهذه الشخصية أو حتى التعاطف معها.
التلاميذ شخصيات غير معينة أيضا، ولكنها تمثل إحساس البطل بصراع الأجيال والقيم، وتعكس إحساسه بالعزلة الاجتماعية داخل عصر متحرك: المال فيه أغلى قيمة من الشعارات الإنسانية.
هناك شخصية وحيدة لم يذكر لها اسم كالبقية، وهي فتاة في مقتبل العمر تشع حياة وأنوثة ودلالا، ترمز الى الحياة الخصبة والحيوية التي يتمنى أن يعيشها البطل دون تكلف أو التردد، لكنه لا يستطيع خوض التجربة لخوفه من الرفض.
هناك امرأة أخرى وهي حب افتراضي متناقض بين التوقع والحقيقة، تعبر عن الزيف الاجتماعي الذي تقدمه وسائل التواصل التي تعتمد على المظاهر الكاذبة.
ترمز الشخصيات الرجالية في النصوص الى صراع المبادئ والمكانة الاجتماعية وتحقيق السلطة وسط الجماعة، وهو صراع ذكوري قديم وغير بائد أبد الظهر.
وترمز الشخصيات النسائية إلى الصراع الذاتي عند البطل بين ما يعيشه من واقع وما يحلم به ويتمناه.
المكان والزمان في النصوص:
أغلب الأمكنة الموجودة في النص هي فضاءات مغلقة محاطة بجدران: الفصل الدراسي، المنزل، المقهى، القطار، غرفة المشفى..
يحيط البطل نفسه دائما بالجدران وحتى في المرة الوحيدة التي ذكر فيها الشارع المفتوح في نص الوباء، سرعان ما استقل سيارة أجرة وانتقل من الفضاء المفتوح نحو فضاء مغلق.
لم يكن الفضاء مفتوحا تماما إلا عند حديثه عن الفتاة (الحلم)، وصفها بلغة تصويرية كمشهد بالعرض البطيء منتقلا من الرأس نحو وصف الوجه، ثم القد، ثم المشية، ولهذا المقطع في نظري دلالة واضحة ورمزية عن الحياة المشرقة والمتجددة والفرص المفتوحة والتحرر اللحظي من أي قيود، لولا أن قيود الخوف بددت المشهد الرومنسي نحو واقعية جافة وبائسة.
الزمان في النصوص أزمنة واقعية تتضارب بين ثنائية الليل والنهار، الماضي والحاضر والمستقبل، مع إحساس دائم بنفاذ الوقت أو عدم مناسبته للموقف.
لغة النص:
كتبت النصوص بأسلوب بسيط بلا تعقيدات لغوية وبطابع واقعي متجرد تماما من الخيال اللغوي(الاستعارة)، لولا مقاطع من اللغة التصويرية ومقاطع من الحوار الثنائي، أما الحوار الذاتي فهو أغلب. كما يغلب على النص ضمير المتكلم باستثناء قصة أوان البوح كتبت بضمير الغائب.
مسار السرد:
هو مراحل تطور الحدث الدرامي (الهدوء- البداية، لحظة التوتر-الصراع الدرامي، الهدوء-النهاية)، تتمثل البداية لحظة اكتشاف الحدث، وتأثيث الفضاء والسياق الدرامي (الانشغال بالكتابة أو التدريس أو الانتظار في المقهى، قراءة كتاب في عربة القطار، أو التجول في المدينة زمن الوباء، أو مرور الفتاة الحلم في الشارع وقرار البوح، انتظار طبق البصارة...) لحظة التوتر والصراع الدرامي مثلا: (تذمر الزوجة وعدم القدرة على التركيز في الكتابة، اكتشاف الصراع الإيديولوجي بين المدرس والمتعلمين، اكتشاف أن الفتاة التي تعرف عليها عبر مواقع التواصل تختلف تماما عن توقعاته، تخوفه البوح بمشاعره للفتاة الحلم خوفا من الرفض، عدم قدرته على تذوق طبق البصارة لأن هناك من التهمها كاملة) ثم العودة الى لحظة الهدوء مع اكتشاف عدم القدرة على التعايش مع الواقع أو التغلب عليه مع الإحساس بالإحباط في كل تجربة.
خلاصة:
رواسب مجموعة قصصية تدخل في إطار القصة القصيرة، التي تتميز بوحدة الموضوع وقلة الشخصيات والتركيز على شخصية البطل، بالإضافة الى باقي العناصر مثل: الزمان والمكان وتعدد مسار السرد بين كل قصة وأخرى، الذي يتمثل في الأغلب في لحظات سكون وهدوء، ثم لحظات الصراع، وكل الصراعات في مسار السرد هي صراعات نفسية أو ذاتية، ثم العودة الى لحظات السكون، وليست في الحقيقة سوى استسلام البطل في كل مرة الى ضغوطات الواقع، أغلب الشخصيات معارضة مما يجعل البطل يعيش عزلة اجتماعية ونفسية مع رغبة تحرر دون القيام بأي محاولة لذلك.